عبير بركات / هناء إسماعيل - التّجليات الجماليّة للقبيح في قصص زكريّا تامر.. السّلطة أنموذجاً

المقدّمة:
يتجلّى القبيح – في قصص زكريّا تامر – في مجالات متعدّدة، وهي على تعدّدها تغني تجربته الإبداعية، التي تحرص على تقديم ما هو إشكالي ومفارق، في مستويي الشّكل والمضمون.
وإذ يتوضّح القبيح الإشكالي مع الأنموذج السّلطوي أكثر من غيره، فإنّ البحث يسعى إلى الكشف عن براعة القاصّ في تطويع المادّة القصصيّة لإمكاناته التعبيريّة الخلاقة، في تعريته أبعاد القبيح السلطوي ممثّلة بالدّين، والجنس، والسّياسة، التي دعا القاصّ إلى الاجتراء عليها، كمحظورات تعمل على تقزيم الإنسان، وعلى منعه أخذ دوره الصّحيح في الحياة.
على أنّ البحث، مع ذلك، يركّز في دراسته التّشكيل الجمالي على الأنموذج السّياسي دون غيره، نظراً لأنّ معادله الفنّي أغنى من سواه في تجربة الكاتب الإبداعيّة، ولأنّه الموضوع الأكثر إغراء له من سواه.

أهمية البحث وأهدافه:
وبما أنّ البحث يهدف إلى جلاء دور المبدع في إعادة تشكيل الواقع جماليّاً - عبر قدرته على تطويع مفردات اللغة، والتقنّيات المختلفة، بإعادة توظيفها بما يحقق القصد الفنّي - فإنّه لم يعتمد النّماذج القصصيّة ذات اللغة الشّعريّة المتألّقة لدى القاصّ، وإنّما اختار في دراسته الخطاب والصورة السّلطويّين لغةً عاديةً في أغلب الأحيان، ليشير من خلالها إلى شعريّة الحدث التي تعمل بالمقابل على خلق المسافة الجماليّة بين الواقع والفنّ، رغم ما قد توحيه القراءة الأولى للنّماذج المختارة من المصادقة على الواقع، سواء أكان ذلك عبر المنطوق السّلطوي أم عبر ما تقدّم من مشاهد سلطويّة.
والبحث يعتمد الدّراسة النصيّة التحليليّة، متّكئاً في ذلك على المنهج الجمالي، مع استفادته من بعض المناهج الأخرى، رغبة في تحليل أعمق للنّصوص، يمكن من خلاله القبض على جماليّا ت جديدة لفعل القصّ، ترفد التّجربة الإبداعيّة للقاصّ في غناها و تنوّعها،

في المنظور الجمالي للقبيح:
إنّ النظر إلى القبح في الفنّ، يعني النظر إلى مقولة إشكاليّة تأخّر الاعتراف بشرعيّة حضورها والإقرار بأهمّيتها إلى العصر الحديث ذلك أنّ العودة إلى تاريخ الفنّ تكشف عن الفجوة الواسعة بين النظرة الإبداعية إلى القبح، و النظرة النقدية له، فبينما التقط المبدعون موضوعات الواقع بحساسيّة خاصّة، وقف النقّاد موقفاً رافضاً ومعارضاً لها، لاعتبارات أخلاقيّة جعلت الدور التربوي للفنّ مشروطاً بالانسجام مع المثل الأعلى الذي تحدّده الشروط الزمانيّة، والمكانيّة، والحضاريّة لكلّ بلد.
على أنّ ذلك لم يعدم وجود بعض الاستثناءات التي تنبّه فيها فلاسفة الفنّ إلى أهميّة التفريق بين القبح في الواقع، وتمثيله الجمالي في الفنّ، وهو الموقف الذي تبنّاه أرسطو بإشارته إلى أهميّة إتقان الصنعة في أي عمل فنيّ، بغضّ النظر عن موضوعه في الواقع حتى لو كان قبيحاً منفّراً ( حمّودة، 1999).
والواقع أنّ الاهتمام الحديث بالقبح، كمقولة هامّة وأساسيّة من مقولات علم الجمال، جاء لاعتبارات فنيّة خاصّة، فهو يشكّل،كما يقول فكتور هيجو، دافعاً قويّاً للفنّ، غنيّاً بالملامح والتعابير إلى درجة يفوق فيها ما يمكن لأنموذج الجميل أن يقدّمه ( هيغو، 1994).
وأمّا شارل لالو فهو يؤكّد ضرورة التفريق بين ما هو جميل في الواقع، وما هو كائن في الفنّ. يقول:" قد تكون صورة امرأة جميلة جدّاً لوحة قبيحة جدّاً، وقد تكون صورة امرأة أكثر من قبيحة تحفة فنيّة رائعة " .
والجدير ذكره أنّ الانتباه إلى أهميّة القبح في الفن قد أعاد النظر في الكيفيّة التي يتمّ من خلالها الوعي بأهميّة الدور التربوي له، إذ لم يعد مشروطاً بتقديم المثل الأعلى، وإنّما أخذ يحتفي بالموضوعات القبيحة والمنفّرة لما لها من دور في خلق ردّة فعل عكسيّة، قوامها الرفض والبحث عن واقع بديل، وهو ما أشار إليه عدد كبير من الباحثين.
يرى بلنسكي – حسب كتاب علم الجمال للدكتور نايف بلّوز- في أنموذج القبيح سبيلاً إلى إدانته، وحافزاً للاحتجاج على ما في العالم من ظلم ( بلّوز، 1983)، أمّا ولتر. ت. ستيس فهو يرى في كتابه (معنى الجمال) أنّ القبح يخلق شعوراً عامّاً بالاستياء، إضافة إلى ما يحقّقه من المتعة الجماليّة (ستيس، 2000).
ويلفت جيروم ستولينتز- في كتابه النقد الفنّي- الانتباه إلى أنّ الاهتمام بالقبح في الفنّ لا يعني تجميله، وإنّما تعريته، والتأكيد عليه ممّا يجعله أكثر حيويّة في إثارة المتلقّي، وفي توليد شعور الرفض لديه (ستولينتز، 1981). وهو يشير في معرض دفاعه عن بودلير الذي حوكم بسبب ديوانه ( أزهار الشرّ ) إلى أنّ القبح أقوى أثراً في إدانة الشر والخطيئة ممّا يمكن أن تقدّمه المواعظ، والخطب الأخرى. يقول:
" كلّ ما أراده كان (...) التعبير عن نفوره من الخطيئة والرذيلة التي يتعرّض لها الإنسان، وحزنه على البؤس الذي تؤدّي إليه وضاعته".
وهكذا نرى أنّ اختلاف الباحثين حول أهميّة القبح في الفنّ لم ينف- مع ذلك – اتفاقهم حول ضرورته اللازمة لإغناء التجربة الإبداعيّة الجديدة، وهو ما وجدنا أصداءه في عالم زكريّا تامر القصصي الذي لم يعمد فيه إلى التغنّي بأخلاقيّات الإنسان البسيط، ولا التفجّع عليه بقدر ما عرّى مرتكزات القبح عنده ممثّلة بالسلطات المختلفة، ودورها في إعادة صنع الإنسان على شاكلتها، ممّا يمكن أن نلقي ضوءاً عليه في المحور التالي.

القبيح السلطوي في قصص زكريّا تامر:
يتعدّد القبيح السلطوي في قصص( زكريّا تامر ) وهو- بأشكاله المختلفة- يعمل على تقزيم الشخصيّة القصصيّة وتشويهها من الداخل. على أنّ النظر إلى شكل العلاقة بين الطرفين يضع في الاعتبار تطوّر الرؤية الإبداعيّة للكاتب بين تجربتيه القديمة والجديدة. فبعد انقطاع دام ستة عشر عاماً عن إصدار المجاميع القصصيّة تظهر لنا تلك الشخصيّات وقد تخففت من ثقل السلطة، ومن قسوة المواجهة معها، فتماهت مع قيم المتسلّطين، وتماشت مع ممارساتهم إلى درجة أحالت الاستلاب الواقع عليها من قبل السلطة من مستواه الظاهر إلى مستواه الباطن. ذلك أنّ التماهي بالمتسلّط شرط من شروط المجتمع المتحوّل قيميّاً، فهو كما يقول د. مصطفى حجازي:
" أحد أهمّ المظاهر البارزة في سعي الإنسان المقهور لحلّ مأزقه الوجودي، والتخفّف من انعدام الشعور بالأمن " .
وفي الأعمال الأولى لزكريّا تامر يحاصر الفرد الصغير بالسلطات المختلفة بدءاً من السلطة الدكتاتوريّة للأب في المنزل، كما في قصص: ( ثلج آخر الليل، البدوي، وجه القمر، عرس شرقي. . . )، وانتهاء بسلطة الدولة ممثلة برجال الشرطة، والمحقّقين، والقضاة، كما في قصص:( السجن، المتّهم، الذي أحرق السفن، مغامرتي الأخيرة، الجريمة. . . إلخ). وهذه السلطات المدعّمة على أرض الواقع بقوّة الأخلاق، والدين، والقانون
( ياسين،1999)، لاتترك له فرصة التعبير عن ذاته، إذ هو عاجز عن مواجهتها في الواقع، الأمر الذي يلجئه إلى أحلام اليقظة كسبيل إلى إعادة توازنه المفقود، وذلك بخلاف ما ظهر عليه في الأعمال الجديدة التي كشفت عن شكل من أشكال المصالحة الضمنيّة بين الطرفين. فالانحلال القيمي لم يوفّر أحداً، لا على مستوى علاقة الأفراد بعضهم ببعض ضمن الأسرة الواحدة، كما في قصص: ( العائلة المقدّسة، النائمات، رجال، الغيث)، ولا على مستوى العلاقات الاجتماعيّة بما فيها الجامعة، والمشفى، كما في قصص: ( رجل لامرأة واحدة، ستّون سنة، المشجب، العروس ) وما سوى ذلك، فالزيف، والنفاق، والوصوليّة سمات الأفراد الطامحين إلى العيش بما يتناسب وقيم المجتمع الجديد الذي لم يعد يقيم وزناً لأيّة قيمة كانت، وهو ما توضّح أكثر ما يكون في أنموذج المرأة عنده. إذ صارت إلى إعلان رغباتها الجنسيّة بشكل صارخ مدعّمة بلا مبالاة الأسرة حيناً، وقبولها حيناً آخر إلى درجة أفقدت الرّجل أحلامه القديمة بالتواصل معها، بل زادت على ذلك أن دفعته - في قصص مختلفة- إلى الشعور بالإخصاء تجاهها، أو حتى الهرب منها. ولعلّ في القصّة رقم(9) من مجموعته (تكسير ركب) خير دليل على ذلك.
والواقع أنّ هذا الانزياح على مستوى الرؤية الإبداعيّة للفرد والعالم، والموقف الإيديولوجي منهما قد انعكس بدوره انزياحاً على مستوى التمثيل الفنيّ أيضاً، وهو ما نحاول مقاربته في دراستنا التشكيل الجمالي للقبيح السلطوي في نماذج مختارة بين قديمه القصصي وجديده أيضاً.

التشكيل الجمالي للقبيح السلطوي:
قلنا: إنّ ثمّة اختلافاً بين قديم زكريّا تامر القصصي وجديده، وإن كان لم يصل إلى درجة القطيعة المطلقة، نظراً لاستمرار بعض الموضوعات والتقنيّات السابقة في نسيجه القصصي الجديد.
على أنّ نظرة نسبيّة إلى ذلك التطوّر توحي بغلبة الانزياح الجمالي أيضاً في معالجة تلك الموضوعات. إذ تخلّى القاصّ في مجموعاته الجديدة عن لغته الشعريّة الأثيرة التي وسمت أعماله القديمة، وكانت وراء تألّق لغة القصّ لديه. فجديده التقني لا يرقى فنيّاً إلى مستوى ما حقّقه في قصّه القديم، وإن كان- على المستوى الدلالي- قد صار أكثر استبصاراً بالواقع، وأعمق وعياً بسيكولوجيا الإنسان المعاصر.
فمقابل التكثيف الشعري لتجربة الإنسان المسحوق، المغلوب على أمره أمام قوى القهر الاقتصادي والاجتماعي، والسياسي- في الأعمال الأولى- غلب الحوار في الأعمال الثانية إلى درجة كاد يتزيّد فيها على النصوص، برغم كون اختياره كتقنيّة أساسيّة في الأعمال الجديدة يتناسب والتحوّل القيمي الواضح للشخصيّات القصصيّة. إذ لم يعد هناك مسوّغ لاستبطان عالمها الداخلي، نظراً لكون انفعالها أمام الواقع ينطلق من إعلانها صراحة المصالحة معه، وبالتالي فإنّ النظر إليها يكاد يتعادل مع النظر إلى السلطة نفسها، بمتابعة منطوقها السلطوي، وشكل ممارساتها غير السويّة. على اعتبار أنّ العلاقة معها هي علاقة مع الخارج، وليس مع الداخل، وهذا ما يشكّل حلقة الوصل الأكثر بروزاً بين قديمه التقني و جديده.
ولمّا كنّا بصدد متابعة جماليّة القبيح السلطوي في قصص زكريّا تامر كلّها، فإنّنا سنحاول مقاربة ذلك عبر النظر إلى التقنيّات الأبرز في تعريته بالشكل الأدعى إلى إدانته، والأقوى أثراً في خلق فعل التنفير لدى المتلقّي.
ونشير إلى أنّ اجتنابنا الخوض في دراسة التقنيّات الأخرى، لم يكن بدافع التبخيس لقيمتها الفنيّة، وإنّما لكون البحث يضيق عن استيعابها كلّها، إضافة إلى كون بعضها قد درس بشكل مستفيض لدى باحثين آخرين، مثل تقنيّات اللامعقول، والكابوس، وكسر أفق التوقّعات، إضافة إلى ما درسه النقّاد من الجانب العبثي في قصص زكريّا تامر.
وإذا كان الحوار في الأعمال الجديدة قد أساء في كثير من القصص إلى سيرورتها الجماليّة، بإسرافه اللفظي المتزيّد على النصّ، وإبطائه للحدث، فإنّ ذلك لم يمنع من النظر إلى القصص من زوايا أخرى من شأنها أن تحقّق الأثر المطلوب، وهو ما أفادته تقنيّة ( التناص ) من تكثيف للبعد الدلالي للظلم الواقع على الإنسان من قبل السلطة أيّاً كانت.
وتجدر الإشارة هنا أنّه في مقابل الإسراف اللفظي للقصص التي تناولت موضوع السلطة، فإنّ ثمّة قصصاً أخرى قامت على الاقتصاد اللفظي، على أنّه ليس من نوع التكثيف الشعري، وإنّما السردي، القائم على الحذف الزمني، وهو ما خصّ به الإنسان المتحوّل قيميّاً أكثر ممّا خصّ به السلطة، كما في قصص: ( الشهادة، امرأة جميلة، الثوب العتيق)، وقصص أخرى كالقصص ذوات الأرقام:( 1،2،3،9...)، وغيرها من مجموعته ( تكسير ركب ) التي تبدو الأبرز في شهادتها على التحوّل القيمي للمجتمع.
ونشير هنا إلى أنّ هذه القصص قد أظهرت الشخصيّات المتحوّلة من خلال منطوقها، وممارساتها أيضاً دون استبطان لعالمها الداخلي، على خلاف ما كان في الأعمال القديمة التي لعبت فيها تقنيّتا الاسترجاع والاستباق دوراً هامّاً في الكشف عن أعماق الشخصيّة المسحوقة، للوقوف على رغباتها، وأحلامها، وردود فعلها أمام الواقع، ومن ثمّ تعبيرها عن رفضها الظلم الواقع عليها، وإن جاء في أضعف حالاته.
إنّ دراسة القبيح السلطوي في قصص زكريّا تامر يتجلّى أكثر ما يكون في شكله السياسي. ذلك أنّ المواجهة معها تختلف درجة عن المواجهة مع سواها من أشكال السلطات الأخرى، فدكتاتوريّة الأب في المنزل لم تمنع من بروز صوت الابن الذي عبّر عن نفسه علانيّة، فأظهر رغباته رغم ما آل إليه ذلك الإعلان من قمع نهائي حال دون تحقيقها، وكذلك الحال مع سلطة ربّ العمل، والمجتمع، والدّين.
على أنّ المواجهة مع رجال الشرطة، والمحقّقين، والقضاة أخذت شكلاً آخر صار إلى إلغاء صوت الفرد المسحوق، وبالتالي إلى إيذائه جسديّاً ونفسيّاً، وهو ما لم يسجّل لغيرها من أنواع السلطات الأخرى. ممّا يظهر جليّاً من خلال الخطاب والمشهد السلطويين اللذين يتقدّمان معاً – في الأعمال كاملة- بالشكل نفسه تقريباً الذي تعرى فيه السلطة بنفسها، جنباً إلى جنب مع الأحكام التي تطلقها عليها الشخصيّات القصصيّة بما يحقّق القصد الجمالي في إدانتها بحثاً عن بديل جمالي للواقع القبيح.


_ الخطاب السلطوي:
ليست الكلمة السلطويّة كغيرها من الكلمات. إنّ لها تاريخاً قارّاً ضمن منظومة اللغة، سواء ما تعلّق منها بالمستوى الإيصالي البحت، أم ما تجاوز ذلك إلى الألق الفنيّ الخاصّ للأعمال الإبداعيّة، فإذا كان الأدب هو: "مؤلّف من كلمات، وليس من موضوعات، أو مشاعر " . - كما يقول تيري إيغلتون- فإنّ لنا أن نستدل على دور الكلمة السلطويّة في الكشف عن معاني العسف، والجور، والتعالي على الآخرين في قصص زكريّا تامر. إذ تبرز من خلال وقائع الاستجوابات، أو الاتّهامات المتكرّرة والمتشابهة في أغلب الأحيان، التي تفقد السلطة معها منطق الإقناع، أو الحجّة البيّنة، حتى ليغدو الحوار معها أشبه بلعبة دراميّة أتقنتها لفرض مزيد من الإذلال على الشخصيّة الإنسانيّة التي تقع على الطرف النقيض معها، الأمر الذي يحدث حالاً من العداء مع الكلمة، إذ تغدو أكثر خنقاً من حبل المشنقة، وأوقع على الرقاب من حدّ السيف. فالكلمة السلطويّة تفرض إرادتها القاهرة على الإنسان المجرّد من حقّ الدفاع المشروع عن نفسه، نظراً لأنّها تمتاح قوّتها، و سلطانها من السلطة نفسها التي صدرت عنها، واتحدت معها. يقول ميخائيل باختين في علاقة الكلمة بالسلطة:
" الكلمة السلطويّة تقتضي منّا الاعتراف والاستيعاب، فهي مفروضة علينا بغضّ النظر عن درجة إقناعيّتها الداخليّة بالنسبة إلينا. إذ نجدها مسبقاً متّحدة بممثل سلطة ما(...) إنّها أشبه بالتّابو، الاسم الذي لايجوز التفوّه به سدى" .
إنّ الكلمة السلطويّة، بالمعنى الذي حاولنا مقاربته،تظهر في الكثير من قصص زكريّا تامر، وبشكل خاصّ في مجموعات: (ربيع في الرماد، الرعد، النمور في اليوم العاشر، نداء نوح ) في قصص مثل: ( الجريمة، النهر، السجن، الصقر، النمور في اليوم العاشر، اليوم الأخير للوسواس الخنّاس، عبد الله بن المقفّع الثالث،...إلخ)، ففي قصّة (الجريمة) يستحضر زكريّا تامر أنموذجه الفنيّ ( سليمان الحلبي ) من التاريخ القريب، ليفضح من خلاله تشوّه المعايير الوطنيّة المعاصرة، وانقلاب الثورة على نفسها عبر المكاتب البيروقراطيّة التي تلجأ إلى تخوين كلّ حرّ، وإلصاق شتى التهم المتعسّفة به، كشكل من أشكال المكابرة والتغاضي عن خيانتها قضيّتها، وسقوطها في رهان النهوض الثوري بالواقع، وقد كان من صميم مسؤوليّتها:
"ونفث الرجل الأسود دخان سيجارته، وتابعه بنظراته بينما كان يتلوّى صاعداً في جوّ الغرفة، ثمّ يتلاشى بتكاسل، وقال لسليمان:
- هل سمعت ما قيل؟ الأدلة على جريمتك ثابتة.
- لم أعترف بشيء.
- اعترافك ليس مهمّاً، لقد اعترف غيرك بذنبك.
- أنا بريء.
فتجهّم وجه الرجل الأسود، وقال بصوت بارد قاس:
-لماذا ولدت ما دمت بريئاً ؟ جئت إلى هذا العالم كي تهلك، وستهلك دون احتجاج. أنت مجرم، وكنّا نراقبك منذ أمد طويل، فالناس المشبوهون نعرفهم بسرعة، ولا يستطيعون خداعنا " .
والجدير ملاحظته إثر قراءة المشاهد الحواريّة، التي يتبدّى من خلالها منطوق السلطة عارياً، صارخاً في قصص زكريّا تامر، أنّه لايمكن أن نمرّ مرور الكرام بهذا الحوار على اعتبار أنّ المقابلة بين المنطوقين: منطوق السلطة، ومنطوق المتسلّط عليهم، هي وحدها الكفيلة بإثارة التوتّر الدرامي الذي من شأن الحوار أن يخلقه، نظراً لافتراق المواقع التي يصدر عنها كلّ طرف، ذلك أنّ للكلمات في هذه المشاهد الحواريّة – مفردة، أم داخل السياق الحواري- دلالتها الواضحة التي من شأنها أن تبرهن على ما وقفنا عنده من سمات القمع، والتجبّر، والتعالي، والهيمنة. ممّا لايفسح مجالاً للشخصيّة الأخرى أن تعبّر عن نفسها، إذ يبقى صوتها، وإن نطقت، غير مسموع، أو لنقل، ملغىً في مواجهته صوت السلطة.
ففي المشهد السابق يتوزّع منطوق السلطة بين الإنشاء والخبر، موهماً بأنّ ثمّة تعادلاً بين الأسلوبين: الإنشائي الأحادي التعبير، والخبري القابل للتصديق أو التكذيب، كما يوهم بتعادل المواقع بين الطرفين المتحاورين. على أنّ عبارات مثل: ( اعترافك ليس مهمّاً )، ( جئت إلى هذا العالم كي تهلك)، ( ستهلك دون احتجاج )، ( أنت مجرم )، وعبارات شبيهة متوزّعة في قصص أخرى من شأنها أن تكشف زيف ديمقراطيّة مكاتب الاستجواب، كما من شأنها أن تدلّ على خطأ الثبت القانوني، الذي يتلخّص في كون المتّهم بريئاً حتى تثبت إدانته. فالحكم هنا يسبق الاستجواب، واعتراف الشخصيّة، أو عدم اعترافها، الذي يعدّ في مثل هذه الأحوال سيّد الأدلّة، ليس بذي قيمة في ظلّ النظم البيروقراطيّة. ومن هنا ينزاح الشكل الإنشائي للكلام سياقيّاً إلى الشكل الآخر الخبري مستدعياً حالاً من التسليم والانقياد لأولي الأمر قولاً وفعلاً. ساعد على ذلك استخدام الكاتب ضمير المخاطب الذي يوحي بالمباشرة، وبشيء من ارتفاع نبرة الخطاب سلطويّاً: ( أنت مجرم ).
وأما العبارات فتأخذ هي أيضاً - ضمن المشهد الحواري - بعداً زمنيّاً، يتوزّع على الماضي، والحاضر، والمستقبل. فإذا كان الماضي ملكاً للفرد قبل ولوجه العالم الحقيقي: ( جئت )، فإنّ مجرّد دخوله في هذا العالم يستدعي راهنيّة هلاكه: ( جئت إلى هذا العالم كي تهلك )، وذلك على اعتبار أنّ الزمن الحاضر يخلع عليه ما يريد من القيم، التي هي هنا سلبيّة في أبشع صورها: ( أنت مجرم )، كما يقتضي هيمنة أخرى على الزمن، فلا يكتفي بالحاضر، وإنّما يتعدّاه إلى المستقبل أيضاً. إذ إرادة السلطة تقرّر هلاكه في المستقبل، بشكل يأخذ بعداً ميتافيزيقيّاً كونيّاً يتجلّى في:
1- معرفة الغيب، والمستقبل: ( ستهلك ).
2- رسم ملامح أحداثه بشكل قدري، لا يستطاع الوقوف بمجابهته، أو ردّه، أو حتى الاحتجاج عليه: (وستهلك دون احتجاج ).
والواقع أنّ الوقوف على دلالات الكلمة- مفردة كانت أم داخل سياقها – أمر ليس بالسهولة التي نظنّ، وبخاصّة إذا عرفنا أنّ الكلمة السلطويّة من التحجّر بمكان لايستطاع معها رصد أشكال أسلوبيّة أخرى، أو الوقوف على أشكال متنوّعة من الأسلبة التي من شأنها أن تغني معرفتنا بالموضوع، ولأجل ذلك فهي لا تصوّر وإنّما تنقل كما هي، الأمر الذي يسوّغ حضورها الواضح في الحوار أكثر ممّا هي عليه في السرد بالمعنى الحرفي (بختين،1988).
ولا يخلو الخطاب السلطوي، البارز عبر المشهد الحواري، من الميل إلى الطرافة في استدعاء منطوق السلطة، وتعريته عبر سخريّة مبطّنة من منطقها الهشّ، تكشف عن هرطقتها، وعدم إقناعها كسلطة تتّخذ من أتفه الأسباب وسيلة لإنجاز محاكمة صوريّة، هي مقصدها، ومبتغاها. ففي قصّة (الإعدام )- على سبيل المثال لا الحصر- تتمثّل السلطة بشخص الحارس الليلي الموكل بحماية جثّة عمر المختار، المتدلّية من حبل المشنقة. وعلى الرّغم من أنّ الحارس الليلي هو أبسط أشكال السلطة نظراً لأنّه مأمور من قبل سلطة أعلى، فإنّه بالمقابل يتقمّص أسلوبها، ولغتها، عبر محاكمة صوريّة يعقدها لدمية في يد طفل صغير، مطلقاً حكم الإعدام عليها، كمعادل موضوعي لإعدام عمر المختار في إشارة – ولو من بعيد – إلى إرادة السلطة في إعادة صنع الشخصيّة الإنسانيّة على شاكلتها، وبما يخدم قرارها:
" وقطّب جبينه، وقال للدمية: أنت يا بنت متّهمة ب...لقد نسيت التفكير بالتهمة. حسناً. .أنت متّهمة بارتكاب جريمة، سأنبئك بها فيما بعد. فهيّا اعترفي، ولا تحاولي خداعي، فأنا أتقن إطلاق النار. أنت لاتريدين الكلام؟ افعلي ما يحلو لك، ولكنّك ستدفعين ثمن تحدّيك للمحكمة " .
وإذ يتوجّه الحارس الليلي إلى الدمية بالتهم التي تقود إلى إعدامها، فإنّ صمتها الطبيعي كدمية، يعادل الصوت الكتيم للضحيّة أمام سلطة تجاهر باعتقالها لأسباب تجهلها، ولا تدرك أبعادها. وإنّ صمتها – في هذا المشهد – هو بمثابة إتمام للمشهد السابق في قصّة (الجريمة)، في رسم موقف الضعف الإنساني مقابل صوت السلطة، طالما أنّ صوته في الحالتين معاً لا يصل إلى أذن واحدة صاغية، وإن وصل فإنّه يصار إلى تجاهله، وتهميش وقعه بشكل قصدي، ممّا يحقّق أحاديّة الصوت القمعي المفروض على الضحيّة، شاءت ذلك أم لم تشأ.
إنّ الخطاب السلطوي ليبلغ في قصص أخرى درجة الإلغاء الكلّيّ لأي خطاب آخر كان بالإمكان أن يصدر عمّن هم أدنى، وهو لا يحول دون بروز ذلك الصوت – على ضعفه – وحسب، وإنّما يعمل على إعادة تشكيل ذاكرة المتسلّط عليهم، وصياغة وعيهم بمنطوقه أو سلوكه، ممّا يهيّئ الحال للاستسلام للأمر الواقع، دون أن تبدو عليهم أيّة مؤشّرات من شأنها أن تعبّر عن الرفض – ولو كان ضمنيّاً - وهو أبسط حالات الرفض، ففي المقطع القصصي( سهرة في المخفر ) من قصّة ( بعض ما جرى لنا ) – على سبيل المثال لا الحصر – يتكرّر صوت ممثّل السلطة إحدى عشرة مرّة متتالية دون انقطاع، دون أن يقف صوت واحد ليعبّر عن موقفه ممّا يقال، أو حتى ليعلّق على الكلام، وما شابه ذلك. وبرغم أنّ ما يقوله ممثّل السلطة لا يمتّ بشكل مباشر إلى الطرف الآخر بصلة – على اعتبار أنّ ما يقوله هو في عموم الوقائع – فإنّه يمكن القبض على وقع الخطاب السلطوي من تلك الهيمنة السرديّة الواضحة، ومن تكراره عبارات، أو كلمات مفردة تشكّل لازمة يفتتح بها مقاطعه كتكراره للمرّات الإحدى عشرة العبارة التالية: ( وقال لنا رئيس المخفر: وقبضنا على). إذ لم تكن الغاية إعلامنا بما قاله رئيس المخفر على الإطلاق، بقدر ما هي الرغبة في التأكيد على سلطة القول أوّلاً، ثمّ سلطة الفعل ثانياً. إذ له القول، ولهم الإنصات التامّ، كما أنّ له الفعل، ولهم الاستجابة الفوريّة لإرادته. ولعلّ في هذا الجزء من المقطع ما يشير إلى بعض ملامح ذلك الخطاب السلطوي:
" وقال لنا رئيس المخفر: وقبضنا على رجل متزوّج من عشر زوجات، ويعامل كلّ زوجة بوصفها دكّاناً مطلوباً منها كلّ يوم أن تربح.
وقال لنا رئيس المخفر: وقبضنا على ثلاثة رجال كانوا يحاولون هدم مسجد.
وقال لنا رئيس المخفر: وقبضنا على فتاة صغيرة، جميلة، مختصّة بإغواء الأتقياء من الشيوخ.
وقال لنا رئيس المخفر: وقبضنا على شابّ يصنع القنابل، ويوزّعها مجّاناً على الراغبين فيها.
وقال لنا رئيس المخفر: وقبضنا على امرأة عجوز، هوايتها ضرب جيرانها.
وقال لنا رئيس المخفر: وقبضنا على كلب يتعمّد النباح في آخر الليل كي يجعل نوم الناس قصيراً.
فأصغينا بخشوع إلى أقوال رئيس المخفر، وتوسّلت دماؤنا المرتجفة إلى الليل أن يسارع إلى الرحيل، ولكنّه لم يأبه لها، فبقينا في مخفر الشرطة، ولم تنتهِ السهرة " .

المشهد السلطوي:
ينهض المشهد السلطوي- الذي يتقدّم في قصص زكريّا تامر عبر كثافة مشاهد المباغتات، والاعتقالات- في مقابل الخطاب السلطوي الذي توضّح آنفاً، ليكملا معاً رسم الصورة التي يسعى القاصّ من خلالها إلى تبئير ملامح السلطة، في احتوائها لمن هم أدنى منها، وإحكام سيطرتها عليهم. وهو يتجلّى في عالم زكريّا تامر القصصي عبر تنوّع تقني واضح، يلعب دوره في الإشارة إلى البعد السلطوي مفرداً أو داخلاً في نسيج التقنيّات الأخرى لتعرى السلطة في أبشع صورها، وفيما يلي عرض لما قدّمته بعض تلك التقنيّات ومنها:
1- تقنيّة الوصف:
إذا كانت الدراسات الحديثة – كما يصرّح د. حميد لحمداني – قد تحوّلت في دراستها مفهوم الشخصيّة الحكائيّة إلى: " الأعمال التي تقوم بها أكثر من الاهتمام بصفتها، ومظاهرها الخارجيّة " ، فإنّ الوقوف عند الشخصيّة السلطويّة في قصص زكريّا تامر، وتبئير ممارساتها، لا يتجاهل – مع ذلك – الوصف الخارجي لها، ذلك أنّه يبدو على قلّته عنصراً لافتاً لشكل حضورها العدائي. إذ مجرّد ظهورها في المشهد القصصي يوحي بما يمكن أن تعانيه الشخصيّة الأخرى المتسلّط عليها من شعور الخوف وعدم الارتياح. فممثّلو السلطة هم رجال الشرطة، والمحقّقون، والقضاة الذين يقدّمهم القاصّ عبر الوصف الواقعي مرّة والمجازي مرّة أخرى، وهم يتصدّرون المشهد القصصي بهيئاتهم الصارمة، ووجوههم المتجهّمة التي تهيّئ المتلقّي لترقّب وقوع أمر ما رهيب.
وهم متشابهو الملامح في القصص التي رصدهم فيها، وفي هذا إشارة إلى الوجه السلطوي، الوجه المحدّد المعالم، القاسي، والمخيف، الذي لايتغيّر أبداً. تماماً كما عبّروا في منطوقهم سابقاً عن لغة واحدة باردة، وقاسية، هي لغة القمع، وإلغاء الآخر. إذ ملامحهم تتحدّد بالثبات ممّا لا يترك مجالاً لأي تصوّر آخر بإمكانيّة تغيير هذا الوجه، وهو ما يذكّرنا بما أسماه توماشفسكي: " مميّزات الشخصيّة الحكائيّة " خاصّة وأنّ هذا الوصف يتّبع عنده بممارسات لا إنسانيّة، تترجم ما يمكن أن يتوقّعه القارئ من تصعيد الموقف الدرامي للحال التي يرصدها. يقول توماشفسكي: " يعتبر تقديم الشخصيّات – وهي نوع من الدعائم الحيّة لمختلف الحوافز - نسقاً شائعاً لتجميع هذه الأخيرة، وربطها. إنّ إلصاق حافز معيّن بشخصيّة معيّنة يسهّل عمليّة انتباه القارئ، كما أنّ الشخصيّة تقوم بدور خيط مرشد، يسمح بالاسترشاد بين ركام الحوافز، وبدوره وسيلة متباعدة لتصنيف الحوافز المختلفة، وتنظيمها " .
إنّ الوصف الواقعي لرجال الشرطة في قصّة ( النهر ) – على سبيل المثال لا الحصر – يلعب دور المحفّز لاستنفار الشخصيّة القصصيّة غير المتكافئ في مواجهة السلطة، إذ يقترب رجال الشرطة: " وأيديهم على مقابض مسدساتهم المتدلّية من خصورهم " ، بما يوحي بتضاؤل الشخصيّة الأخرى نظراً لعدم قدرتها على المواجهة، ولشعورها بضعفها كفرد أعزل في مواجهة جماعة مسلّحة تختلف معها في طبيعتها، وفي تكوينها النفسي. فعمر السعدي الشاعري، الذي يتأمّل النهر برومانسيّة، لا يشبه في شي ء رجال الشرطة الذين تحلّقوا حوله بوجوههم القاسية، المتجهّمة: " واستدار عمر السعدي ليواجه أربعة وجوه متجهّمة " .
والقاصّ لا يكتفي بإثارة مشاعر الرهبة والتوجّس، إثر التقديم البصري لرجال الشرطة وحسب، وإنّما يتجاوز ذلك إلى رصد ما يمكن أن تقدّمه حاسة السمع من تصعيد لتوتّر الشخصيّة النفسي، وشعورها بالتوجّس، والافتقاد إلى الطمأنينة حتى قبل أن تتواجه مع ممثّل السلطة. فعمر السعدي يحسّ بالرّعب لمجرّد سماعه وقع ارتطام حذاء الحارس بأرض الممرّ الصلدة أمام باب زنزانته:
" وكان يحسّ أنّ دمه طفل ينتحب، لحظة يتناهى إليه ارتطام حذاء الحارس بأرض الممرّ الصلدة " .
إنّ لوقع الحذاء دوره البيّن في تصعيد حدّة التوتّر الدرامي وتناميه عند البطل الذي تتجاوز ردّة فعله مجرّد الإحساس بالخوف إلى التعبير الظاهر عنه في الهرب، وفي طلب الأمان في زاوية الزنزانة، بما لا يعود عليه إلاّ بمزيد من الخوف: " وبلغ مسمعه وقع حذاء ثقيل يدنو من باب الزنزانة، فهرع نحو فراشه، وجلس فوقه، وتجمّد متضائلاً، يغمره خوف غريب، وتفاقم خوفه حتى تحوّل إلى ألم يرعش اللحم، والعظم " .
فحذاء الحارس الذي يصفه القاص بأنّه ثقيل، شكّل من هذا المنظور حافزاً سوّغ انقلاب البطل من حال التوازن إلى عدم التوازن، الذي توضّح من خلال توالي الأفعال المعطوف بعضها على بعض، ممّا سرّع في تنامي الحدث، وتجلّي الأزمة التي يعيشها. ففي مقابل الجملة الطويلة التي وظّفها القاصّ لوقع حذاء الحارس الثقيل أمام باب الزنزانة – التي يشير بطؤها إلى التماسك، والثقة بالنفس – جاء العطف بالجمل القصيرة ليوحي باضطراب الشخصيّة، وفقدانها طمأنينتها إثر سماع وقع الحذاء، وهو ما أفادته فاء السببيّة والواو في الجمل التالية المعطوف بعضها على بعض: ( فهرع نحو فراشه، وجلس فوقه، وتجمّد).
وهو إذ يعمد إلى تبئير واقع العنف، فإنّه يلجأ إلى تقنيّة الكاميرا التي ترتكز- كما يقول د. صلاح فضل- على توظيف الباصرة (فضل،1992)، وذلك باعتبارها رؤية من الخارج توفّر ما من شأنه أن يحيط بمشاهد الاعتقالات، والممارسات العنيفة. ففي قصّة ( الذي أحرق السفن) - وتحديداً مشهد الاعتقال – يبدأ الحدث مباشرة بظهور رجال الشرطة العابسي الوجوه، بل إنّ ظهورهم بالشكل الرهيب ـ الذي عبّر عن رؤية أولى للمشهد الحركي – يسبق ظهور الشخصيّة المراد اعتقالها، تماماً كما أنّ منطوقهم يسبق منطوقها، في تدليل واضح على أنّ احتواء السلطة للمعتقلين على مستوى المشهد الفني الحركي، هو معادل لاحتوائهم على مستوى الفاعليّة، وبالتالي هيمنة الأوّل منهما على الثاني، الذي ترجم أوّلاً: باللهجة العدائيّة، الفظّة، وثانياً: بالممارسات العنيفة، وهذا ما توضّحه المفارقة التالية في المشهد الحركي التالي:
" الأشجار الخضر في الشارع كفّت عن الغناء لحظة تحلّق عدد من رجال الشرطة المتجهّمي الوجوه، حول رجل يمشي على الرصيف سيفاً هرماً، رمحاً متعباً، آن له أن يخلد إلى الراحة بعد انتصاره في آلاف المعارك.
وابتدره واحد منهم قائلاً له بلهجة عدائيّة، فظّة: أعطنا هويّتك(...) فقطّب طارق بن زياد جبينه، بينما كان الدم المتدفّق في شرايينه رعداً شرساً، غير أنّه لم يكد يهمّ باستئناف سيره حتى طوّقه رجال الشرطة، وأمسكوا به، فحاول الإفلات من أيديهم، فبادروا يضربونه بقسوة، وتشفٍ حتى أرغموه على الكفّ عن المقاومة، وتهاوى أرضاً يغمره الخجل، والدم " .
ويلعب المجاز دوره في تقديم الشخصيّة السلطويّة أيضاً. فهو ينهض في مقابل الوصف الواقعي، لا ليكشف عن المعالم الخارجيّة للسلطة، وإنّما ليعمّق الوعي بالسلوك غير السوي لممثليها، منطلقاً- في ذلك- من الأحكام القيميّة التي يطلقها الراوي المتعاطف مع المتسلّط عليه، أو البطل الواقع عليه فعل التسلّط، كما هي الحال مع (سليمان الحلبي) في قصّة ( الجريمة ) – على سبيل المثال لا الحصر- وفي هذه القصّة يلجأ القاصّ إلى المجاز المرسل، متكئاً في ذلك على تقنيّة الألوان، عبر المقابلة بين اللونين الأسود والأبيض، في إشارة إلى البعد النفسي للشخصيّة السلطويّة، الممثّلة بالمحقّق، الذي يملي إرادته على صفحات بيضاء، كإشارة دالّة، إلى كون السلطة إرادة تشويه، وقبح قسري للعالم النظيف. فالمحقّق ذو الشاربين الأسودين يصبح من وجهة نظر البطل سليمان الحلبي: (الرجلَ الأسود)، ممّا يشير إلى أنّ هذا الانزياح من الجزء إلى الكلّ – الذي حقّقه هنا المجاز المرسل – هو انزياح دال، أيضا،ً من مستوى الشكل الخارجي للسلطة إلى الباطن النفسي، كما هو مفهوم من السياق، ومن تبنّي الراوي الخفي هذا الحكم الذي أطلقه بطل القصّة نفسه، إذ نجد هذا الحكم القيمي الذي أطلقه سليمان الحلبي على المحقّق يتصدّر المساحات المخصّصة لحوار الأخير، وكأنّه صار اسماً له،وعلامة عليه، ممّا يقرّب المجاز المرسل من الكناية:
" وكان يجلس في الغرفة رجل ذو شارب أسود، أمامه مكتب حديدي تكوّمت على سطحه أكداس من الورق الأبيض، وقال سليمان لنفسه: هذا رجل أسود. وقال الرجل الأسود متسائلاً: هل أنت سليمان الحلبي ؟ (...) وتناول الرجل الأسود ورقة بيضاء موضوعة على المكتب، وطفق يقرأ برتابة وكسل (...) وتوقّف الرجل الأسود عن القراءة(...) وتساءل الرجل الأسود مخاطباً سليمان: هل هذا صحيح ؟ (...) فالتفت الرجل الأسود نحو الرجلين، وقال لهما: أحضرا الشهود. .." .
2- المفارقة اللفظيّة:
يلجأ زكريّا تامر إلى المفارقة اللفظيّة أيضاً، نظراً لما تفيده من معنى مزدوج، وبعيد المرمى في الدلالة على شكل حضور السلطة، وذلك لما توفّره من تسهيل عمليّة التلقّي على القارئ قياساً بالمجاز المرسل الذي لا تبتعد عنه كثيراً كما يقول د. خالد سليمان(سليمان،1999).
ولعلّ قصّة (السجن) من مجموعة ( الرعد) خير ما يحقّق لهذه المفارقة جهوزيّتها في التعبير عن المعنى المزدوج لممثّل السلطة، فالقاضي الذي مثل أمامه مصطفى الشامي: ( وديع الابتسامة )، وقد ضحك: ( مسروراً ثمّ نطق حكمه )، ومصطفى اقتيد إلى أرض: ( فسيحة خضراء )، الأمر الذي يوهم بتحقّق العدالة. على أنّ الأمر ليس كذلك، فمصطفى قد صرخ: ( كحيوان )، وكانت عيناه: ( طفلين مذبوحي العنق )، ممّا يعطي للعبارات دلالتها النقيضة تماماً، بما يرسّخ الوعي بحقيقة الشرّ، وافتقاد الحياة إلى النوايا الطيّبة:
" وكان مصطفى الشامي قد مثل آنئذ أمام قاضٍ وديع الابتسامة (...) وقد وجّه إليه تهمة الفرار، ولم يجد مصطفى ما يردّ به عليه سوى أنّ القبر مكان غير صالح للإنسان، فضحك القاضي مسروراً ثمّ نطق حكمه، وبعدئذ انقضّ الرجال البيض الثياب على مصطفى، واقتادوه إلى أرض فسيحة خضراء، وهناك أنبئ أنّه سيشتغل في بناء القصور، فلم يفه بكلمة، ولم يطلق صرخة استغاثة، وتوسّل، إنّما التفت فيما حوله كحيوان سمع انصفاق باب القفص، وكانت عيناه طفلين مذبوحي العنق " .
3- التناص:
يلعب التناصّ دوره - في قصص زكريّا تامر- في إذكاء الدلالة الشعريّة التي يسعى القاصّ إلى توليدها، سواء أتعلّق الأمر باستدعاء الشخصيّات التراثيّة، أو كان ذلك في استدعاء النصوص المختلفة، بغضّ النظر عن الخلاف حول المقصود بالتناصّ، إذ هو مصطلح إشكالي لم يتفق النقّاد حوله، على أنّ خير من قدّمه للنقد الحديث- كما يقول د.صلاح فضل- هي جوليا كريستيفا، التي تقول:
" إنّ الدلالة الشعريّة تحيل إلى معاني القول المختلفة، ومن حسن الحظّ أنّنا يمكن أن نقرأ أقوالاً متعدّدة في الخطاب الشعري نفسه، وبهذا يتخلّق حول الدلالة الشعريّة فضاء نصّي متعدّد الأبعاد، يمكن لعناصره أن تتطابق مع النصّ الشعري المتعيّن، ولنطلق على هذا الفضاء اسم التناصّ، ومن هذا المنظور يتّضح أنّ الدلالة الشعريّة لا يمكن أن تعتبر رهينة شفرة وحيدة، بل تتقاطع فيها عدّة شفرات لا تقلّ عن اثنتين، وكلّ منهما ينفي الآخر(...) فإنتاج النصّ الشعري يتمّ من خلال حركة مركّبة، من إثبات ونفي نصوص أخرى" .
إنّ التناصّ الذي برز كتقنيّة واضحة الدلالة منذ الأعمال الأولى لزكريّا تامر- باستحضاره الرموز التاريخيّة البطوليّة منها كطارق بن زياد، أو سليمان الحلبي، والإجراميّة كتيمورلنك، أو جنكيز خان. ..إلخ- قد كان له دوره البارز أيضاً في تعميق الوعي بلا جدوى الحوار، أو المواجهة مع السلطات، ذلك أنها تصوغ التاريخ بالشكل الذي تراه مناسباً، وبالتالي لا فرق في أثناء المواجهة معها بين رمز وآخر.
والتناص، الذي برز في أعماله القديمة ضمن نسيج اللغة الشعريّة المتألّقة، فقدَ- في جديده القصصي- ذلك الألق اللغوي، فتألّق بما حقّقه من شعرية الحدث، لأنّه هو بالمقابل خرق للعادة اللغويّة( مفتاح, 1985)، مثلما شكّلت اللغة الشعريّة خرقاً منظماً يرتكب بحقّ الكلام الاعتيادي (إيغلتون،1995)، وهو في الأعمال الجديدة ليس حكراً على الموضوع السياسي وحده، وإنّما غدا شاهداً على سلطة الواقع القبيح في مناحي الحياة المختلفة: من عجز الإنسان أمام التحوّلات القيميّة إلى صدمته أمام تتفيه العقل العربي الجديد، وهدم ثقافته الأصيلة. على أنّ للموضوع السياسي حضوره الخاصّ في الإشارة إلى مدى العسف الذي تمارسه السلطات تجاه من لا حول لهم ولا قوّة. ففي قصّة
( اليوم الأخير للوسواس الخنّاس ) ينسج زكريّا تامر فضاءه القصصي بين الواقعي المعيش، والميتافيزيقي الغائب باستحضاره رمزاً دينيّاً سلبيّاً هو إبليس، وذلك بعد أن أفرز جملة من المرتكزات الواقعيّة مثل: ( مخفر الشرطة، الاستجواب، القاضي، الشهود)، فالقصّة تدخل في فضائها المتعالي على النصّ، ما إن يكشف النقاب عن الشخصيّة المعتقلة، فالمعتقل هو إبليس المتلبس بجرم ادّعاء الفقر، والإيحاء بلا إنسانيّة السلطة " اعتقل إبليس زهاء الساعة السابعة صباحاً، بينما كان يهمّ بركوب الباص المتّجه إلى خارج المدينة، حيث منطقة المعامل، وكان متنكّراً آنذاك في هيئة عامل فقير، متعب، زري الثياب، يداه خشنتان، متشققتان، ووجهه مملوء بالتجاعيد " .
على أنّ استدعاء هذه الشخصيّة الميتافيزيقيّة، وتوظيفها في فضاء النصّ لا يأخذ بعده الدلالي في الإشارة إلى عسف السلطات من خلال مشهد الاعتقال وحده، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان هناك فرق في كون المعتقل إبليس، أو أيّاً كان من الشخصيّات الأخرى حقيقيّة كانت أم تخييليّة، وبالتالي لا أهميّة لتناصّ الأسماء كذلك ما لم يدعّم بتناصّ الحادثة، ونقصد هنا: ( حادثة عصيان إبليس أمر الله تعالى، ورفضه السجود لآدم عليه السّلام ).
والتناصّ مع القرآن الكريم يبدأ من العنوان مباشرة، وهو بداية يحقّق استجابة المتلقّي بالتعاطف مع فكرة نهاية الوسواس الخنّاس، إذ في القرآن الكريم ما يحرّض على نبذه، واعتباره عدوّ الإنسان الأوّل، ومحرّضه على الكفر, والعصيان. على أنّ الوقوف على أحداث القصّة يعمل على قلب هذه الاستجابة إلى نقيضها، فإبليس مذلّ مهان، إبليس لا حول له ولا قوّة، إبليس مستسلم لأولي الأمر، لا يقوى على المواجهة.ممّا يدفعنا إلى الإحساس بالمفارقة، ومن ثمّ يحضّنا على العودة إلى مطالعة صورته في القرآن الكريم للوقوف على دقائق هذه المفارقة، فقد وردت صورته في سور مختلفة، في آيات كريمة بعضها قصير في إشارته إلى الحادثة، وبعضها طويل مثل:
( البقرة، 34/ الأعراف،11/ الحجر،28-43/ الإسراء، 61-65/ الكهف، 50/طه، 116/ ص، 71-85 )
ففي سورة (ص) – على سبيل المثال لا الحصر – جاء قوله تعالى في الإشارة إلى حادثة العصيان من الآية رقم(71) وحتى الآية رقم(85) ما يلي: " وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشراً من طين، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلّّهم أجمعون، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين، قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ أستكبرت أم كنت من العالين، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فاخرج منها فإنّك رجيم، وإنّ عليك لعنتي إلى يوم الدين، قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنّك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم، قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلَصين، قال فالحقّ والحقّ أقول، لأملأنّ جهنّم منك وممّن تبعك منهم أجمعين" .
إنّ الوقوف على إشارات النصوص الكريمة مختلفة من شأنها أن تمدّنا بصورة إبليس الحقيقيّة كما صوّرها الله تعالى، فهو متكبّر، كافر، مفارق للجماعة- الملائكة الذين كان منهم- برفضه السجود لآدم، كما انّه يحسّ بامتيازه على آدم فهو مخلوق من مارج من نار، وآدم من صلصال من حمأ مسنون، كما أنّه يحسن الحوار، ويمتلك الإرادة، والشجاعة للتعبير عن رأيه، واتّخاذ موقفه الخاص الذي يلائم قناعته، إذ عصى أمر الله تعالى برغم إدراكه أنّه لا مفرّ من عقاب الله، وأنّه عاجز في نهاية المطاف عن تحدّي إرادته، فالله جلّ جلاله - و إن أخّره إلى أجل مسمّى – فإنّه مع ذلك سيملأ جهنّم منه، ومن أتباعه أجمعين.
وهنا لنقف على صورة الناس الذين اتبعوه، فكما هو واضح من النصوص الكريمة، فإنّ إبليس عاجز
عن إغواء عباد الله الصالحين، وبالتالي فإنّه لا يغوي إلا من كان مهيّأ ًبالفطرة للإغواء. ولو نظرنا إلى صورته في القصّة لوجدنا أنّها مخالفة للصور القرآنيّة، فهو مغلوب على أمره، غير قادر على مواجهة أحد، فبمجرّد التحقيق معه يبادر إلى الاستسلام إلى إرادة أولي الأمر، وتحمّل ما وجّه إليه من إهانات جسديّة ونفسيّة، تدفعه إلى الاعتراف بجرم لم يرتكبه، وإنّما ألصقوه به، وبذلك تتحقّق المفارقة الأولى، وهي: انتفاء الحوار بين إبليس والسلطة، رغم براءته في النصّ القصصي، وذلك على خلاف ما توضّح في النصوص الكريمة من حضور صوته لدى الله تعالى بالرغم من كونه مذنباً:
" وما إن صدر الأمر إلى رجال الشرطة بإيقاف إبليس عن التمادي في كذبه المفضوح، المهين للأذكياء حتى انقضّوا عليه فرحين بما سينالون من أجر وثواب (...) وظلّ الضرب ينهال على إبليس قاسياً، موجعاً حتى صاح مستغيثاً (...) وتكلّم إبليس، وأقرّ بغير ضغط أو إرغام بصحّة كلّ ما وجّه إليه من تهم،، واعترف بكلّ الجرائم المنسوبة إليه" .
وإذا كان من وظائف التناصّ الاختزال الزمني، وذلك بالإحالة إلى إشارات النصّ الأوّل، فإنّ الوقوف هنا على اعتراف إبليس بالجرم المنسوب إليه بما يتوافق والنصّ القرآني الكريم، لا يوصلنا مع ذلك إلى نتيجة، الأمر الذي يساهم في إذكاء عنصر التشويق إلى النهاية التي آل إليها بعد الاستماع المطوّل إلى شهادات من وقع عليهم فعل الإغواء، وبالتالي إصدار القاضي حكمه عليه:
" ولمّا تبيّن للقاضي الجرائم المروّعة التي ارتكبها إبليس، أمره بالسجود، فبادر إبليس إلى الإطاعة متوهّماً أنّ سجوده سيكفل له النجاة، ولكنّ القاضي تكلّم مصدراً حكمه بإعدامه " .
إنّ المرجعي الذي يخترق النصّ الفنيّ – كما يقول عبد السلام المسّاوي – بقصد خلق شخصيّة مشابهة في الحياة المعاصرة يساعدنا المتناصّ على فهمها عبر: " إثرائه بالشحنة المعنويّة المطلوبة " ، لا يجد مبتغاه في قصص زكريّا تامر، ذلك أنّ هذا الاختراق يأتي عنده ليحقّق إحدى أهمّ وظائف التناصّ، وهي خلق المعارضة الساخرة(مفتاح،1985).، وذلك بالتلميح إلى عسف السلطات التي يخضع لها الإنسان البسيط الذي يجرّم دونما جرم، ويحاكم دون محاكمة حقيقيّة يفسح فيها المجال لسماع صوته، أو دفاعه عن نفسه، كما يشهد عليه من هم أولى بالتجريم. ذلك أنّ إبليس في النصّ الكريم أكّد عجزه عن إغواء عباد الله الصالحين، فإذا أخذنا هذا الاعتراف بعين الاعتبار أمكننا أن نستنتج أنّ من قاموا بفعل الشهادة هم من أهل الغواية، والضلالة، وهو ما تؤكّده الشهادات نفسها، ومنها هذه الشهادة:
" الشهادة السادسة: كنت سجّاناً أعذّب الناس وأتعذّب، ولكنّ إبليس هاجم قلبي، فصرت أعذّب الناس، وأنا أضحك مسروراً، وصار الناس يتعذبون وحدهم " .
وممّا تقدّم يمكننا أن نسجّل النقاط التي توضّحت من خلالها وظيفة التناص في خلق معارضتها الساخرة، عبر ما حقّقته من مفارقة دلاليّة مع النصّ القرآني الكريم، وتلك النقاط هي:
1- عصيان إبليس إرادة الله تعالى، ورفضه السجود لآدم برغم ما يدركه من إرادة الله المطلقة في القرآن الكريم، على حين لم يناقش أمر السجود في القصّة، إذ سجد ما إن أمره القاضي بذلك. ممّا يشير إلى غياب ديمقراطيّة الحوار التي تقتضي سماع رأي المتّهم، وبالتالي هي إشارة إلى منتهى عسف السلطة.
2- حظي إبليس في النصّ الديني بفرصة حريّة التصرّف كما يشاء إلى يوم الدينونة، وهو ما لم يحظَ به في النصّ القصصي الذي لم يُكتفَ معه بإصدار حكم الإعدام وحسب، وإنّما صدر الحكم بتعذيبه ما بعد الموت ممّا يؤكد حالاً من لا إنسانيّتها أيضاً.
3- ليس القضاء العادل والمجرمون في صفّ واحد في النصّ القرآني الكريم، على حين نجد القاضي وشهود الزور معاً في النصّ القصصي ممّا يشير إلى تحوّل القيم، والافتقاد إلى العدالة
وبعد، لا بدّ من القول: إنّّ التناصّ – في قصص زكريّا تامر الجديدة – لعب دوراً هامّاً في إكساء النصّ جماليّته الغائبة بفعل غياب اللغة الشعريّة، وبفعل غلبة الحوار حيناً، والشهادات حيناً آخر، فالتناصّ قد كثّف البعد الدلالي للحدث، تماماً كما فعل المجاز ذلك في الأعمال القديمة.
الخاتمة:
ممّا تقدّم يمكن استخلاص ما يلي:
1- يختلف جديد زكريّا تامر التقني عن قديمه بما لا يدع مجالاً للشكّ، وهو أمر يمكن ملاحظته بدءاً بأولى مجموعاته الجديدة، وانتهاء بآخرها، ممّا يشير إلى أفضليّة أعماله السابقة في مستواها الفنّي على حساب الجديد، رغم أنّ جديده القصصي يشير إلى رؤية أكثر عمقاً للواقع ممّا سلف، وهو ما تجلّى في إشارته إلى بروز المال كقيمة عليا في المجتمع، تفوّقت على معايير الشرف، وما انعكس عن ذلك على مستوى قناعات الفرد الصغير، وممارساته أيضاً، على أنّه لمّا كان تركيزنا على التجلّي الجمالي للسلطة بشكل خاصّ فإنّه لابدّ من ملاحظة مايلي أيضاً.
2- عبّر زكريّا تامر- مع الأنموذج السلطوي- عن براعة في إعادة توظيف اللغة القصصيّة، بما يلائم الموضوع المطروح، إذ إنّ تعريّة السلطة – كأنموذج للقبيح- لم تقف عند حدود اللغة الشعريّة المتألّقة لدى القاصّ، وإنّما تجاوزت ذلك إلى اللغة العاديّة التي قد تبدو في ظاهرها مجرّد ثرثرة لفظيّة فارغة الدلالة، على أنّها في حقيقتها ذات مدلول واضح على هرطقة السلطة وسخف منطقها وهشاشته، إضافة إلى ما حقّقته تلك اللغة العاديّة- التي برزت عبر الحوار- من الإشارة إلى افتراق المواقع بين الطرفين، وبالتالي إلى احتواء السلطة للإنسان ومصادرة رأيه، عبر هيمنتها السرديّة التي تصل بها في مواقف أخرى إلى درجة الإلغاء، وهو ما يشير إلى رؤية جديدة يبتدعها القاصّ في النظر إلى وظيفة الحوار في النصّ بشكل لا تحدّ فيه تلك الوظيفة في تطوير فعل القصّ، أو الكشف عن مخبوء الشخصيّات، أو حتى إكسابها ملمحاً واقعيّاً.
3- إنّ تشابه ملامح الشخصيّات السلطويّة، التي برزت عبر الوصف الواقعي- في قصص زكريّا تامر- تدفع عنها، مع ذلك، تهمة النمطيّة، وذلك لما حقّقته من حيويّة الأثر الجمالي، إذ ظلّ شرط الإمتاع الفنيّ قائماً، بل ازداد تأكيداً بسبب ما شكّلته تلك الصور من محفّزات لتوقّع الشكل الجديد للجريمة، أو لصور العسف المختلفة.
4- إنّ أنموذج القبيح السلطوي- بما وظّفه القاصّ من تقنيّات فنيّة- استطاع أن يحقّق فعل التنفير من الظلم الواقع على الإنسان، ممّا يشير إلى نجاح الرؤية الإبداعيّة لدى القاصّ الذي خرج عن مألوف القصّ العربي بعامّة والسوري بخاصّة، ذلك القصّ الذي عرض للموضوع نفسه، لكن بصورة دعائيّة، تفجّع فيه على الإنسان بشكل جعله أقرب إلى الافتعال.
5- إنّ زكريّا تامر الذي عرف بتعبيريّته، قد عبّر مع الأنموذج السلطوي عن حسّ واقعي، على أنّها الواقعيّة التي تعمل على إنتاج أثر واقعي، بما تدركه من دور الفنّ في إعادة إنتاج المشكلات الأخلاقيّة.
6- إنّ حضور السلطة الفاعل على مستوى الحدث القصصي لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال الرؤية الخارجيّة لها، كملاحظة منطوقها السلطوي أو ممارساتها العنيفة، إذ يفقد استبطان هذه الشخصيّة مسوّغ وجوده لأنّ آثارها على الإنسان الصغير لا تتوضّح من خلال نواياها، وإنّما عبر ما يصدر عنها تجاهه.

المراجع:
1- القرآن الكريم: سورة (ص)، الآيات ( 71- 85 ).
2- إيغلتون، تيري. نظريّة الأدب (ت. ثائر ديب) دمشق: وزارة الثقافة، دط، 1995م.
3- بختين، ميخائيل. الكلمة في الرواية ( ت. يوسف حلاّق) دمشق: وزارة الثقافة، دط، 1988م.
4- بلّوز، نايف. علم الجمال. دمشق: منشورات جامعة دمشق، المطبعة التعاونيّة، الطبعة الثانيّة، 1982- 1983م.
5- تامر، زكريّا: ربيع في الرماد. لندن- بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، الطبعة الثالثة، 1994م.
6- تامر، زكريّا. الرعد. لندن- بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، الطبعة الثالثة، 1994م.
7- تامر، زكريّا. دمشق الحرائق. دمشق: منشورات مكتبة النوري، الطبعة الثانية، 1978م.
8- تامر، زكريّا. نداء نوح. لندن- بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، لطبعة الأولى، 1994م.
9- تامر، زكريّا. سنضحك. لندن- بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 1998م.
10- حجازي، مصطفى. التخلّف الاجتماعي. الدار البيضاء- بيروت: مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الطبعة التاسعة، 2005م.
11-حمّودة، عبد العزيز. علم الجمال والنقد الحديث. القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، دط،1999م.
12- ستولينتز، جيروم. النقد الفنّي، دراسة جماليّة وفلسفيّة( ت. فؤاد زكريّا) بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، الطبعة الثانيّة، 1981م.
13- ستيس، ولتر. ت. معنى الجمال، نظريّة في الأستيطيقا( ت. إمام عبد الفتاح إمام) المجلس الأعلى للثقافة، دط، 2000م.
14- سليمان، خالد. المفارقة والأدب، دراسات في النظريّة والتطبيق. عمّان: دار الشروق، الطبعة الأولى،1999م.
15- فضل، صلاح. أساليب السرد في الرواية العربيّة. الكويت: دار سعاد الصباح، الطبعة الأولى، 1992م.
16- فضل، صلاح. شفرات النصّ، دراسة سيميولوجيّة في شعريّة القصّ والقصيد. بيروت: دار الآداب، ط1، 1999م.
17-لالو، شارل. الفنّ والأخلاق( ت. عادل العوا) دمشق: الشركة العربيّة للصحافة والطباعة والنشر، دط، 1965م.
18- لحمداني، حميد. بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي. الدار البيضاء- بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1991م.
19- مجموعة من المؤلّفين. نظريّة المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيّين الروس ( ت. إبراهيم الخطيب) بيروت: الشركة المغربيّة للناشرين المتّحدين، مؤسّسة الأبحاث العربيّة،الطبعة الأولى، 1982م.
20- المسّاوي، عبد السلام. البنيات الدالة في شعر أمل دنقل. دمشق: اتحاد الكتاب العرب، دط، 1994م.
21- مفتاح، محمّد. تحليل الخطاب الشعري، استراتيجيّة التناصّ. بيروت: دار التنوير،الطبعة الأولى، 1985م.
22– هيغو، فكتور. مقدّمة كرومويل" بيان الرومانتيكيّة"(ت.د.على نجيب إبراهيم) دمشق: دار الينابيع، د.ط 1994.
23- ياسين، بوعلي. الثالوث المحرّم، دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي. بيروت: دار الكنوز، الطبعة السابعة، 1999.


- مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (29) العدد (1)2007
Tishreen University Journal for Studies and Scientific Research- Arts and Humanities Series Vol. (29) No (1) 2007

* الدّكتورة عبير بركات
هناء إسماعيل
(تاريخ الإيداع 5 / 10 / 2006. قبل للنشر في 25/1/2007)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى