مولود بن زادي - إبراهيم عبد القادر المازني.. الناقد الذي رفض الاعتراف بمقام مي زيادة بين الأدباء!

كثيرة هي أسماء أرباب القلم وأئمة الفكر وزعماء السياسة والديبلوماسيين ورجال الدين المتيّمين الذين التفوا حول مي زيادة وغمروها إعجابا، وحبا، وكلاما طيبا. من هؤلاء الأديب المهجري جبران خليل جبران وعميد الأدب العربي طه حسين ومحمود عباس العقاد وأحمد لطفي السيد والشيخ مصطفى عبد الرازق والمفكّر شبلي شميل وشيخ الشعراء إسماعيل صبري وأمير الشعراء أحمد شوقي والشاعر الثائر ولي الدين يكن وشاعر النيل حافظ إبراهيم وشاعر القطرين خليل مطران والأديب مصطفى صادق الرافعي والكاتب انطوان الجميل والدكتور منصور فهمي. اقترنت أسماؤهم جميعا بفراشة النثر، مي زيادة. فلا نكاد نجد منشورا أو مؤلفا تناول مي زيادة إلاَّ ويذكر بعض هذه الأسماء. لكن، ماذا عن أولئك الذين لم يحبوا مي زيادة ولم يبالوا بها، ولا بوجودها، ولم يعترفوا بمكانها بين أدباء عصرها؟! من هؤلاء الأديب والناقد والصحفي المعروف إبراهيم المازني. قليلة هي المؤلفات التي تناولت قصته مع مي زيادة، نذكر منها على وجه الخصوص كتاب (الذين أحبوا مي وأوبريت جميلة)، تأليف كامل الشناوي، والذي صوّر لنا بقدر وافر من التفصيل هذه العلاقة المضطربة.
الأديب الذي تجاهل مي زيادة
اللافت في سيرة المازني أنه لم يبال بكتابات مي زيادة، ولا بمكانها، وكان يتصرف معها كما لو كانت غير موجودة. ولم يكن يتردد في إبلاغ تلامذته وأصحابه بذلك. فمي زيادة في نظره، توجد كإنسان، وتوجد ربما كصاحبة أكبر صالون أدبي، لكنها لا توجد كأديبة أو مبدعة. وبينما كان يتسابق الأدباء والمفكرون والسياسيون لمجالستها ومحادثتها، سعى المازني لتجنّب لقائها والتعرف عليها، إلى أن تفاجأ يوما بوصول رسالة منها تدعوه إلى زيارة صالونها. كانت تلك بطاقة مكتوبة بخط جميل، مثلما كشف المازني نفسه، دعته فيها إلى زيارتها في صالونها الأدبي يوم الثلاثاء.
المازني أساء الظن بها
كان رد فعله في البداية الاستغراب وسوء الفهم. فقد خالها استأجرت أحد الخطاطين لكتابة الرسالة بذلك الحسن والرونق، ولم يكن يرى ضرورة لذلك. يقول عن ذلك: "استغربت يومئذ حسن الخط، وتوهمت أنها استكتبت أحد الخطاطين، وعددت هذا من التكلف الذي لا داعي منه، ولما كنت أمقت التكلف وأنفر من الاجتماعات الكبيرة، فقد زهدت في الزيارة التي دعيت إليها."
وكانت مي زيادة قد أهدته مؤلفين من مؤلفاتها، لكنه لم يبد أي اهتمام بهما، فراح يدرس كتبا أخرى ولم يبحث فيهما. ورغم كل ذلك فإن مي زيادة لم تؤاخذه. وها هي تتكرم بدعوته إلى صالونها. وهكذا نكتشف خصالا أخرى لمي زيادة من صبر وسعة صدر وتسامح ومغفرة. وقد اعترف المازني نفسه بخصالها حيث قال: "لابد أن تكون (مي زيادة) مرهفة الاحساس، عظيمة مروءة القلب، رحيبة الأفق، وأنها على كل حال، لابد أن تكون ظريفة." ونكتشف، في المقابل، جانبا من شخصية المازني، ذلك الشخص الغليظ الجاف والمتكبر إلى حد الاستخفاف بالآخرين. المازني نفسه يعيننا على رسم صورة شخصيته حيث يقول معاتبا نفسه: "عسى أن تكون قد حملت ذلك مني على محمل الغرور أو الطيش أو الحماقة التي يركب بها الشباب الحياة."
اعترف بذنبه تجاهها
لكنّ المازني فيما بعد اعترف بذنبه تجاهها. ويعود الفضل في ذلك بالتأكيد إلى صديقه الحميم العقاد الذي وضح له أن الدعوة كتبت بخط يد مي زيادة نفسها وليس بواسطة خطاط مثلما كان يتوهم. يقول عن ذلك: "وأحسب أن الأستاذ العقاد هو الذي هوّن عليّ الأمر، وشجعني على قبول الدعوة، وعرّفني أنّ هذا خط يدها، لا خط خطاط." ووصل به البوح إلى حد الاعتراف أنه كان سيء الأدب معها: "كنتُ سيء الأدب معها، أو قليل العقل." ويمضي المازني في معاتبة نفسه من خلال بوح نادر في الأدب العربي، فيقول مشيرا إلى هدية مي زيادة له: "كانت أهدت إليّ كتابيها (الصحائف) و(ظلمات وأشعة) فألفيت نفسي نافرا غير مستعد لحسن الرأي فيهما... ولم أتناول كتابي مي بأي بحث، وإنما كتبت ما كتبت لمناسبة إهدائهما إليّ، وكانت هذه قلة ذوق على التحقيق." ويمضي المازني في بوحه أبعد من ذلك إلى حد اعترافه بوقوعه في فخ الاستهانة والاحتقار: "وكان إهمال إبداء الرأي لا يخلو من معنى الاستخفاف. فبأي وجه ألقاها وقد صنعت ذلك؟"
جمع بين الكبرياء والتواضع
شخصية المازني المتميزة بالقوة والعظمة والغرور والقدرة على السخرية في النقد كانت تخفي مظهرا آخر متناقضا يتمثل في الشعور بالضعف والتواضع وحتى الخوف في اللقاءات. نرى ذلك جليا في سلوكه في صالون مي زيادة. فقد شعر الرجل بالحياء والتردد وهو يدخل الصالون معترفا أنه لم يعتد مثل هذه المجالس الكبيرة وكان ينفر من هذه الطبقات التي، حسب تعبيره، "تعد نفسها ممتازة أو عالية." بدت مي زيادة في ذلك اللقاء بشوشة مبتسمة شاكرة. ألقت كلمة مرحبة بالضيوف ومنهم المازني نفسه:
"بداية أحب أن أرحب بضيوف الصالون الجدد. الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني والأستاذ الكبير محمد التابعي.. وترحيب خاص بشمس هذا الصالون الشيخ طه حسين."
ويتجلى مظهر التواضع في شخصية المازني من خلال حديثه مع مي زيادة. عند مرورها بالقرب منه، حاول أن ينهض لها لكنها نهته عن ذلك، فقال لها معتذرا: "إني من عامة أبناء الشعب، ولست من رواد الصالونات، فأرجو أن تتجاوزي عن أغلاطي." إنها المنزلة التي اختارها المازني لنفسه: "ثقي إذن أني من أبناء الشعب ولا أحب أن أرتقي عن هذه المنزلة."
لم يعترف بمكانها بين الأدباء
مع أن المازني تحدث بإسهاب عن صالون مي زيادة، وصوّر الوافدين إليه، والأجواء فيه، وعبر عن إعجابه بشخصية مي زيادة الهادئة، وعبّر عن شعوره بالذنب تجاهها، إلاَّ أنه امتنع عن الاعتراف بمقامها بين الأدباء. وعندما سئل عنها، تهرّب من السؤال وأثر عدم إبداء رأيه فيها. وعندما سئل أي مؤلف من مؤلفات مي زيادة سيكتب له الخلود، زاغ عن الجواب الصريح، مكتفيا بالقول: "إني أؤمن بالفناء في الدنيا ولا أؤمن بالخلود لشيء فيها."
لكنّ هذا التهرّب لا يمنعنا من تبيّن موقفه منها ومن أعمالها ومنزلتها بين الأدباء. فقد اعترف المازني بأنّ نفسه نفرت من كتابي مي زيادة. فقد قال عن ذلك: "كانت قد أهدت إليّ كتابيها (الصحائف) و(ظلمات وأشعة)، فألفيت نفسي نافرا غير مستعد لحسن الرأي فيهما. ولعل كلمة (الظلمات) هي التي ساء وقعها في نفسي، فكتبت بضعة الفصول في الأخبار، ونشرت بعد ذلك في كتاب (حصاد الهشيم) عن (الواجب) و(الكتب والخلود)، و(الطبيعة عند القدماء والمحدثين)، ولم أتناول كتابي مي بأي بحث." استخفاف المازني بمي زيادة وأعمالها يتجلّى أيضا في قوله ساخرا: "لقد أشرت إلى قلة عقلي لما تلقيت كتابيها، ذلك أني أكره الأسلوب العاطفي أو الوجداني، وقد نسيت وأنا أقرأ كتابيها أنّ الكاتبة امرأة، وأنها لا تكون مخلصة لنفسها وطبيعتها إلاَّ إذا كتبت بروح المرأة، وأنها بغير ذلك تكون متكلفة ولا قيمة لها."
إنصافها رهين بكتاباتها
وهكذا، في الوقت الذي أعجب بمي زيادة كثيرٌ من الأدباء والمفكرين والسياسيين، فقد خرج عن تلك القاعدة آخرون من أمثال المازني. ولم يكن ذلك من باب المصادفة وإنما لأسباب. والمازني، على ما يبدو، اختار أن يكون صادقا مع مي زيادة، فلم يغير موقفه منها مع أنها دعته إلى صالونها وأظهرت له كثيرا من اللطف والكرم. وإن اعترف بطيبة قلبها وسمو أخلاقها، وبذنبه تجاهها لعدم اكتراثه بكتبها، إلاَّ أنه لم يعترف بمكانها بين الأدباء، لأنه لم يكن مقتنعا بذلك. وهكذا، اختار المازني أن يكون صادقا مع نفسه، غير متملّق كبعض أدباء عصره، وهو الذي أكد غير مرة أنه يكره التكلف والمغالاة. موقف المازني – إذا ما أضفنا إليه ما تردد بشأن لغتها وأسلوبها – يحثنا حتما على الدعوة إلى تقييم مي زيادة كأديبة مقارنة بأدباء عصرها، وتقييم كتاباتها على ضوء إبداعات معاصريها، لأجل إنصافها. فالبحوث التي تناولت مي زيادة حتى يومنا هذا ركزت في مجملها على صالونها وعلاقاتها مع الأدباء والمفكرين لا سيما بجبران خليل جبران، ومأساة العصفورية، ونظرية المؤامرة، ونظرت إليها بعاطفة. وما نحتاجه في الدراسات النقدية النزيهة هو أساسا التحرر من العاطفة والاعتماد على الموضوعية والتركيز على النص الأدبي والإبداع وليس المبدع نفسه. فمي زيادة لن تُنصَف من خلال مساندة نظرية مؤامرة لا تستند إلى أدلة ملموسة، وتفندها تقارير طبية علمية أصدرتها فرق طبية مختصة بعد فحوصات دقيقة لا تقبل الجدل، وإنما بتسليط الأضواء على أعمالها التي تبقى مجهولة، وكشف مواطن القوة والجمال فيها، والوقوف على عناصر الابداع والعظمة في تجربتها الأدبية. ولن تُنصَف أيضا إلاَّ من خلال رد مقنع على أولئك الذين شككوا في كفاءتها اللغوية وقدراتها الأدبية ورفضوا الاعتراف بمكانها بين أدباء عصرها، من أمثال الناقد الشهير إبراهيم المازني.


مولود بن زادي كاتب جزائري بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى