جاد الكريم الجباعي - جان جاك روسو: أصل التفاوت.. والعقد الاجتماعي

الأسرة عند روسو، في العقد الاجتماعي، هي أقدم المجتمعات، وهي وحدها المجتمع الطبيعي. ومع ذلك “فإن الأولاد لا يدوم ارتباطهم بأبيهم إلا طول الزمان الذي يحتاجون فيه إلى ضمان بقائهم، وحالما تنقضي تلك الحاجة تنحل تلك الرابطة الطبيعية. فالأولاد وقد أصبحوا مُعفيَن من الطاعة التي كانت مفروضة عليهم لأبيهم، والأب وقد أعفي من ضروب العناية التي كان ملزماً ببذلها لهم، ينالون كلهم، على السواء، استقلالهم بأنفسهم. وإذا حدث أن ظلوا مؤتلفين مجتمعين، فلا يكون هذا طبيعياً، كما كان من قبل، بل بمحض إرادتهم ورضاهم. كما أن الأسرة نفسها لا يدوم بقاؤها إلا بالتراضي والاتفاق”( جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1972، ص 12).

الأسرة عند روسو، وعند هيغل وماركس من بعده، هي الأساس الطبيعي للمجتمع المدني. وأفرادها كلهم أفراد طبيعيون صرفاً ما داموا محكومين بضرورة البقاء على قيد الحياة، أي قبل أن ينالوا استقلالهم جميعاً ويتحولوا إلى ذوات حرة. الاستقلال والحرية شرطان رئيسان لصيرورة الفرد الطبيعي عضواً في المجتمع المدني، الذي ليس مجتمعاً طبيعياً بحال من الأحوال، وعضواً في الدولة السياسية، على السواء وفي الوقت ذاته. الأسرة التي استقل أفرادها هي النموذج الأول المايكرو لجماعة سياسية: “فالرئيس هو صورة الأب، والشعب صورة الأولاد، وكلهم وقد ولدوا متساوين وأحراراً لا ينزلون عن حريتهم إلا لمنفعتهم. في العقد الاجتماعي ينزل الأفراد عن بعض من حريتهم في سبيل نفعهم جميعاً، فغاية العقد الاجتماعي هي النفع العام، وبهذا العقد بين أحرار متساوين ينتقل الأفراد من الحق الطبيعي الذي قال به كل من هوبز وغروسيوس، منطلقين من عدم المساواة الطبيعية التي قال بها من قبل أرسطو وكاليجولا، إلى الحقوق المدنية والحقوق السياسية، وإلى المساواة السياسية.

الفروق الطبيعية بين الأفراد، ولا سيما في القوة والضعف أو في الثروة والملك وما إليها لا يجوز أن تنجم عنها حقوق وواجبات، وإلا فإن الحق لا يقوم إلا على قاعدة غير مؤكدة وغير ثابتة، ناهيكم عن عدم شرعيتها. إذا كانت القوة هي التي تقرر الحقوق للأقوياء والواجبات على الضعفاء، فإن الأقوى يزيح من هو أقل قوة منه ويقرر حقوقا جديدة وواجبات جديدة، فما قيمة الحق الذي يزول عند اتقطاع القوة ما دام من الطبيعي أن هنالك دوماً من هو أقوى؟. فلا يجوز والحال هذه أن يكون لكل من الحق بقدر ما له من القوة؛ هذا المبدأ لا يقيم نظاماً اجتماعياً، بل فوضى فحسب. فهل يعقل أن تتحدد العلاقات بين مواطني الدولة وفق القواعد التي تقررها الحروب بين الدول[1]؟

ليس بوسعنا أن نفسر الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية سوى بتطور الحاجات وتحسين شروط إشباعها. فالمجتمع المدني هو منظومة الحاجات، كما عرفه هيغل، وهو الحالة الاجتماعية التي تضع حداً لسطوة القوة وتطرفها. “ليس لإنسان ما سلطان طبيعي على مثله، والقوة لا تخول أي حق كان، لذلك فإن العهود تظل أسَّاً لكل سلطة شرعية بين الناس… وتوصلاً إلى جعل الحكومة الإرادية التحكمية حكومة شرعية، يجب إذن أن يكون الشعب في كل جيل هو السيد في قبولها أو رفضها، ولكن هذه الحكومة لا تعود عندئذ تحكمية (ص 17).

نزول الإنسان عن حريته، أو تخليه عنها، هو نزوله عن صفته إنساناً، وعن حقوق الإنسانية، وتخل عن واجباته أيضاً، فكيف يمكن أن يتخلى إنسان عن حريته وقوته وهما أداتا حفظه من غير أن ينزل ضرراً بنفسه؟ الجواب عند روسو هو “الاهتداء إلى شركة (أي إلى نوع من أنواع الاجتماع المدني) تدافع عن الشركاء، وتحمي، بجميع ما لها من القوة الجماعية، شخص كل مشترك وأمواله، شركة ينضم فيها كل مشترك إلى شركائه ويتحد بهم، ولكنه، مع ذلك، لا يطيع إلا نفسه، ويظل متمتعاً بالحرية نفسها التي كانت له”. هذه الشركة هي العقد الاجتماعي الذي مبدؤه الحرية والاستقلال، وقوامه الشراكة أو المشاركة وغايته النفع العام أو المصلحة العامة المشتركة بين الجميع. وشروط هذا العقد، أو هذه الشراكة، واحدة في كل مكان، تردُّ جميعُها إلى شرط واحد هو: “أن يبيع كل مشترك نفسه وجميع حقوقه إلى الشركة بأكملها بيعاً شاملاً كاملاً؛ وذلك أولاً، لأن كلاً من الشركاء قد وهب نفسه كلها، فتمت المساواة بين الجميع، وإذ إن الشرط يقيم المساواة بين الجميع، فليس لأحدهم من مصلحة في أن يجعله شديد الوطأة على الآخرين. أما وقد وقع البيع دون تحفظ، فإن الاتحاد يكون على أتم ما يمكن من الكمال، ولا يبقى لمشترك ما يطالب به؛ لأنه لو بقي لبعض الأفراد حقوق، ولم يكن للشركة رئيس عام يمكنه أن يفصل بينهم وبين الجمهور، فانتحل كل منهم صفة القاضي لنفسه، بل شيئاً فشيئاً للآخرين، لكان من نتيجة ذلك أن بقيت حالة الطبيعة قائمة، ولأصبحت الشركة طاغية أو باطلة بحكم الضرورة. وأما وكل فرد بهبته نفسه للجميع لم يهبها لأحد، وأما إذ ليس هناك من مشترك لا يكتسب الحق نفسه الذي قد نزل له عنه شركاؤه، فإنه بهذا يظفر بما يساوي جميع ما فقده، ويكسب فوق ذلك مزيداً من القوة لحفظ ما له.

فإذا اطُّرح من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره حُصر هذا الميثاق في الكلمات الآتية: إن كلاً منا يضع شخصه وكل قوته شركةً تحت إدارة الإرادة العامة العليا، ونحن نقبل أيضاً كل عضو كجزء من كل غير قابل للانقسام. فعقد الشركة هذا يوجد في الحال بدلاً من شخصية الفرد الخاصة هيئة معنوية (اعتبارية) متضامنة تتألف من عدد من الأعضاء مناسب لعدد أصوات المجلس، وتستمد الهيئة من هذا العدد نفسه وحدتها وأناها أو شخصيتها المشتركة وحياتها وإرادتها، وهذه الشخصية العامة هي الجمهورية والشركاء هم الشعب والأفراد هم المواطنون المشتركون في سلطة السيادة والخاضعون في الوقت ذاته لقوانين الدولة (ص 26-27). المواطن والشعب والجمهورية ثلاثة أقانيم في الديمقراطية، إذا جاز استعمال هذا التعبير.

بموجب العقد الاجتماعي، وعلى شروطه، يدخل كل شريك، أي كل مواطن، في علاقة مزدوجة: علاقة مع الأفراد الآخرين تتعين بموجبها الحقوق المدنية، وعلاقة مع هيئة السيادة نفسها تتعين بموجبها الحقوق السياسية، وتفرض هذه العلاقة المزدوجة التزامات متبادلة. “لكن قاعدة الحقوق المدنية التي بمقتضاها “لا يلزم الإنسان إلا باحترام الالتزامات التي أخذها على نفسه” لا تنطبق على هذا التعاقد، فيما يخص التزامات هيئة السيادة؛ فمما ينافي طبيعة الهيئات السياسية أن تفرض هيئة السيادة على نفسها قانوناً لا تستطيع نقضه، ومن ثم ليس هناك أي نوع من القوانين الأساسية، حتى العقد الاجتماعي نفسه، من شأنه إلزام هيئة الشعب. فالهيئة السياسية أو هيئة السيادة المستمدة كيانها من قدسية العقد، لا يمكنها أن تلتزم، حتى إزاء غيرها، ما من شأنه أن يخالف هذا العقد الأصلي، كأن تبيع جزءاً منها أو تخضع لهيئة سيادية أخرى؛ لأن من خرق عقداً به وجوده فقد لاشى وجوده، وما ليس بشيء لا ينتج شيئاً.

وما أن تنتظم الجماعة في هيئة فإنه “لا يمكن أن يساء إلى عضو منها دون أن يساء إليها كلها. وأشد من ذلك أن يساء إلى الهيئة، فإن الإهانة تصيب جميع الأعضاء. تلكم هي القاعدة الذهبية التي ينبغي أن نأخذ بها، والتي تغدو قيمة الذهب معها أقل بما لا يقاس. والمصلحة والواجب يفرضان على المتعاقدين أن يتعاونوا، وهؤلاء الرجال والنساء أنفسهم يجب عليهم أن يعملوا في هدي هاتين الرابطتين، على استجماع جميع المزايا والفوائد الناجمة عنهما.

أما وهيئة السيادة لا تتكون إلا من الأفراد الذين يؤلفونها فليس لها ولا يمكن أن يكون لها مصالح مضادة لمصالحهم، وعلى هذا فسلطة هذه الهيئة لا تحتاج إلى من يضمنها تجاه الرعايا، لأن من المحال أن تتعمد إضرار جميع أعضائها. .. وليس باستطاعتها أن تنزل ضرراً بأحد منهم خاصة. هذه الهيئة قد وُجدت، وهي، لسبب هذا وحده، ما يجب أن تكون عليه دائماً.

ولكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بموقف الرعايا تجاه هيئة السيادة، إذ لا شيء يضمن التزامهم لها، رغم وجود المصلحة المشتركة، إلا إذا اهتدت إلى وسائل تضمن بها ولاءهم. أجل، إن كل فرد يمكن بصفة كونه إنساناً أن تكون له إرادة خاصة مضادة أو غير مماثلة للإرادة العامة التي له بصفة كونه مواطناً: قد توحي إليه مصلحته الخاصة ما لا يتفق والمصلحة المشتركة؛ ووجوده المطلق الذي هو أيضاً بحكم طبيعته مستقل يمكن أن يدفعه إلى أن يعتبر أن ما هو مدين به للمصلحة المشتركة مساهمةٌ منه دون مقابل، وأن خسارتها على الآخرين تكون أقل ضرراً مما سيثقل به كاهله لو قام بدفع ما عليه. ثم إنه ينظر إلى الشخصية المعنوية التي للدولة كأنها كائن من عقل، لأنها ليست إنساناً، فيكون قد تمتع بحقوق المواطن بدون أن يقوم بواجبات الرعية. هذا جور إذا فشا أدى إلى انهيار الهيئة السياسية.

ولكي لا يكون هذا العقد الاجتماعي مجموعة أصول لا طائل تحتها، فقد حوى إلزاماً ضمنياً، لأن هذا الإلزام وحده يمكن أن يكسب الالتزامات الأخرى قوة مؤداها: “إن من يرفض أن يطيع الإرادة العامة ترغمه هيئة السيادة كلها على الطاعة” وهذا لا يعني إلا أنه “يُرغم على أن يكون حراً؛ لأن هذا هو الشرط الذي بمقتضاه يوهب كل مواطن للوطن، فيضمن له الإفلات من كل تبعية شخصية؛ ولأن هذا هو الشرط الذي يوجد أساليب السياسة وينظم تسيير دفتها، وهو وحده الذي يجعل الالتزامات المدنية شرعية؛ ولولا هذا لأصبحت غير معقولة وطاغية واستبدادية، وعرضة لأسوإ أعمال تجاوز حدود السلطة”. (راجع ص 29-30).

الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية أوجد في الإنسان تبدلاً ملحوظاً، إذ أحل في سلوكه العدل محل الوهم الفطري، وأكسب أفعاله أدباً كان يعوزها من قبل. .. وقصارى القول: إن ما يفقده الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية والحق غير المحدود الذي كان له على كل ما يستهويه ويجنيه ويمكنه الوصول إليه؛ وأما ما يكسبه فـهو الحرية المدنية وملكية جميع ما يقتنيه. واجتناباً لوقوع الخطإ في هذه المقاصات يجب الحرص على التمييز بين الحرية الطبيعية التي لا حدود لها إلا قوى الفرد، والحرية المدنية التي تحدها الإرادة العامة، والتمييز بين وضع اليد والاستيلاء الذي ليس إلا نتيجة القوة أو حق المستولي الأول، والتملك والملكية التي لا تقوم إلا على سند عملي إيجابي. ويمكننا أن نضيف إلى مقتنى الحال المدنية الحرية الأدبية التي هي وحدها تجعل الرجل سيد نفسه، لأن الباعث المندفع من الشهية وحدها هو “عبودية”؛ والطاعة للقانون الذي فرضناه على أنفسنا هي “حرية” (ص 31-32).

تتعين الإرادة في الملكية أو في التملك، وهذه الإرادة إما أن تكون ذاتية ومطلقة، فيغدو التملك عدم تملك، لأن ملكية كل شيء هي ملكية لا شيء، وإما أن تكون إرادة موضوعية محدودة بحدود الإرادة العامة، فيغدو التملك حقاً مكتسباً للمالك لا ينازعه فيه أحد، بقدر ما لا ينازع هذا المالك أحداً غيره في ملكيته بغير حق. وما دام الأمر كذلك، فثمة رابطة ضرورية بين الحرية والملكية. والملكية خاصة وعامة، ملكية الفرد أو العائلة، وملكية هيئة السيادة، ملكية الدولة، وليس من تناقض بينهما في الدولة المعتدلة. “صحيح أن لكل إنسان طبيعي حق في كل ما هو ضروري له، إلا أن العقد الواقعي الذي يجعله مالكاً لبعض الأموال أو الأعيان يقصيه عما تبقى منها، فإذا ما تقرر نصيبه وجب عليه أن يكتفي به، ولم يعد له حق ما قِبَل الجماعة، ولهذا كان حق الحائز الأول البالغ الضعف في حال الطبيعة مرعياً لدى كل إنسان مدني”. وإننا بمراعاة هذا الحق إنما نحترم ما ليس لنا بقدر ما نحترم ما لنا. بل إن ما يصون حقنا فعلاً هو احترامنا ما لسوانا. إن حق الملكية بما هو تعبير عن موضوعية الإرادة يفرض أن الحكام ليسوا سادة الناس ورؤساءهم، بل رؤساء البلاد. وإذا كانت جميع ممتلكات الأفراد مشمولة بالسيادة العامة، فإن “الفريد في أمر نقل الملكية هذا هو أن الشركة الجماعية، بقبولها هبة أملاك الأفراد، لا تجردهم منها، بل بعكس ذلك، تؤمن لهم الحيازة الشرعية وتستبدل بالاغتصاب حقاً صريحاً، وبالانتفاع ملكية؛ فالملاك – إذ اعتبروا مستودعين للملك العام، وإذ أصبحت حقوقهم مرعية محترمة من جميع أعضاء الدولة ومستمسكاً بها بجميع القوى تجاه الأجنبي – قد استردوا بما قاموا به من نزول مجدٍ للمصلحة العامة وأكثر جدوى لهم، جميع ما وهبوا. وهذا التناقض تمكن إزالته بالتمييز بين حقوق هيئة السيادة وحقوق الأفراد على الممتلكات نفسها. إن الحق الذي لكل فرد على عقاره الخاص هو دائماً معلق على حق الجماعة الواقع على الكل، ولولا ذلك لما كان للرابطة الجماعية قوة حقيقية في ممارسة السيادة.

الميثاق الأساسي (العقد الاجتماعي الذي سيعبر عنه الدستور) في أي نظام اجتماعي “لا يقضي على المساواة الطبيعية، بل إنه على العكس يقيم مساواة معنوية وشرعية لما استطاعت الطبيعة أن توجده من تفاوت طبيعي بين الناس، فيصبحون كلهم متساوين بالعهد الذي عقد فيما بينهم، وبحكم القانون، ولو أن بينهم تفاوتاً في القوة أو في الذكاء وتفوق المواهب (راجع الصفحات من 33-36).

تنجم عن العقد الاجتماعي إرادة عامة “توجه قوى الدولة وفقاً للغرض الذي أنشئت من أجله، وهو الخير العام؛ ذلك لأنه إذا كان تناقض المصالح الخاصة قد جعل إنشاء الشركات أمراً ضرورياً، فإن اتفاق هذه المصالح ذاتها هو الذي جعل إنشاءها ممكناً. إن ما هو مشترك في هذه المنافع المختلفة هو الذي يؤلف الرابطة الاجتماعية. ولو لم يكن هناك نقطة اتفاق تلتقي عندها جميع المصالح لم يكن لأية شركة وجود. فعلى أساس هذه المصلحة المشتركة فقط يجب تسيير الإدارة. الإدارة العامة، مفهومة على هذا النحو، هي ممارسة السيادة، هي الصيغة العملية أو الإجرائية للسيادة، والسيادة لا يمكن التصرف بها. “إن هيئة السيادة التي ليست إلا كائناً مشتركاً على وجه جماعي لا تستطيع أن تمثل نفسها إلا بنفسها، لأن السلطة لا الإرادة يمكن نقلها إلى الغير. الإرادة العامة هي أساس الإدارة العامة، ومن ثم فإن الإدارة العامة هي ممارسة الإرادة العامة، أو ممارسة السيادة.

لا بد أن يستوقفنا هذا الروح الديمقراطي، روح الاعتدال، والديمقراطية مقترنة بالاعتدال، الروح الديمقراطي الذي لا يرى اختلاف الأفراد فحسب، بل يرى اتفاقهم وتماثلهم، ولا اختلاف بلا تماثل؛ ولا يرى تناقض المصالح فقط، بل يرى اتفاقها وتقاطعها، فالتناقض ليس مطلقاً إلا في الفكر؛ ولا يرى الضرورة وحدها، بل يرى الإمكان الذي يلازمها؛ الواقع جملة من العلاقات الضرورية، لكن جميع العلاقات الضرورية هي بنت الإمكان؛ الواقع إمكاني واحتمالي، لأنه تناقضي، ولأن تناقضاته غير مطلقة، ولأن كل شيء فيه يتوقف على كل شيء، ويتأثر به، ويؤثر فيه؛ وهذا كله كان حاضراً في المقدمات الأولية للرؤية الديمقراطية. الديمقراطية، في هذا المستوى، وثيقة الصلة بنظرية المعرفة، بطريقة تعقل العالم كما هو. ليس هناك “نظرية ديمقراطية”، بل نظرية معرفة ديمقراطية هي الديالكتيك، الديمقراطية نسق مفتوح ومولِّد، لأن افتراضه الأولي يقوم على حرية جميع عناصره وعلى الجدل الذي يحكم العلاقات الضرورية والإرادية فيما بينها، ولنقل إنه يقوم على منطق الإمكان والاحتمال.

“إذا لم يكن من المحال أن تتوافق إرادة خاصة مع الإرادة العامة، في بعض نقاط، فمن المحال، في الأقل، أن يظل هذا التوافق مستمراً وثابتاً؛ لأن الإرادة الخاصة تميل إلى التفضيل والإرادة العامة إلى المساواة” (ص 39). هذا يعني أن العقد الاجتماعي مفتوح على التطور والنمو والتغير من دون أن يفقد صفته التعاقدية. ومن ثم فإن مقولة المجتمع المدني تفقد مضمونها ما لم توضع تحت مقولة التقدم وتنقد بدلالتها باستمرار. بيد أن ما يلفت النظر عند روسو قوله إن ما هو أكثر استحالة من ديمومة الاتفاق بين الإرادة الخاصة والإرادة العامة هو أن نجد ضامناً لهذا الاتفاق الذي يجب أن يوجد، وهو حين يوجد لا يكون سوى نتيجة المصادفة. فالاضطراب السياسي الذي لم تخل منه دولة من الدول أو مجتمع من المجتمعات كان يفضي دوماً إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي، وفق شروط الواقع المتغير. الاضطراب السياسي هو اختلال التوازن بين الإرادات والمصالح، أو بين الإرادات / المصالح. كما أن المصادفة هي التي تحمل القانون؛ ومن ثم فليس بوسعنا التسليم أن اتفاق الإرادة الخاصة والإرادة العامة هو محض مصادفة، بل هو القانون الذي تضعه المصادفة ذاتها. وحين تستجيب هيئة السيادة لإرادة خاصة فإما أنها قد أخذت تجنح إلى الفساد، وإما أن في تلك الإرادة الخاصة عنصراً عاماً لم يكن كذلك من قبل. ومع أنه لا يجوز نفي العشوائية والمصادفة في الحياة الاجتماعية، إلا أن هيئة السيادة لا يمكن أن تكون سوى شكل من أشكال القانونية والانتظام. الإرادة العامة لا يمكن أن تكون عشوائية، ولا يجوز أن تكون عشوائية وتظل، مع ذلك، إرادة عامة. والإرادة العامة لا يمكن أن تهدف إلا إلى الخير العام. وحالما يوجد سيد بصفته الفردية والشخصية تنتفي هيئة السيادة، ثم يتلاشى الهيكل السياسي.

الإرادة العامة ليست كذلك، أي ليست إرادة عامة، إلا في ما يجمع عليه المواطنون كافة، فكل امتناع أو اعتراض صريح يزيل صفة العمومية؛ حتى لو صدر هذان الامتناع والاعتراض عن شخص واحد أو عن عدد قليل من الأشخاص, وهذه من أكثر مسائل السياسة غموضاً وتعقيداً، مسائل الإجماع الوطني، ومفهوم المعارضة السياسية وعلاقة الأكثرية السياسية بالأقلية السياسية، في صفوف السلطة والمعارضة على السواء، وحدود الاتفاق والاختلاف بين الإرادات والمصالح الخاصة من جهة وبينها وبين الإرادة العامة من جهة أخرى، ومسألة المسائل، مسألة الانتقال من نظام اجتماعي سياسي إلى آخر، ومن يقرر هذا الانتقال وكيف يتقرر .. إلخ. ونعتقد أن مفهوم المجتمع المدني، بوصفه ميدان العشوائية وفضاء الحرية ومسرح التاريخ ينطوي دوماً على حلول مبتكرة لهذه التعارضات، لا من خلال تنظيماته القائمة والممكنة فحسب، بل من خلال قدرته على تحويل هذه الحلول إلى قوانين تتوقف نجاعتها على مدى حضوره في الدولة السياسية، وقدرته على توجيه دفتها. وليس ذلك فحسب، بل إن مجموعات المعترضين، على اختلاف الموضوعات والمسائل التي يعترضون عليها، يسهمون في إثارة هذه المسائل وإدارة الحوار حولها، بقدر ما يتحولون إلى تنظيمات اجتماعية، كالجمعيات والأحزاب السياسية التي تعبر عن حيوية المجتمع وغناه وسعيه إلى التوازن، وإلى التقدم.

بيد أن السيادة غير قابلة للتجزئة والانقسام، للأسباب المانعة للتصرف؛ لأن الإرادة العامة إما أن تكون عامة وإما ألا تكون، وما دامت إرادة عامة فإن لها قوة القانون. وفصل السلطات هو بالأحرى تقسيم للوظائف، لا تقسيم للسيادة، تقسيم أوجبه تقسيم العمل واستقلال مجالات الحياة الاجتماعية في المجتمع المعني. والسيادة ليست ولا يمكن أن تكون جمعاً حسابياً للسلطات التي تقوم كل منها ببعض وظائفها كالتشريع والتنفيذ والقضاء والتربية والأشغال العامة وغيرها. فمؤسسات الدولة عدا المؤسسة التشريعية، لا تعدو كونها مؤسسات وظيفية، لا مؤسسات سيادية. وحدها المؤسسة التشريعية تجمع الصفتين السيادية والوظيفية، على أن الوظيفية تابعة. وثمة فارق جوهري بين إرادة الجميع والإرادة العامة، الأولى جمع حسابي للإرادات، أما الثانية فتجريد منطقي لما هو مشترك بين جميع المواطنين، يتجلى في القانون الأساسي أو الدستور، ولنقل إن هذا التجريد يتجلى في القانون بصفته العامة والمجردة. القانون الذي يراعي ما هو عام ومشترك، ولا يوضع لأي حالة خاصة، ولا يراعي الحالات الخاصة والفروق الفردية.

يعقب روسو على قول المركيز دارجنسون: ” إن لكل مصلحة مبادئ مختلفة، واتفاق مصلحتين خاصتين يتم بمضادة مصلحة ثالثة”، بقوله: كان يمكنه أن يزيد: واتفاق جميع المصالح يتم خلافاً لما لكل منها. ولولا تعدد المصالح المختلفة لما أحس الناس بالمصلحة المشتركة التي لا تجد عقبة تقف في وجهها، فيسير كل بنفسه، وتنقطع السياسة عن أن تكون فناً” (ص 44). لولا الاختلاف والتعارض في المصالح، وفي الأفكار والتصورات والعقائد التي تعبر عنها، لما كان هناك حاجة إلى السياسة بما هي تركيب جدلي لجميع الاختلافات والتعارضات، ولا إلى قيام هيئة السيادة بما هي تجريد للعمومية. ويحدد الإرادة العامة بقوله: ” وهناك في الغالب، فرق كبير بين إرادة الجميع والإرادة العامة، فهذه لا تلتفت إلا إلى المصلحة العامة، وتلك إلى المصلحة الخاصة وليست هذه إلا مجموعة من إرادات فردية؛ فإذا طرحتَ من هذه الإرادات أنفسها الأقلَّ والأكثر فتلاشى، نتج لك حاصل من الفروق هو الإرادة العامة” (ص 44) وهذا هو التجريد الذي من عمل العقل.

ويضيف:” وللتوصل إلى التعبير الصحيح عن الإرادة العامة، يجب ألا يكون في الدولة جمعية جزئية (لأن كل جمعية أو حزب هي أو هو تعبير عن العمومية في نظر أعضائها أو أعضائه، وتعبير عن الخصوصية في نظر الدولة)، وألا يعبر كل مواطن إلا عن الرأي الذي يراه، وعلى مثل هذا سارت تلك المؤسسة السياسية الفريدة التي أنشأها ليكورج. وإذا كانت هناك شركات جزئية فيجب تكثير عددها والحرص على اجتناب عدم المساواة فيها، كما فعل سولون ونوما وسرفيوس. هذه الاحتياطات هي وحدها صالحة لأن تجعل الإرادة العامة مستنيرة دائماً لئلا يخدع الشعب” (ص 45).

ولما كانت الدولة شخصاً معنوياً تقوم حياته على اتحاد أعضائه، وحفظ حياته هو أهم ما يعنى به، وجب أن تكون لها قوة شاملة لتحريك جميع أجزائها وإعداد كل منها على أكثر الوجوه ملاءمة للكل (راجع ص 46 ). وهذا يعني أن سيادتها مطلقة وسلطتها مطلقة أيضاً؛ ولكن النظر إلى حقوق الشخص العام المعنوي لا ينبعي أن يصرفنا عن حقوق المواطنين الذين تتألف السيادة منهم، وهم مستقلون عنها حياة وحرية، بحكم الطبيعة. هذه الموازنة بين حقوق الدولة وحقوق المواطن كانت ولا تزال إحدى المشكلات المعقدة. ولذلك شعر روسو عند هذه المسألة بصعوبة شرح موقفه الموزع بين مطلبين مهمين: حقوق الدولة، وحقوق المواطن. ولعل تشبيه الدولة بالشخص، وإن وصف بأنه معنوي، زاد المشكلة تعقيداً؛ ذلك أن حرية الشخص تغني عن حرية كل عضو من أعضائه، أو كل جزء من أجزائه. ما من شك في أن الدولة السياسية هي دولة جميع مواطنيها، ولكن معنى السيادة، بحسب روسو نفسه، لا يحيل على الجمع الحسابي، بل على ما هو مشترك بين جميع المواطنين الذين هم أعضاء فيها بحكم هذه العناصر المشركة فحسب، ومستقلون عنها فيما عدا ذلك، وإلا لما أمكن قيام العقد الاجتماعي ولما نشأت الهيئات السيادية. في حالة الاختلاف المطلق لا يمكن قيام عقد اجتماعي، وفي حالة الاتفاق المطلق لا حاجة إلى العقد أصلاً. ومن نقيضة الاتفاق والاختلاف ينتج كون المواطن حاكماً ومحكوماً في الوقت ذاته؛ الحاكم أو السيد هو المشترك بين جميع المواطنين، هو الإرادة العامة، والمحكوم هو المختلف والمعارض؛ الاختلاف هو ما يوجب التعاقد، والاتفاق هو ما يجعله ممكناً. بعكس العبودية والاستبداد، وهما صنوان، إذ الاختلاف (الإرادة الفردية) هو الحاكم والسيد، والاتفاق هو المحكوم (الإرادة العامة). الاختلاف هو علة نشوء الدولة(ولذلك صفنا نظم العبودية والاستبداد بأنها نظم ما قبل الدولة، لأنها تقوم على إرادة السيد والمستبد وأهوائهما ونزواتهما، من دون أي عنصر من عناصر الموافقة والإرادة العامة.) ، ولسوء الحظ، فإن الاختلاف والمعارضة هي مواطن الإبداع التجديد. الإبداع والتجديد كلاهما اختلاف وخروج على السائد والنمطي والمألوف. والدول التي حاولت أن تسيطر على الاختلاف وتلغيه تحولت إلى دول شمولية تسلطية واستبدادية ثم انهارت، وكانت هذه المحاولة، بما فيها من عسف وقسر وإكراه ومعاندة لطبيعة الأشياء، في أساس انهيارها. وبغض النظر عن جميع التفصيلات الأخرى، فإن أسباب انهيار الدول الشمولية والتسلطية هو مخالفتها لـ “قوانين الطبيعة” التي هي قوانين العقل.

وهذا التناقض بين الاختلاف والاتفاق هو تناقض جدلي بالطبع، أي إن الحاكم يمكن أن يصير محكوماً والمحكوم يمكن أن يصير حاكماً، بحكم استحالة دوام الاتفاق، كما أشار روسو، أي بحكم استحالة ثبات أوضاع المجتمع، أي مجتمع، على ما هي عليه، وبحكم عدم ثبات الأفراد على ما هم عليه. الدولة لا تستمد سيادتها من عدد مواطنيها، وإلا لكان هناك تفاوت وتفاضل في السيادة بين الدول، بحسب عدد السكان، والواقع لم يقل ذلك، ولا يقول ذلك اليوم. لا تفاوت ولا تفاضل بين المواطنين الأحرار والمستقلين في الدولة الواحدة، ولا تفاوت ولا تفاضل في السيادة بين الدول الحرة والمستقلة؛ الاستقلال والسيادة مقولتان متلازمتان، سواء على صعيد الأفراد أو على صعيد المجتمعات والدول. السيادة، بما هي إرادة عامة، أو بما هي سيادة الأمة وسيادة الشعب، دائمة بدوام هذه الإرادة، وشاملة بشمولها، وغير قابلة للتصرف، وغير قابلة للتفويض للأسباب ذاتها. ولكنها في جميع الأحوال ليست سيادة مباشرة على الأفراد، وقد صاروا مواطنين أحراراً ومستقلين؛ بل موسَّطة بالقانون؛ فعلاقة الفرد بالدولة لم تعد علاقة مباشرة وشخصية، أي علاقة تبعية، بل صارت علاقة موسطة وغير مباشرة وغير شخصية، تجري في تنظيمات المجتمع المدني ومؤسساته، فهذه المؤسسات والتنظيمات، ولا سيما النقابات والأحزاب السياسية، هي شكل التوسط لعلاقة الفرد بالدولة، وميدان ممارسته السياسة بمعناها الحديث، وقد غدت لصيقة بمفهوم المواطنة وملازمة له.

يقول روسو: “التعهدات التي تربطنا بالهيئة الاجتماعية ليست ملزمة لنا إلا لأنها متبادلة، وطبيعتها تظل كما هي، حتى إن الواحد لا يمكنه أن يعمل لغيره دون أن يعمل لنفسه أيضاً: لمَ تكون الإرادة العامة على صواب في كل وقت؟ ولماذا يريد الجميع دائماً سعادة كل “واحد” من المجموع إلا إذا كان ذاك لسبب أنه ما من “أحد” إلا يستملك لنفسه كلمة “كل واحد”، ولا يحلم إلا بنفسه عند التصويت للجميع؟ ويثبت هذا أن المساواة في الحق وإدراك العدل الذي ينجم عن هذه المساواة يتفرعان من إيثار النفس، وبالنتيجة، من طبيعة الإنسان؛ وأن الإرادة العامة لكي تكون هي إياها يجب أن تكون في غرضها وجوهرها، وأن تصدر عن الجميع لكي تطبق على الجميع؛ وأنها تضل جادة السداد والصواب عندما تهدف إلى غرض شخصي معين؛ لأننا عندما نحكم على شخص غريب عنا لا يكون لدينا مبدأ من الإنصاف يهدينا” (ص 47).

ولا يتأتى ذلك إلا إذا نأت الإرادة العامة بنفسها عن الفصل في القضايا الخاصة، بغير طريق القضاء المستقل؛ فليس من شأن الإرادة العامة أن تعاقب الأفراد أو تثيبهم، أو تحمل أحدهم أو بعضهم أعباء غير التي يتحملها الآخرون، وحين تفعل ذلك تغدو طرفاً في الخصومة مع إرادة خاصة. ليس للإرادة العامة أن تكون مشرّعاً وقاضياً ومنفذاً في الوقت نفسه، وهو ما أوجب فصل السلطات وسيادة القانون. “هيئة السيادة لا تعرف إلا هيكل الأمة” (ص 48) فلا تعنى إلا بما هو عام. “بالميثاق الاجتماعي وهبنا للهيئة السياسية الوجود والحياة، فعلينا الآن أن نهب لها الحركة والإرادة؛ لأن العهد البدائي الذي به تتكون هذه الهيئة لا يحدد شيئاً مما يجب أن تعمله لحفظ نفسها .. لذلك وجب أن يكون هناك عهود وقوانين للجمع بين الحقوق والواجبات، ولرد العدالة إلى غرضها. ففي الحالة الطبيعية، حيث الأشياء كلها مشتركة، أنا لست مديناً بشيء لمن لم أعده بشيء، ولا أعترف لسواي بملكية شيء، إلا إذا كان هذا غير نافع لي؛ وليس الأمر هكذا في الحال المدنية التي حدد فيها القانون جميع الحقوق.

مبدأ القانون أن “الإرادة العامة لا تقع على غرض خاص”. فالقانون يمكن أن يمنح امتيازات، ولكن ليس بوسعه أن يمنحها لأشخاص محددين بأعيانهم، وإلا كف عن كونه قانوناً، لأنه كف عن كونه عاماً. حتى التكريم المعنوي، لأشخاص بأعيانهم لخدمات جليلة وأعمال استثنائية، لا تكون بقانون بل بمرسوم. وليس بوسعه كذلك أن يعاقب على أفعال أو أعمال خاصة محددة لأشخاص معينين، ويظل مع ذلك عاماً. القانون لا ينظر إلا إلى الأشخاص المجردين والأفعال المجردة؛ فهو إذ يعاقب على السرقة والاختلاس، مثلاً، لا يسمي سارقاً بعينه أو مختلساً بعينه، ولا يسمي المال الذي يقع عليه فعل السرقة أو الاختلاس، ولا يسمي كذلك أنواع السرقات والاختلاسات وحالاتها التي لا تقع تحت حصر، بل يترك ذلك لاجتهاد القضاء في كل حالة خاصة على حدة. إن عمومية القانون وتجرده يحددان الفارق النوعي بين الدولة الحديثة وأنظمة ما قبل الدولة. “والقوانين ليست في ذاتها إلا شروط الشركة المدنية. فالشعب الخاضع لهذه القوانين يجب أن يكون هو الواضع لها، لأن الشركاء الذين يؤلفون الشركة يملكون وحدهم حق وضع شروطها” (ص 55) ولذلك فإن كل دولة يحكمها القانون هي “جمهورية” بالمعنى الذي أشرنا إليه مراراً، أياً كان شكل إدارتها أو نظام حكمها. وتجدر الإشارة إلى أن روسو يعرف الإرادة العامة بأنها القانون. وقد أشرنا إلى أن القانون هو روح الدولة وماهيتها، وليس ذلك إلا لأنه روح الشعب. والقانون لا يكون كذلك إلا إذا توفر على عمومية الإرادة وعمومية الهدف، وإلا فلا موجب لطاعته واحترامه والعمل بمقتضاه، ولا مسوغ لسموه. وما دام الأمر كذلك فإن هيئة السيادة بحصر المعنى هي التي تضع القانون، وليست هذه سوى السلطة التشريعية المنتخبة انتخاباً صحيحاً. على أن من الواجب أن تكون هيئة السيادة مستنيرة، ولا يتأتى لها ذلك إلا باجتماع الإرادة والفهم. (وحدة الفكر والسياسة)

الخير العام الذي تنشده الإرادة العامة وتضطلع به هيئة السيادة مرده، عند روسو إلى غرضين أصليين: “الحرية والمساواة؛ الحرية، لأن كل تبعية خاصة هي انتزاع مقدار من القوة من جسم الدولة؛ والمساواة، لأن الحرية لا تستطيع أن تبقى من دونها”. والمساواة التي لا تستطيع الحرية أن تبقى من دونها ليست مساواة في القوة والغنى على الإطلاق، بيد أن القوة لا ينبغي أن تمارس إلا “بمقتضى المرتبة والقوانين” .. “فيجب ألا يكون أي من المواطنين على درجة من الثراء تمكنه من شراء غيره، وألا يكون هناك مواطن بلغ من الفقر حداً يضطر معه إلى بيع نفسه. وهذا ما يفترض الاعتدال عند الأغنياء والفقراء، ويفترض أن تضع الإرادة العامة حداً للتطرف من أي جهة أتى، التطرف في الغنى والثراء، أو التطرف في الطمع وطلب ما للغير أو مال الغير. هذا الاعتدال (التقريب بين الدرجات القصوى في الغنى والفقر) يمنح الدولة قوة وصلابة وتوازناً واستقراراً. “بيد أن هذه الأغراض العامة التي لكل مؤسسة صالحة، يجب أن يصار إلى تعديلها في كل بلد، بمراعاة العلاقات التي تنشأ عن الوضع المحلي، وعن طبائع السكان .. والذي يجعل تكوين الدولة متيناً متانة حقيقية هو مراعاة التوافق مراعاة تامة، بحيث تتفق العلاقات الطبيعية دائماً مع القوانين على النقاط ذاتها، وتنحصر مهمة هذه القوانين في تثبيت تلك العلاقات ومماشاتها وتصحيحها. .. وإذا ما أخطأ المشترع في غرضه واتخذ مبدأ يخالف المبدأ الذي ينبثق من طبيعة الأشياء .. فإنك ترى القوانين آخذة في الضعف .. والبنية آخذة في الفساد، ولا تنقطع الدولة عن الاضطراب حتى تتداعى أو تتبدل وحتى تكون الطبيعة التي لا تغلب قد استعادت سلطانها. (ص 73-74)

أجل إن مراعاة التوافق بين قوانين الدولة وطبيعة الأشياء هو ما يجعل سياستها عقلانية ومستنيرة. وطبيعة الأشياء في هذا السياق لا تعدو أن تكون منطق الواقع، ببعديه الزماني والمكاني، التاريخي والكوني. والاستقرار الاجتماعي والسياسي، وفق منطق التوافق، يعني اتساق القوانين العامة والممارسة السياسية مع منطق الواقع المتغير باستمرار، وإلا فإن الاستقرار يغدو ركوداً تتفسخ معه بنى المجتمع والدولة على السواء. وبمقدار توافق قوانين الدولة وقوانين الواقع الذي هو واقع البشر أنفسهم ومن إنتاجهم، تتحول القوانين، في نهاية المطاف إلى نوع من قانون أخلاقي يجعل من احترام حقوق الآخرين وحرياتهم موقفاً جوانياً هو سمة الإنسان المتمدن. فإن غاية القوانين القصوى هي أنسنة العلاقات الاجتماعية، بما فيها العلاقات السياسية بالطبع. ومن ثم فإن معيار قوة الدولة السياسية التي تؤكدها جميع البحوث النظرية هو قدرتها على حماية الحرية، حرية جميع مواطني الدولة بلا استثناء. ولا ضير في توكيد حقيقة أن الدولة الحرة هي تلك التي يكون جميع مواطنيها أحراراً.

يميز روسو على نحو واضح لا لبس فيه الدولة أو هيئة السيادة التي تتكثف في السلطة التشريعية، من الحكومة، بما فيها رأس الدولة أو رئيسها. فالأولى، أي الدولة “كائنة بنفسها” أي بالعقد الاجتماعي الحر والطوعي، أما الثانية، “فلا تكون إلا بهذه السيادة”. لنقل إن الأولى هي الحكم والثانية هي أداة الحكم تكتسب جميع خصائصها من غاية الحكم، وتستمد مشروعيتها من هيئة السيادة.

يطالعنا في بعض أقسام كتاب “العقد الاجتماعي” نوع من “فيثاغورية اجتماعية”، ولا سيما في موضوع العلاقة بين قوة الدولة وعدد سكانها، تصل به أحياناً إلى القول: “كلما كبرت الدولة نقصت الحرية”. وأراني أميل إلى القول بخلاف ذلك لأن نسبة مشاركة المواطنين في الدولة ليست في الأساس نسبة عددية؛ فالمواطنون يشاركون في الدولة بالخصائص المشتركة فيما بينهم، وهذه لا تزيد ولا تنقص بزيادة عددهم أو نقصانها. فمهما كبرت الدولة تظل العناصر المكونة للعقد الاجتماعي هي ذاتها العناصر المشتركة بين مواطنيها، وهذه خصائص نوعية أو ماهوية، لا كمية، ولذلك افترض أنه كلما كبرت الدولة وجب أن تزيد قوتها وتزيد حرية مواطنيها في الوقت ذاته. فكلما كبرت الدولة واستقامت حياتها السياسية وجب أن تتولى مؤسسات المجتمع المدني بعضاً من وظائفها، فالدولة لا تقوم إلا بما يعجز الأفراد عن القيام به فرادى ومجتمعين وهذا يزيد في قوة الدولة ولا ينتقص منها. لذلك، أفترض أن العلاقة بين قوة الدولة وحرية مواطنيها علاقة طردية، لا علاقة عكسية، كما يفترض كثيرون ممن يرون تعارضاً بين حرية الفرد وقوة الدولة. ولعل روسو ظل وفياً لفكرة أفلاطون عن عدد سكان الجمهورية. كما أن وصفه الحكومة بأنها هيئة وسيطة بين المواطنين وهيئة السيادة قول فيه نظر، لأنه يمنح الحكومة صفة سيادية ليست لها. الصفة السيادية للحكومة هي للقانون الذي ينبغي أن تعمل بمقتضاه. الحكومة أو السلطة التنفيذية تفتقر إلى جميع شروط السيادة التي تتمتع بها السلطة التشريعية، فجميع قراراتها وممارساتها خاضعة لموافقة السلطة التشريعية وتصديقها. أتحدث هنا عن دولة حق وقانون، أي عن دولة سياسية لا تنطبق مواصفاتها على أي من الدول العربية القائمة اليوم. (راجع ص 79 وما بعدها)

في الدول عامة، وفي الدول الكبيرة خاصة لا بد من حكومات قوية، ولكن، كلما قويت الحكومة تزداد لديها ميول تجاوز حدود سلطتها التي تعينها السلطة التشريعية؛ فإذا ما اختل التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بين الحكومة وهيئة السيادة، وجنحت الأولى إلى القيام بدور الثانية، تأخذ الدولة بالتحول تدريجياً إلى نوع من دولة تحكمية وأوامرية، أي إلى نوع من دولة تسلطية. والعاصم من ذلك، وعلاجه بعد وقوعه، هو قوة السلطة التشريعية وصحة تمثيلها للشعب، وقدرتها على لجم الحكومة وكبح جموحها وجنوحها.

“مبدأ الحياة السياسية هو في سلطة السيادة. فالسلطة التشريعية هي قلب الدولة، والسلطة التنفيذية دماغها الذي يبعث الحركة في جميع الأجزاء. وقد يمكن أن يصاب الدماغ بالشلل، ويظل الشخص حياً، وقد يظل إنسان ما أبلها، ولكنه باق على قيد الحياة. ولكن حالما يتوقف القلب عن أداء وظائفه فإن الحيوان يدركه الموت. وليس بالشرائع بقاء الدولة، بل بالسلطة الاشتراعية. وقانون الأمس لا يلزم اليوم، ولكن القبول الضمني يفترض وقوعه بقرينة السكوت. وتعد القوانين مثبتة من هيئة السيادة ما لم تبطلها، إذا كان هذا في مقدورها، وكل ما أرادته هيئة السيادة مرة، وأعلنت عن إرادتها هذه، فإنها تريده دائماً، ما لم تقم بنقضه؟ (ص 119). فإذا غضضنا النظر عن التشبيهات التي يكثر منها روسو، لتقريب أفكاره من الأذهان، يتبين لنا أن حياة الدولة منوطة بالسلطة التشريعية، أي سلطة السيادة، وهي سلطة بسيطة غير قابلة للانقسام أو التقسيم، وغير قابلة للتفويض، ولا يمكن أن تُمثَّل، لأنه لا يجوز التصرف بها، وهي في جوهرها تقوم على الإرادة العامة، والإرادة لا تمثل أبداً، فهي إما هي وإما غيرها، ولا وسط لهذا؛ فنواب الشعب إذن لا يمكن أن يمثلوه، وهم ليسوا ممثليه، بل مندوبون عنه، أو مفوضوه؛ فلا يمكنهم أن يقروا أمراً ما بصورة نهائية. فكل قانون لم يوافق عليه الشعب بنفسه ليس بقانون. (ص 127) وأن مختلف صور الفساد والانحراف والتفسخ والانحلال إنما ترجع إلى اختلال التوازن بين السلطات الثلاث، ولا سيما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أو إلى حلول الثانية (السلطة التنفيذية) محل الأولى، مما ينتهي إلى أسوأ العواقب. “إنه لمن السخافة والتضاد والتناقض أن تقيم هيئة السيادة رئيساً عليها” (ص 132)، فتلتزم طاعته. فإن “إنشاء الحكومة ليس البتة عقداً، إذ ليس في الدولة سوى عقد اجتماعي واحد، ولكنه قانون؛ وإن مستودعي السلطة التنفيذية ليسوا البتة سادة الشعب، بل ضباطه، وأن الشعب يمكنه توليتهم وعزلهم متى شاء، وأنه ليس من شأنهم التعاقد، بل الطاعة، وإنهم، بممارستهم الوظائف التي تعهد بها الدولة إليهم، إنما يقومون بواجبهم كمواطنين، من دون أن يكون لهم حق المنازعة في الشروط”.(ص 135)



[1] – يؤكد روسو أن الحرب تكون بين دول، لا بين أفراد، فمواطنو دولة ما ليسوا أعداء شعب الدولة التي تعاديها دولتهم وتحاربها. وإذا كان من المكن قبل الدولة من غير قبل فرد واحد من رجالها، فإن الحرب لا تخول أي حق لا يكون ضرورياً للوصول إلى غايتها المنشودة. ويضيف: “أما حق الفتح فلا أساس له سوى شريعة الأقوى، وإذا كانت الحرب لا تخول الغالب حق إيقاع مذبحة في الشعوب المغلوبة، فإن هذا الحق الذي حرمه لا يصلح أن يكون اساساً لحق استعباده لتلك الشعوب”. ص 21



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى