مها عمر - الجاحظة

أقدم لكم نفسي . أنا التي أعرف كل شيء.

كانت الفتاة تلعب الحجلة أمام سور الكراج القديم في قريتهم الحدودية الصغيرة . الكراج مليء بسيارات النقل الضخمة التي يشترك التجار الحدوديون في ركن ناقلاتهم العملاقة فيها. كانت الجاحظة تلعب الحجلة أمام الجراج، ونسيت وصية أمها بالعودة إلى البيت لجلب الحليب لأخيها الرضيع.

بدأ النهار يلملم عباءته حين غلبها النعاس، وأذن الشيخ علوان لصلاة المغرب، ثم دخلوا القرية. كانوا كُثرًا؛ رجال في ثياب سوداء يمشون جماعات، يقتلون الدجاج بالرصاص للتسلية. مروا بالشيخة ناعسة وهي راقدة جوار معزتها. أخذ أحدهم المعزة ثم كمم الشيخة وخنقها حتى ماتت.

رأت الجاحظة هذا من خلال كراج قديم. كل أهل قريتها يتم إعدامهم رميًا بالرصاص أو خنقًا لتوفير الرصاص. حرق المغيرون الأرض المزروعة وسرقوا البهائم، وما لم يستطيعوا حمله قتلوه. حرقوا أطفالًا وقتلوا مسنين. رأت نسوة يُغتصبن من الأمام ومن الخلف الليلة بطولها. رأتهم يهدمون المنارة الصغيرة التي كانت تُرشد السفن. هدموا كل المعابد وذبحوا بقرة وعلقوا رأسها على إحدى المآذن.

كان للجاحظة اسم قبل المذبحة لكنها بعدما شهدتها جحظت عيناها. عاشت بعدها ثلاثين عامًا، لكن الزمن توقف عند تلك الليلة للأبد. حين بدأ الناس يألفون خط الزمن الموازي للمذبحة، ذلك الذي يمشي جوار الذاكرة، وجوار الصور، والحكايات. كانت الجاحظة تجسيدًا للذكرى.

اتخذ عقلها مسارات لا تشبه شيئًا، فراحت تكلم الحيوانات وكلما مشت تبعها طائفة من الكلاب، أو تمر على عجل العيد وهي تظنه يستغيث بها، فتنهره لأن الموت أبقى، أو تشتم البقرة الذاهبة إلى حتفها في العيد قائلة: لماذا إذًا كنتِ تظنين أنهم يعطونك الطعام يا خائبة الرجا؟

وكانوا ينادونها لمساومة الخيل الهائجة أو لتهدئة جمل عنيد. ذهلت الجاحظة عن الدنيا فكانت ترى ولا ترى، وتعقل ولا تعقل. وكأنها تعرف الآتي ولا تدفعه عن نفسها. كان جنونها هشاشتها وحمايتها في ذات الوقت من بطش الناس.

في كل ليلة تذهب الجاحظة إلى سلواها حيث قبور الأحبة، تحاكيهم وتناديهم وتجادلهم وتسايرهم. على قبر صاحب المعاناة تضع السعف وتحوقل، وترمق الزائرين بعد طول غياب بنظرات عتاب قاسية، وتبادر المحبين بلهوها البريء في مجالستهم والسير حول قبر صاحب الذكرى.

الجاحظة قد تطرق باب أي بيت تطلب الطعام أو الاستحمام أو الاحتماء من المطر. كان لها حاجبان كثيفان، وأنف أفطس طويل، وشعر أسود كثيف يمتد حتى منتصف ظهرها. كان لها وجه دمرت ملامحه شدة الانفعال. عروق متصلبة وعين يحيطها أخدود من الهالات السوداء، وشحوب شديد كأنها لا تنام منذ ولدت.

يمر الزمن ولا يذكر الناس من أي عائلة كانت الجاحظة، ولا ما هو اسمها الحقيقي. أصبحت ظاهرة طبيعية كالمطر و العواصف.

في ليلة منتصف الشهر، حيث يصادف مولد الولي، ذاع خبر مداح جديد. اجتمعت النسوة في سطوح أحد المنازل، حيث يسمعن ويتسامرن ويشربن الشاي، ويتمايلن مختفيات خلف الأسوار أحيانًا. إلا الجاحظة التي سمح لها جنونها أن ترى المداح ويعذرها شيبها للتمايل مندمجة مع نغم الربابة الشجي.

وقع بصرها عليه باسمة لاهية فتوقفت. وجعلت تصرخ وتصرخ وتصرخ حتى أغمي عليها. ظن الجمع أن نوبة لوث جديدة أصابتها، لكنها كلما أفاقت أشارت ناحيته ومثلت علامة الذبح على رقبتها. والناس في فهمها حائرة. الجيل الذي يغني ويربي الدجاج ويضحك ملء فمه لم يشهد المذبحة، وكلهم يعلقون صورة الأجداد ويتوارثون القصص ميراثًا ثقيلًا من الموت.

اقترب المداح من الجاحظة فنبح عليه كلب حتى كاد أن يعضه. تطير الناس من المداح دون أن يفهموا شيئًا. وأمروه بمغادرة القرية.

أما الجاحظة فظلت لوقت طويل في ركن الكراج القديم، تتابع عليها المشاهد تهزها كما يفعل الله بمركب في بحر عاتي الموج. لا، لم تمت الجاحظة تلك الليلة. ماتت وهي ترقص في زفاف ابنة وجيه من الوجهاء. رقصت حتى سخر منها الشباب والعجائز. ثم هبطت على الأرض مرسلة ابتسامة واسعة للسماء، تاركة أهل القرية يتطيرون من الزفاف ومن الوجيه وابنه وعروسه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى