عمر عباس - أنين الناي.. قصة قصيرة

ها أنت تستقبل هذه الليلة بوجد عظيم ، تترقب ساعة المولد الشريف وحلقة الذكر ، يغفو ضوء المصابيح الواهن لكنك توقظ لسانك وقلبك ، تُمسك بخيطك العتيق ، ترص حبات التسبيح والحمد والتهليل جنباً إلى جنب ، تسأل الله أن يجلو ما بقلبك من ران ، حتى ترى بعين قلبك أنوار ليلى ، تمني أمارتك بالسوء بوصلها ، تأخذك سِنة .. تفتح عينيك على نوبة سعالها .. تُخرج تلك العبوة .. تستنشق قليلاً من رذاذ الحياة ، يعود السكون لصدرها ، تسأل الله لها الشفاء .. ينقبض قلبك فتبسطه بالصلاة على النور .. ترددها بلسان لا يفتر، تشتاقه ، تخنقك عبرة ، تبكي بلا نحيب ، تهمس : ألا يا رسول الله إني مغرم .
لا يعلم أحد من قاطني الحي من أي فج عميق أتى الجنيد ، سنواته الممتدة التي مكث فيها ضمن حدوده لم تش بذلك ، لم يطرق بابه غريب كأنه مقطوع من شجرة ، يقبع في نصف دار مستأجرة رثة ، فضاؤها غرفة يتيمة بجانبها عريشة من البوص ، يقتسمها مع ابنة عمه التي أنهكها الفقر والمرض ووحيدها عيسى ، تشاطرهم فناءها بعض ذوات الأربع وشجرة نيم وارفة ، ينسل في الظلمة قبل أن ترمي الشمس بشرر ضياءها على الأرض ، عمله كبائع متجول في موقف الحافلات يحثه على التبكير.
طائر القمري على شجرة النيم يشجيك شدو تسبيحه ، تناغيه .. ترفع هامتك تشاركه شدوه ، وقبل أن تهم بالمغادرة هاهي ذي نعمة تذكرك بنفاد عبوة الرذاذ ، ترتسم على محياك ابتسامة باهتة ، تطأطئ رأسك في صمت ، لكن عقلك يضج بعشرات الأسئلة ، أنى لك ثمنها وقد رفع طغاة الحكم الدعم عن الدواء ؟ ... كيف ؟ ... ومن أين ؟ لكن بدونها لن تستطيع رئتي نعمة امتصاص الأكسجين ، خرجت تتلمس الطريق ، سبع عجاف أمضيتها بين موقف الحافلات وبين هذا الحي ،تدور كثور ساقية ، أوهنت خطاك الطريق لكن مدخراتك صفر كبير ، ما تحصل عليه من جنيهات يقيم صلبك فقط ويحفظ حياتك من الفناء .
ها أنت تيمم شطر الموقف وكلك أمل بربح وفير ، تسأل الله أن يقيك شر غارات شرطة المحلية ، تلك الغارات التي تلتهم أحياناً آمال الباعة المتجولين برزق وفير ، فيعودوا محملين بخيباتهم بعد أن ألهبت ظهورهم سياط الفقر والعوز ، بل وأكثر من ذلك أحياناً فهي تحملهم أعباء على أعبائهم ، فكيف يوفون ثمن البضاعة المستدانة بعد مصادرتها ، أصبحوا يجيدون عملية الكر و الفر ضد الغارات ، بعد أن قاموا بإنشاء مراكز إنذار مبكرة على أطراف الموقف ، تدوي صفارة أحدهم محذرة الجميع باقتراب وقوعها ، فيجمعون بضاعتهم على عجل ويختفون في لمح البصر ، حدثتك نفسك : لكن عليك أن تعمل اليوم بهمة ونشاط لتعود باكراً وتلتحق بحلقة الذكر ، أيضاً نعمة بانتظار الدواء ، حينها شرعت في ترتيب عروضك ، لم يكن الأمر عسيراً عليك ، بعد أن أتقنت لغة البيع والشراء ومهارة الاقناع ، كل شيء يسير بهدوء وسلاسة إلا عنفوان الغارة ، أتاكم من حيث لم تحتسبوا ، أبطل مراكز الإنذار المبكرة ، عصف بعروض الباعة وقذف في قلوبهم الفقر ، أطاحت الغارة بكل آمالك ، ها أنت ذا تذهب مغاضباً بفؤاد فارغ ، تعزي نفسك بكلمات حفظتهن عن ظهر قلب لشيخك : (من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال والنقاء والعصمة ، لكن من الصعب أن تحب إخوانك البشر بكل نقائصهم وعيوبهم ، وهنا يتجلى معنى حب الله ) ، لكن ما بال حزنك أشد ، وكأن هامتك قد كسرت ، فقد اعتدت على مثل هذه الغارات ، أكل هذا بسبب الدواء ! همس شيطانك بخبث : لقد سترتها برباط شرعي بعد أن حملت سفاحاً لسنين عددا ، ألن تسترك ليومين !؟ استعذت بالله منه .. زجرته و طردت وساوسه .. استغفرت الله كثيراً وعدت محملاً بخفي حنين .
دلفت في صمت مطبق على غير العادة ، تخشى أن ترى نظرة الهزيمة في عينيك ، وهي كعادتها تخشى أن تريك العار في عينيها ، لبست المرقعة فعاد الاخضرار لقلبك ، ودعتها بقبلة بين عينيها ، كتمت عنك هدير سعال متعاظم ، انحنت .. قبلت يمينك ، لحظات من عاطفة وصمت ... هديل القمري حزين كأنين الناي .. ....بدا كأنه يذكرك بشجرة النور ... بعدها عادت الطمأنينة لنفسك .
وجهت وجهك تجاه المسيد ، هدير صوت الطبل يقترب أكثر ، أنفاس الذاكرين تعلو وتهبط وهو يرددون : حي قيوم ، التحمت بالدائرة ونظرك معلق بمركزها ، دقات الطبل يتردد صداها في فؤادك فيخرج ألف الجلالة مدوياً في الآفاق ، أصوات التهليل تقطع سكون الليل كما قطع سيف الحق عنقك ذات مرة ، تنتابك رعشة تسري في أطرافك ، تترجمها بآهة عظيمة ، وبعد أن فاض بك الوجد حملتك خطاك إلى المركز ، تدور عكس عقارب الساعة بعد أن توقفت ساعتك البيولوجية ، تدور على ساق واحدة بعد أن انعتقت الأخرى من قيود الجسد وأغيار الأرض ، تغمض عينيك لتفتح عين الروح المؤصدة ، هاهي ذي تقاوم جاذبية الأرض لتحلق في عالم الأنوار ، تشهد الوجود الحق ، هاهو ذا برق أنواره يلمع في ظلمة روحك السرمدية ، امتلأ مصباح مشكاتك من زيت النور ، لكنك تطلب المزيد .. لكن غارة البرق أشد .. ها أنت تخر صعقاً في مركز الدائرة ، تعود لترابيتك بفم مفتوح امتلأ بذرات الرمال وعينين نصف مفتوحتين ، وعبوة رذاذ الحياة تطل برأسها من تجويف يمناك،بعد أن امتلأت من جديد .
  • Like
التفاعلات: مليكة ابابوس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى