غابرييل جارسيا ماركيز - أحلام للإستئجار .. ترجمة: علي زين

في تمام الساعة التاسعة صباحاً، وبينما كنا نتناول طعام الإفطار على شرفة فندق الريفييرا في هافانا، ظهرت لنا موجة بحرية مرعبة من العدم – إذ كان يوماً مشمساً وهادئاً – موجة حين اقتربت منّا حطّمت كل شيء أمامنا. موجة اقتلعت ورفرفت بالسيارات التي كانت تمر على طول الواجهة البحرية عالياً، كما طيّرت العديد من السيارات الأخرى التي كانت مركونة في أماكن قريبة. موجة عنيفة نثرت السيارات في الهواء حتى اقتربت إحداها منّا محطمةً إحدى جوانب الفندق. كان الأمر أشبه بانفجار الديناميت، انتشر ذعر الموجة البحرية صعوداً وهبوطاً خلال الطوابق العشرين من مبنى فندق الريفييرا، وتحولت الردهة إلى مجرد كومة من الزجاج المكسور؛ فقذفت الموجة بالعديد من نزلاء الفندق وعامليه، وألقت بهم في العراء مثل بقية مقتنيات الفندق وأثاثه، فأصيب العديد منهم، وتألموا وهم تحت وابل شظايا الزجاج ذاك وانهماره من كل مكان.

كان الفندق محميّاً من أمزجة البحر بجدار مرتفع، وشارع ذي اتجاهين عريضين يمر خلفه؛ لكن الموجة اندلعت بقوة شديدة لدرجة طَمْس اللوبي الزجاجي. ولا بدَّ أنها كانت موجة استثنائية في حجمها ونسبة ذعرها. عمل المتطوعون الكوبيون وبدعم من فرقة الإطفاء المحلية على تنظيف الأضرار ومساعدة الجرحى، وفي أقل من ست ساعات، وبعد إغلاق مدخل الفندق المطل على البحر وفتح آخر بديل، عاد كل شيء إلى طبيعته.


بدا لي طوال ذلك الصباح أن أحداً لم يكّلف نفسه عناء الانتباه للسيارة التي تحطمت على جدار الفندق، معتقدين أنها كانت من بين السيارات المتوقفة على طول الطريق قبل حدوث الموجة؛ ولكن بحلول الوقت الذي أُزيلت فيه الرافعة من أرجاء المكان، اكُتشفت جثة امرأة بداخلها، امرأة كانت مثبتة على مقعد القيادة بوساطة حزام المقعد؛ كانت الضربة حادة جداً عليها لدرجة أنه لم يكن هناك مفصل أو عظم في جسدها إلا وبات مكسوراً. كما أن وجهها كان فوضوياً ولا يمكن التعرف عليه بأي طريقة، وكانت ملابسها في حالة يرثى لها، وأمّا عن زوجيّ أحذيتها فقد انفتقتا متفجرةً هي الأخرى عن مفصليّ كاحليها؛ ولكن كان هناك شيءٌ غريبٌ تبقى منها، كان هناك خاتم لم يتضرر، خاتم ما زال إصبعها يرتديه: خاتم تم صُنعه على شكل ثعبان مع حجرين كريمين من الزمرد في عينيه.

صرّحت الشرطة بأن تلك المرأة كانت مدبرة منزل للسفير البرتغالي الجديد وزوجته. في الواقع، كانت قد وصلت معهما قبل خمسة عشر يوماً فقط، وكانت متجهة في ذلك الصباح للتبضع من السوق بسيارتهم الجديدة. لم يكن اسمها يعني لي شيئاً عندما قرأت عن الحادثة في الصحف؛ غير أني شعرت بالذهول من ذلك الخاتم، الذي صنع على شكل ثعبان مع حجرين كريمين من الزمرد في عينيه، ولم أتمكن، لسوء الحظ، من معرفة صاحبة الإصبع الذي اعتنق ذلك الخاتم.

لقد كان ذلك الخاتم تفصيلًا أساسيًّا بالنسبة لي في كل ما حدث، كنت أخشى أن تكون هذه المرأة شخصاً عرفته ولم يتسنَ لي بعد نسيانه تماماً، على الرغم من أنني لم أميّز أو أتعرف على اسمها الحقيقي أبداً في الصحف. ولكن ما دعاني لهذا الشك، هو المرأة التي خطرت على بالي حينها، والتي كان لها أيضاً خاتم مصنوع على شكل ثعبان، مع حجرين كريمين من الزمرد في عينيه؛ إلا إنها كانت ترتديه دائماً في الإصبع الأول من يدها اليمنى، وهي الطريقة غير المعتادة للبس الخاتم، خاصةً في تلك الفترة.

لقد قابلت تلك المرأة قبل ستة وأربعين عاماً في ڤيينا؛ حيث كانت تأكل النقانق والبطاطا المسلوقة، وتشرب البيرة مباشرة من الزجاجة في حانة كان يرتادها، ويتردد عليها طلبة أميركا اللاتينية. كنت قد وصلت قادماً من روما في صباح ذلك اليوم، وما زلت أتذكر ذلك الانطباع الذي أحدثه حضن مغني الأوبرا لديها، أتذكر تدّلي فرو ذيول الثعلب حول عنقها، وياقة معطفها، وأتذكر أيضاً وهو الأهم، خاتمها المصري المصنوع على شكل ثعبان في إصبعها الأول.

تحدثت ليَ حينها بإسبانية بدائية، وأشبه بلكنة صاحب متجر لاهث، فافترضت أنها يجب أن تكون نمساوية، وهي الوحيدة على تلك الطاولة الخشبية الطويلة؛ لكنني كنت مخطئاً لأنها ولدت في كولومبيا، وبين الحربين سافرت إلى النمسا لدراسة الموسيقى والغناء. وعندما واجهتها، كان يمكن أن أخمن أن عمرها كان في حوالي الثلاثين عاماً، إذ بدأت ملامح التقدم في العمرعليها قبل أوانها، ومع ذلك، فقد كانت امرأة ساحرة، وكذلك، واحدة من بين أكثر الناس المخيفين الذين قابلتهم في حياتي على الإطلاق.

في ذلك الوقت - أي أواخر الأربعينيات - لم تكن ڤيينا أكثر من مدينة إمبراطورية قديمة حوَّلها التاريخ إلى عاصمة إقليمية نائية تقع بين عالمين لا يمكن التوفيق بينهما، مدينة خلفّتها الحرب العالمية الثانية، كجنة للسوق السوداء والتجسس الدولي. ولم أستطع حينها أن أتخيل أن من الممكن للبيئة المحيطة بنا آنذاك أن تتلاءم بطريقة ما مع الرفاق الهاربين، الذين استمروا في تناول الطعام في حانة الطلاب، وفي زوايا الحانات فقط بتلك الاطراقة المضمخة بالحنين إلى جذورهم. لم أستطع تخيل ذلك لأنها كانت تملك ما يكفي من المال لشراء المكان بأكمله، بما في ذلك وجبات العشاء، ولم تكن مجبورة مثلنا على المكان. لم تخبرنا أبداً باسمها الحقيقي؛ ولذلك كنّا نشير إليها دائماً، وبأحرف ألمانية شاقة أختارها لها طلاب أميركا اللاتينية في ڤيينا بـ: فراو فريدا. ولم نكد نتعرف على بعضنا حتى ارتكبت حماقتي المتهورة بسؤالها كيف جاءت إلى ڤيينا، وكيف وجدت نفسها هنا، في جزء من العالم يبدو بعيداً جداً، ومختلفاً تماماً عن طبيعة مرتفعات كوينديو في كولومبيا؛ فأجابت بواقعية محضة:

- «أنا أؤجر نفسي لأحلم للآخرين».

كانت تلك مهنتها إذاً: «أن تحلم». أخبرتني أنها الإبنة الثالثة من بين أحد عشر طفلاً لأب كان صاحب متجر مزدهر من منطقة كالداس القديمة. وبحلول الوقت الذي تعلمت فيه الكلام، كانت قد اعتادت أن تقول كل أحلامها قبل الإفطار، وذلك عندما كانت قوة حدسها -حسب قولها- في أوّج نقائها. في سن السابعة، كانت تحلم بأن أحد إخوتها قد جرفه سيل عارم؛ فرفضت الأم -بتسليم عصبي- السماح لابنها بالقيام بأكثر ما كان يستمتع به، وهو السباحة في مضيق النهر المحلي. ولكن «فراو فريدا» كانت قد طورت بالفعل نظامها الخاص لتفسير رموز نبوءاتها.

- «ما كان يعنيه الحلم» أوضحت لي: «هو ليس أنه سوف يغرق؛ بل يجب ألا يأكل الحلوى».

كان ذلك التفسير بمثابة عقاب فظيع، خاصة بالنسبة لصبي يبلغ من العمر خمس سنوات، ولم يستطع تخيل الحياة دون حلوى يوم الأحد؛ لكن الأم، التي اقتنعت بالقوى الإلهية لابنتها، ضمنت لها بأنها ستلتزم بتحذيرها؛ ولكن لسوء الحظ، وبسبب لحظة من لحظات غفلة الأم، اختنق الابن بسبب حبيبات الحلوى التي كان يتناولها سراً، وكان من المستحيل إنقاذه.

لم يتسنَ لـ»فراو فريدا» أبداً أن تفكر في إمكانية أن تكسب قوتها من موهبتها هذه حتى جرّتها الحياة إلى ذلك من ياقة عنقها. فخلال أحد فصول الشتاءات القاسية في ڤيينا، دقّت جرس أحد المنازل الذي قرّرت بأن تعرض خدماتها عليه، وبمجرد أن سُئلت عما يمكن أن تفعله، قدمت لهم إجابتها البسيطة: «أستطيع أن أحلم». وبعد شرح مختصر منها، أخذتها سيدة المنزل بأجر يزيد قليلًا عن مال الجيب؛ ولكن مع غرفة لائقة وثلاث وجبات في اليوم. كانت تتذكر أول إفطار لها معهم؛ حيث جلس جميع أفراد الأسرة لمعرفة مصائرهم من خلالها. كان الأب، رجلاً راقياً وصاحب مدخول جيد. وكانت الأم امرأة مرحة ومبتهجة وشغوفة بسماع الموسيقى الكلاسيكية الرومانسية التي تؤدى في حجرات المنازل؛ وكان لهما طفلان أحدهما في الحادية عشرة، والآخر في التاسعة. وكانوا جميعاً متدينين؛ وبالتالي كانوا عرضة للخرافات القديمة، وكانوا سعداء بالترحيب بفراو فريدا في منزلهم، وبشرط واحد فقط، أن تكشف لهم كل صباح عن مصير العائلة من خلال أحلامها.

أخبرتني أنها أبلت بلاءً حسناً، وأتمّت تنبؤاتها على أكمل وجه، خاصةً خلال سنوات الحرب التي تلت تلك الحقبة، هناك حيث كان الواقع أشد مرارة من أي كابوس. فعلى مائدة الإفطار كل صباحٍ، كانت تقرر وحدها ما سيفعله كل فرد من أفراد الأسرة اليوم؛ بل وكيفية القيام به، حتى أصبحت تنبؤاتها وتحذيراتها هي صوت السلطة الوحيد في المنزل. كانت هيمنتها على تلك الأسرة مطلقة؛ فحتى أدنى تنهد كان يتم بناءً على أوامرها، وتحت مراقبتها. توفي الأب قبل بدء إقامتي في ڤيينا، الأب الذي كان له من الفضيلة والكياسة أنه أوصى لفراو فريدا بجزءٍ من ثروته، بشرط واحد فقط، وهو أن تستمر في الحلم للعائلة إلى الحين الذي لن تعود فيه قادرة على الحلم.

بالنسبة لي فقد أمضيت شهراً في ڤيينا، أعيش الحياة المقتصدة والرخيصة للطالب في أثناء انتظار حوالة المال التي لم تصل. وكانت الزيارات غير المتوقعة والسخية التي تفضّلت بها «فراو فريدا» إلى حانتنا بمثابة الاحتفال وسط طريقة نظام عيشنا البائس والمتعثر آنذاك. وفي ذات ليلة، وبينما كانت رائحة الكحول القوية تفوح من كلينا، اقتربت وهمست بشيء ما في أذني بقناعة وإيمان راسخ، لدرجة كان من المستحيل معها تجاهل ما تنبأت به بشأني.

قالت: «أتيت إلى هنا خصيصًا لأخبرك أنه في الليلة الماضية رأيتك في أحلامي».

وأضافت: «يجب عليك مغادرة ڤيينا فوراً، وعدم العودة لها إلا بعد انقضاء مدة خمس سنوات على الأقل».

وإيماناً مني بإيمانها، ركبت في تلك الليلة نفسها، في آخر رحلة قطار ليلية متجهة إلى روما. لقد صُدمت وارتعشت من تلك النبوءة لدرجة أنني أصبحت منذ ذلك الحين أؤمن أنني نجوت من كارثة لم تتمكن من النيل مني أبداً، وحتى يومنا هذا لم تطأ قدماي ڤيينا مرة أخرى.

قبل حادث الموجة المريعة الذي وقع في هافانا، التقيت مع «فراو فريدا» مرةً أخرى، ولكن في برشلونة هذه المرة، وفي مصادفة لقاء غير متوقع بدا لي حينها غامضاً بشكل ما، كان ذلك اليوم هو اليوم الذي تطأ فيه قدما الشاعر التشيلي «بابلو نيرودا» على الأرض الإسبانية لأول مرة منذ الحرب الأهلية، وذلك خلال توقفه المؤقت في رحلة بحرية طويلة كانت متجهة إلى فالبارايسو في تشيلي. حدث أن أمضى الصباح معنا وهو يصارع مراوغة شغفه باصطياد أحد الكتب العتيقة داخل المكتبات القديمة، وفي النهاية اشترى كتاباً باهتاً وذا أغلفة ممزقة، دفع مقابله ما كان يعادل راتب شهرين لقنصلية تشيلي في رانغون.

كان نيرودا يتحرك بتثاقل، ويمشي متعثراً على طول الطريق مثل فيل مريض، مظهراً اهتمامه الطفولي بكل ما يعتمل في دواخل كل ما تصادفه عيناه من أشياء حوله، ولطالما بدا العالم بالنسبة له كأحشاء ساعة عملاقة وعارية، يرى فيها كل حركة لنوابضها وتروسها.

لم أكن أعرف شخصاً قارب عن كثب الفكرة الشعبية عن بابا عصر النهضة مثله - حيث ذلك المزيج من الشراهة والتهذيب - الذي، حتى رغم إرادته، كان سيهيمن على أي طاولة ويرأسها. لفته ماتيلد، وهي زوجته، في مريلة بدت لعرضها وكأنها تنتمي لصالون حلاقة أكثر منها إلى منديل لطاولة طعام؛ ولكنها كانت الطريقة الوحيدة لمنعه من الاستحمام في صلصات الأطعمة. في ذلك اليوم، أكل نيرودا ثلاثة من جراد البحر في المجمل، بعد أن قام بتقطيعها بدقة وانضباط جراح ماهر، بينما كان يلتهم بعينيه في الآن نفسه أطباق أي شخص آخر تقع عليها نظراته؛ إذ لم يكن قادراً على مقاومة الانتقاء والتذوق من كل طبق بأي حيلة، لقد كان يتمتع بتلذّذ وشهية وجدها الجميع معديةً لهم: كان المحار من غاليسيا، والأوز من نوع برنقيل من كانتابريا، والروبيان من اليكانتي، وسمك أبو سيف من كوستا برافا. وكان متحدثاً طوال الوقت -تماماً مثل الفرنسيين- عن المسرات الأخرى للطهي والمطبخ، خاصةً عن المحار الذي كان المفضل لديه، والذي يرجع تاريخه إلى ما قبل التاريخ في تشيلي، ثم توقف فجأة عن الأكل، وهو يمطّ أذنيه مثل قرون استشعار جراد البحر، وهمس إليَّ:

- «هناك شخص ورائي يستمر في التحديق بي».

نظرت وراء ظهره، لقد كان محقاً، فخلفه، وعلى بعد ثلاث طاولات إلى الوراء، كانت هناك امرأة جريئة، تعتمر قبعة قديمة الطراز، وتلف عنقها بوشاح أرجواني، وتمضغ طعامها ببطء، وعيناها مثبتتان على نيرودا.

تعرفت إليها فوراً، لقد بدت حينها أكبر عمراً وحجماً؛ لكنها كانت هي ذاتها، مع الخاتم المصنوع على هيئة ثعبان في إصبعها الأول.

كانت قد سافرت من نابولي على السفينة نفسها التي كان فيها نيرودا؛ لكنهما لم يلتقيا على متنها أبداً، طلبنا منها الانضمام إلينا لتناول القهوة، ودعوتها بدوري دعوة أخرى للتحدث عن أحلامها، وكان ذلك فقط للترفيه عن الشاعر؛ الذي لم يكن لديه أي اهتمام بذلك، معلناً صراحة أنه لم يؤمن يوماً بنبوءة الأحلام.

قائلاً:

- «الشعر فقط من يمتلك النبوءة».

بعد تناول طعام الغداء، والمشي الذي لا مفر منه على طول رامبلاس، اقتربت أكثر من «فراو فريدا» حتى نتمكن من تبادل الحديث بتأنٍ، ودون سماع الآخرين. أخبرتني أنها باعت جميع ممتلكاتها في النمسا، قبل أن تغادر إلى بورتو في البرتغال، وهي تعيش الآن في منزل وصفته بأنه قلعة مزيفة تقع على منحدر يمكن أن ترى منه المحيط الأطلسي بأكمله بقدر مساحة أميركا. وكان من الواضح، رغم أنها لم تقل لي ذلك صراحةً، أنها، ومن حلم إلى آخر، انتهى بها الأمر إلى امتلاك ثروة طائلة من أرباب عملها في ڤيينا، ومع ذلك، بقيتُ غير مقتنعٍ بما تمارسه؛ فقط لأنني اعتقدت دائماً أن أحلامها لم تكن أكثر من كونها وسيلة لتحقيق غاياتها. رددتُ عليها دون مواربة؛ فضحكت ضحكتها الساخرة قبل أن تقول:

«أنت وقح كما كنت دائماً».

توقفت بقية مجموعتنا الآن بانتظار نيرودا الذي كان يتحدث باللغة العامية التشيلية إلى الببغاوات في سوق الطيور. وعندما جدّدنا حديثنا، غيّرت فراو فريدا مسار الحديث، قائلةً باستدراك:

«بالمناسبة، يمكنك العودة إلى ڤيينا الآن إذا أردت».

وأدركت حينها كم أن المدة التي مرت منذ مغادرتي ڤيينا بسببها كانت طويلة، ثلاثة عشر عاماً كاملة منذ أن التقينا للمرة الأولى.

«حتى لو كانت أحلامك حينها غير صحيحة، فلن أعود إليها»، أخبرتها.

في الساعة الثالثة، افترقنا من أجل مرافقة نيرودا إلى قيلولته المقدسة، التي أخذها في منزلنا، وذلك بعد قيامه بعدد من الطقوس التحضيرية الجدّية التي ذكّرتني، لسبب ما، بمراسم الشاي الياباني؛ حيث يجب فتح نوافذ معينة، وإغلاق النوافذ الأخرى – لقد كانت معرفة درجة الحرارة بدقة ضرورية جداً لجودة القيلولة –؛ إذ لا يمكن تحمّل سوى نوع معين من الضوء، ومن اتجاه معين فقط، ثم ساد صمت مطبق؛ ليستغرق نيرودا في نومه فوراً، مستيقظاً بعد عشر دقائق، كما يفعل الأطفال تماماً. ظهر لنا في غرفة المعيشة منتعشاً، وبينما كنّا نرى انطباع أحرف قماشة الوسادة على كلا خديه، قال لنا:

-»حلمتُ بتلك المرأة التي تحلم!».

طلبَتْ منه ماتيلد أن يخبرنا عن الحلم.

فقال: «حلمتُ أنها تحلم بي».

-»هذا يبدو وكأنه بورخيس،» رددتُ عليه.

فنظر إلي، بخيبة أمل: «هل كتب مثل هذا حقًا؟».

- «إذا لم يفعل، فلا بد أن يكتبها ذات يوم»، وأضفتُ بعدها: «ستكون واحدة من متاهاته».

بمجرد اقتراب وقت عودة نيرودا إلى متن سفينته الراسية في الساعة السادسة من بعد ظهر ذلك اليوم، ودَّعنا وذهب إلى الجلوس على طاولة بجوار الطريق، وبدأ بكتابة قصيدة ما بقلم الحبر الأخضر نفسه الذي كان يستخدمه لرسم الزهور والأسماك والطيور بالتفاني والإخلاص ذاتيهما الذي كان يوقع به كتبه. ومع الإعلان الأول عن الصعود للسفينة، بحثنا عن فراو فريدا، ووجدناها أخيراً على ظهر السفينة السياحية بعد أن كنّا على وشك الاستسلام لعدم إيجادها، وكانت هي أيضاً، قد استيقظت للتو من قيلولتها.

قالت لنا: «لقد حلمت بشاعركم».

مندهشاً، طلبت منها أن تخبرني عن الحلم.

فقالت: «حلمتُ بأنه كان يحلم بي»، وقد شوشتها نظرة عدم التصديق في عيني، فقالت:

«لماذا أنت مستغرب إلى هذا الحد؟ ففي بعض الأحيان، ومن بين الأحلام جميعها، يجب أن يكون هناك حلم لا علاقة له بالحياة الحقيقية».

لم يحدث أن رأيت فراو فريدا بعد ذلك اللقاء، أو خطر لي أن أفكر بها أبدًا، حتى سمعت عن الخاتم المصنوع على هيئة ثعبان في إصبع المرأة التي توفيت في كارثة البحر بجوار فندق الريفييرا، ولم أستطع مقاومة سؤال السفير البرتغالي عنها عندما التقينا بعد بضعة أشهر في حفل استقبال دبلوماسي.

تحدث عنها السفير بحماس وإعجاب هائل. لقد قال: «لا يمكنك أن تتخيل كيف كانت تلك المرأة استثنائية». «لم تكن لتستطيع يا ماركيز مقاومة الرغبة في كتابة قصة عنها». وواصل الحديث عنها طوال الوقت بالحيوية نفسها، وعلى نحو متدفق، مع ذكر بعض التفاصيل العَرضية والمفاجئة في بعض الأحيان، ولم يستطع الانتهاء من حديثه عنها حتى استطعت مقاطعته قائلاً:

أخبرني إذاً: «ماذا كانت تفعل بالضبط؟».

فأجاب مستهجناً وهو يهزّ كتفيه: «لا شيء». «لقد كانت حالمة».



* المصدر:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى