جورج سلوم - ياقوم لقد مات أبي

وما كان أبي ملكاً ولا قائداً لجيشِ الفتحِ العظيم .. ولا رئيساً لحزبٍ قلب الموازين .. ولا كان عبقرياً من وادي عبقر

ولا كان غنياً ولا نبياً ولا .. ولا ..

لكنه كان أبي .. وكفى

كان عظيماً بالنسبة لي أكثر من كلّ ممّن سبق ذكرهم .. لأنه كان أبي .. أنا

وأنا الذي بكيت لفقده كما يبكي الحمل على جثمان أبيه الخروف .. ويراه عظيماً وقوياً وحكيما وكبيراً ولو كان مسجّى في فروة صوفه .. بل وأكبر من الذئب الذي افترسه

كبيراً بتضحياته من أجلي .. كبيراً بحنانه الأبوي وكبيراً برسالته في الحياة التي أتمّها حتى تمام العمر .. ستة وتسعون عاماً وكنت في أكثر من نصفها ابناً له.

أبي.. وكم كنت كبيراً حتى عندما لفظتَ أنفاسَكَ الأخيرة .

ولا كبير أمام الموت إلا الله .. والله أكبر

وكان الموت أقوى مني ومنك

سرقكَ مني في عمقِ نومك وغفلة نومي .. كاللصِّ لا تستفيق عليه إلا بعد أن يسرقك .. وتصحو لتحصي خسائرك فتكتشف أنه سرق منك أباك وتركه لك جثة لا روح فيها ..

أبي .. وما عرفت أنّ ساعتك قد جاءت ساعتَها . وشخيرك الذي سُعِدتُ به واعتبرته من علامات الراحة والاستغراق في النوم .. كان للأسف من شخرات الموت ونخراته وحشرجاته.

وكنتُ بجانبك أتوسّد قيلولتي .. وشكرتُكَ لأنّك ما شكوتَ حينها ، ولا تململت وما طلبت ماءً يبرّد حلقك ..فقط لتدعني أنام .. ويشتدّ شخيرك المتناقض وأرفع صوت تلفازي ليغطّي عليك .. حتى رأيت تنفّسك غير المنتظم قد بدأ يتخامد ويتهامد ويتهاوى ويتناهى كحركات النوّاس الثقلي تنوس وتنوس حتى تتوقّف .. عندها استغربتُ سكونك ، وما عرفت أنّه سكون الموت النهائيّ !

وقمتُ إليك أهزهزك فلا تتهزهز

وأرهزك فلا ترتكس

أرفع يدك فتسقط من عليائها صريعة بلا حراك ،كما يمثّل الممثّل مشهد الموت تمثيلاُ .. لكنّ مشهد الموت ينتهي ويعود الممثل للحياة ، أما أنت فما كنت تمثّل للأسف .. كنت ميتاً بحق وأحسنت تمثيل مشهد الموت حتى ليكاد المخرج يصفّق لك

وكم تمنّيتُ أن تقفزَ بوجهي لترعبَني وتقول لي لقد ضحكتُ عليك .. لكنّ الموت ضحك علينا معاً !

أقرصك فلا تتألم

أصيح بك فلا تسمع .. وأنت الذي كنت تسمع ولا تسمع .. وكنت أتّهمك بانتقاء الكلمات التي تريد سماعها ..وأنك تدّعي الصّمم ادّعاء .. والآن غدوتَ لا تسمع حقيقة ولن تسمعني إلى الأبد

أناديك – وا أبتاه – فلا ولم ولن ولمّا تستجيب بعد الآن .. لقد فقدتُ رجلاً كنت أناديه أبي .. وما عاد أحدٌ يناديني يا بنيّ بعد فقدانك أنت وأمي .. ماعدت ابناً لأحدٍ من الأحياء .. لقد أصبحت ابناً لأموات .. وتذكّرت قول الكتب المقدّسة (دعِ الموتى يدفنون موتاهم ).. (وكلّ نفسٍ ذائقة الموت ).. (ومنهم من ينتظر ).

وعندي مسماعٌ طبيّ في غرفتك .. وكم كنتَ تتمنّى أن أسمعَ قلبَك كطبيب فلا أفعل .. وكم كنتَ تسعد عندما أقيس ضغطك من ذراعك الهزيل .. فأستعجل وأعطيك أرقاماً مغلوطة طبيعية ، وتعلم أنني أكذب عليك .. وتعلم أنني أهتمُّ للمريض الغريب – ذي القرش المدفوع – أكثر منك .. لأنك مجانيّ وبالتالي رخيص

فإن كان ضغطك عالياً أصيح بك وأنهرك لأنك أكثرت من رشرشة الملح على طعامك .. فأرمي بمملحتك الصغيرة في سلة القمامة الصغيرة الموجودة بجانب سريرك .. وأمنعك عن القهوة التي تنشّطك وأشربها أنا حتى الثمالة أمام ناظريك ، فتتحرّق لرشفةٍ منها ولا أعطيك .. وأمنعك من سيجارة المتعة الوحيدة التي بقيت لديك .. وتتحرّق لشهقةٍ منها بعيونك الذابلة .. وأزفر دخان سيجارتي في وجهك..

وترجوني أن أجلس معك ولو قليلاً .. أحدّثك أو أسمعك فلا أفعل .. وتقول لي اجلس بجانبي ولا تكُ بعيداً ..حدّثني رجلاً لرجل كما تفعل مع ضيفك وها أنا ضيفٌ عندكَ غير مقيم .. وأقول لك مشغولٌ أنا يا هذا ، وسئمتُ أحاديثك وقصصك التي تكرّرها وأقاطعك لأني حفظتها ..ولا أكون مشغولاً إلا بهاتفي الجوال ألعب لعبته التي لا تنتهي .. أو أدردش مع من أسمّيهم أصدقاء .. وتراني أضحك وأنا أدسُّ عيني في شاشة هاتفي الذي لا أتركه .. وتتوسّل إليّ أن أضحكَكَ معي أو أسمِعَك من طرائف ما ينشرون من تفاهات .. فأقول لك إنها معلومات طبية نتداولها نحن الأطباء .. وأنّى لك أن تفهم ما نقول .. ولن تصل بوضاعة تفكيرك وضحالة معلوماتك إلى علياء تفكيرنا وسموِّ معلوماتنا..

وأرى نفسي اليوم مشتاقاً للجلوس على حافة قبرك ..لأحدّثك ولو بكلمة .. وأرى أحجار قبرك تروي حكاياتك المملة .. استمع لي الآن وسأروي لك كلّ طرائفي ونكاتي وهرطقات ما ينشرون من تفاهات.. ويلي ولن أسمو إلى علياء حنانك الأبوي وسأبقى وضيعاً أمام سموّ السكون الأبدي الذي حلّ عليك .. ولن أرتقي إلى طهارة ترابك الذي أدوسه وأبوسه وأعود لأدوسه .. وهكذا دواليك حتى يأتي من يدوسني بلا دموع .

أي أبي..وأنساك تدريجياً في زحمة اهتماماتي ويومياتي ..

أنساك رغماً عني

وأطلب لك الرحمة كلّما لمستُ بقاياك وتركاتك وأشياءك الصغيرة .. نظارتك المغشّى زجاجها ، ومسباحك الذي كنت تعدّ حبيباته بصمت .. وعكازك الخشبي أقبض على مقبضه بلطف كي لا أمحو بصماتك .. أما بدلة أسنانك الصناعية فقد دحشتها بفمك قبل أن يتصلّب ويتشنج ويقسو ويعضّ على لسانك المتخشب فماتت مدفونة معك .. ألا تريد نقطة ماء تبرّد حلقك في غيهب القبر ؟

وكم كنت أتذمّر وأتنمّر لو طلبت مني دمعة من ماء باردة .. ها أنا بجانب قبرك أهرق من كوزي ماءً على تربتك ولا أجني إلا الوحل..

يا قوم ..لقد مات أبي

وتوفّاه الله وعادت الروح إلى باريها .. وأديم الأرض ابتلع الجسد الآيل للتحلل .. والسجلات المدنية شطبت اسمك من جداولها واستعادوا هويتك الوطنية .. واستعاد المانح منحته وتركوني في محنتي

يا قوم .. لقد مات أبي

وعظّم الله أجركم وشكر الله سعيكم .. والبقاء لله وحده

وشربنا وشربتم قهوةً مُرّة ومريرة في مسرح العزاء التمثيليّ

وقالوا خاتمة الأحزان .. وهم يثقون أنها ليست الخاتمة لكنّها كلمةٌ تُقال ولابدّ منها ..

اللهمّ أحسن خاتمتنا .



*****************
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

الفقد اصعب شيء في حياة الانسان .. انه الغياب، احدى أهم الخسارات الفادحة التي تترك اثارا جانبية في نفس الكائن .. ان يكون حولك أو لك شخص او شيء ما ثم تصبح بدونه.. الموت هازم اللذات ومفرق اللمات .. يكون مرات رحيما يريح الارواح من عذاباتها ، ومرات كثيرة يكون قاسيا وجائرا .. حدث مرات ان اتي أشخاص الى المستحجلات على ظهرهم فتعاركنا مع ملاك الموت وانتزعناهم من فكه ، ومرات اخرى انتزع منا أشخاصا اخر ين اتوا واقفين ماشين على ارجلهم ، لكنها الحياة ، تحيا مرة واحدة .. واحدة فقط بافراحها ومآسيها
عزاؤنا واحد في فقدانك لوالدك الحبيب وعلى روحه الطاهرة الرحمة والطمانينة
 
شكرا أستاذنا الكبير لمشاركتنا العزاء ..ولنشركم مقالة قد تعتبر من الخواطر الذاتية ..داعيا للجميع بالصحة والنجاح وسائلا المولى القدير ألا يفجعكم بعزيز
 
أعلى