يونس بن عمارة - رسائل وأحزان السّيدة التّعيسة.. قصة قصيرة خيالية

آن الأوان لأتكلّم عن نفسي، ولأنهض بقلمي ضدّ كلّ التّيارات وكلّ المذاهب، إنّ النّفسانيّين الحمقى وعلى رأسهم فرويد أرجعوا كُلّ شُعور إلى الجنس والبعض منهم أنشأ عقدا ومشاكل ولم يضعوا لها الحلول.

ويقولون أنّ الجمال سلاح المرأة، لكن لو دخل هؤلاء الحياة من بابها الواسع لوجدوا ما لم يظنّوا وُجوده. لقد عاش فرويد في عُزلة طوال حياته، وإن كان عاش العُزلة آخر حياته فقط.

لا أريد أن أبدأ هذه البداية، لكنّ الكلام جرى على لساني وحدهُ كما يقولون…

إنّ النّاس الآن لا ترى إلّا ثلاثة أشياء، وهذه الأشياء تراها كلّ فترة زمنيّة مُعيّنة، فالطّفل الصّغير يرى أنّ العالم “ملكٌ له” وشعاره “هذا كلّه لي”.

وعندما يكبرُ قليلا ويبلُغ، يصبح لا يرى العالم إلّا نساء جميلات ولا يرى إلّا تيريزا الشّقراء وماري البيضاء وكاثرين الحنونة…

وبعدما يتزوّج ويستقرّ ينظر إلى الأولاد والأحفاد.

هذه هي الأقانيم الثّلاثة “المال، المرأة أو قُل الفتنة والولد”.

هؤلاء هُم زينة الحياة الدّنيا.

والقليل من المُفكّرين العباقرة الذين تحرّروا من هذا المسار الطّاغي وجعلوا الحياة تسير وفق هواهم ولا تُسيّرُهم. ولكن هذا العمل صعب وصعب جدّا.

لأنّ فتنة الدّنيا أصعب بكثير من كلام زاهد وحُلم الشّهرة والمال والمحبّة يُرفرف فوق كلّ مُخيّلة لاهث وراء الدّنيا.

إنّ الذي يُفكّر في مقام أكبر منه، سيبقى يُفكّر بلا طائل.

يُضحكني هؤلاء الشّعراء المساكين، إنّهم يقولون:

“أحرقتموني أيّتها الفتيات،

لم تدعوا في قلبي موضعا صغيرا

إلّا وأحرقتُموه

كساحر مُشعوذ

يكتب الخُزعبلات

وأحرقتموني

بنار الشّوق والانتظار

لماذا أيّتها الفاتنات؟

لو قُدّر لمثلي أن تكتب الشّعر، لم تجد إلّا السبّ والشّتم خاصّة ضدّ صنف النّساء.

قد أبدو مُتشائمة، مُتشائمة جدّا، ولكن ما ذنبي إذا كانت الحياة هكذا…

أنا لستُ فنّانة حتّى أرى الحياة جميلة وأُريها للنّاس كذلك.

لو قُدّر لي أن أكتب الرّوايات، ما كتبتُ إلّا روايات البوليس والجرائم، لأنّ هذا حقّا ما يجري في الحياة. إنّ الرّوايات التي تصف الطّبيعة، كما يقول بعضهم تصلح للسّيّاح، وقراءتها تكون في سفينة راقية تمخر عباب البحر، لا في مطبخ، السّيد فأر يشغله بلا كراء.

لو قُدّر لي كتابة الشّعر، لكتبت عناوين قصائدي “بحث عن عمل” و”وصل كهرباء” و”قرعة الباب المُزعجة”. وإن سألتني عن هذه الأخيرة، فسأقول لك، قرع ُ السّيد غوركي للباب يُطالب بكرائه ! ولن تجد عناوينها “حبّة ليمون في جيب حبيبتي !” أو “صداقة شقراء !”.

ولو قُدّر لي أن أكتب القصص، لكتبتُ قصّة عن أُمّي وكيف طُلّقت وماتت مريضة وأبي الذي سُجن وتعفّن هُناك حتّى مات، وأنا التي أصبحتُ خادمة في البيوت.

اعذروني أحبّائي الأغنياء، ليس لديّ قصص روميو وجوليات، ليس لديّ قصص سندريلّا لأحكيها لكُم.

لقد جعلتُ عُنوان هذا الفصل مُنبّها إلى ما يحتويه “حياة تعيسة”.

وهُنا توقّف سيل قلم السّيدة، ليبدأ بلون آخر يحكي لونا آخر من حياتها.

لجدّ ما كُنت مُخطئة، مُخطئة ! لقد قرأ سيّدي ما كتبت صُدفة، حينما نسيتُ أوراقي في المطبخ ليلا، نهض السّيد وسأُسمّيه السّيد نيكولاي تاميلفيتش فورسايت… وهُو يسعُل حتّى وصل إلى الثّلاجة وفتحها، هُنا قد يتساءل الفضوليّون: لماذا لم يستدعني؟ فأقول أنّه لا يفعل ذلك إلّا في النّهار، فهُو كما قال: هذه هي عادته. وأصلا هُو نادرا ما ينزل تحت في الليل. شرب الماء ثُمّ عبّ العصير، وعلى ضوء الثُلاجة لاحظ الأوراق التي نسيتها.

حملها برفق، وقرأ ما شاء اللّه أن يقرأ. أعجبه ما كتبته جدّا، لذلك لم يصبر حتّى الغد وصعد إلى مقصورتي.

دقّ الباب بلُطف، كُنت نصف مُستيقظة… – ادخل سيّد فورسايت !

– شُكرا تاندلا. هل تسمحين لي بدقائق؟

– سأُتيح لك ساعات سيّد فورسايت.

شجّعته هذه النّبرة الهزلية فجلس على الكُرسيّ، اعتدلت في السّرير، قدّم لي الأوراق ففطنت حينها لمقصده.

– آه، شُكرا لك، لقد نسيتها في المطبخ.

– لا شُكر على واجب، أنت مُبدعة… ثُمّ لاحظ منظري وأضاف: أنت رائعة تاندلا…

لقد كان مظهر الغُرفة على ضوء مصباح الدّرج رُومانسيّا وحالما للغاية، ولونُ السّرير والغطاء والمنامة: ورديّ يبعث على أمور لا تحمدُ عُقباها.

– شُكرا سيّدي.

نظر إليّ بنظرة ماكرة وأضاف:

– وهل في نيّتك أن تكتبي عنّا؟ لم يتفاجأ لمّا قُلت:

– أجل.

– حسنا، وهل تسمحين بمعرفة رأيك؟

– سيّد فورسايت العزيز… أيّها العجوز المُتحذلق لماذا تُراوغ دائما؟

ضحك حينها نيكولاي وقال:

– لا أُراوغ تندلا. احكي لي.

– لقد قرأت عزيزي العجوز ! “ليست لديّ حكايات أحبّائي ! “.

وهُنا التمعت عينا السّيد فورسايت وقال: “هل تعلمين أنّي كاتب؟”.

– هذا ما سمعتُه منك لأوّل مرّة، السيّد نيكولاي تاميلفيتش فورسايت كاتب مشهور، لهُ تسع وتسعون ديوانا !

– حقّا !

– الآن سأروي لك حكاية.

تركها السّيد فورسايت تحكي: يُروى أنّ شابّا خرج من المقهى ثملا وكان سُكره غير ظاهر، فالتقى بصديقه وكان صديقه موهوبا بالكتابة، ولمّا تحدّثا قال الموهوب: جيم، هل تعلمُ أنّني كاتب؟ فضحك الثّمل وأجاب: مارتن، هل تعلمُ أنّي كتاب !

ضحكنا هُنا كلانا ثُمّ قال:

– ولكنّ حكايتي مُختلفة، أنا حقّا كاتب. وسوف أُريك الدّليل على ذلك. اتبعيني إلى حُجرة المكتبة.

كُنت لا أزال في فراشي، فتدلّلت عليه:

– ولكن فورسايت ! هل أترك الفراش الدّافئ لكتب بغيظة؟

قال فورسايت بمرح:

– خير من أن أترك أنا الكتب البغيظة لآتي للفراش الدّافئ !

فخجلت وقلت: آه… إذا كان الأمر كذلك، سآتي معك إذن، وفورا !

كُنتُ لا أزال في الفراش. فنظرنا لبعضنا نظرة بلهاء… ثُمّ قُلتُ له:

– سيّد فورسايت ولكن أخرج !

في حُجرة المكتبة أراني كمّا هائلا من المخطوطات، عناوينها كانت عناوين كُتب اشتهرت زمنا ثُمّ ذوت كذويّ الغصن الذّابل.

– أحقّا كُنت أنت الكونت دي مونتر نيرو؟

– أجل…

– إذن أنت صاحبُ القلم السّحري، صاحب آلام ماري وتُفّاحة آدم…

– أجل… لقد اكتشفتُ فيك إبداعا، تاندلا أنت مُبدعة.

– وكيف عرفت؟

– أنت شاعرة، والدّليل… وأخرج أوراقي السّابقة وبدأ يتلو ما كتبتُه: “اعذروني أحبّائي الأغنياء ليس لديّ قصص روميو وجوليات ليس لديّ قصص سندريلّا لأحكيها لكُم…”.

وأخرج ورقة وقلم وقال:

– سوف نُعطيها عُنوانا.

وكتب وأنا من ورائه أقرأ:

“قصيدة بعد الثانية عشر

اعذروني أحبّائي
واقبلوا عذري
فأنا مسكين
اعذروني أحبّائي
أيّها الأغنياء
فليس لديّ قصص
ولا مسرحيّات
ليس لديّ الحبيب روميو
ولا الحبيبة جوليات
ليس لديّ رغيف
ليس لديّ وجبة دسمة
ليس لديّ إلّا قصّة
سندريلا حيّة في حياتي
أمّا مطبوعة في ورق أو ذاكرتي فلا
اعذروني أحبّائي
واقبلوا عُذري…”

ثُمّ قال: ما رأيُك؟ فقبلتُه وقُلت: حقّا أنت شاعر… !


رسائل وأحزان السّيدة التّعيسة، قصة قصيرة خيالية
منقول عن مدونة يونس بن عمارة نوفمبر 2017


يونس بن عمارة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى