مصطفى الشليح - مقامة الاغتباط بذكر ما جَرى بين سلا والرِّباط

كنتُ في مجْلس شعر وبيان، وقدْ جرى على اللسان ذكرُ القصائدِ الحسان وكماتِها الفرسان بين سَراة الناس الغطارفةِ الأكياس الجامعين جلال العبّاس وذكاء إياس، بُستانُهم زواهرُ إبداع، وإيوانُهمْ بواهرُ إقناع، وديوانهمْ نواظرُ إمتاع وإشباع. هم في التاريخ زهرٌ شماريخ وفي روض الفصاحه زهَرٌ غازلَ صباحه. راية الإجادةِ بهمْ تنعقد، وغاية المجد إليهمْ تحْبو وتنفرد؛ والصدْرُ منهمْ، وأنعمْ بهمْ صدرًا وفخرًا، بسّامُ إشارةٍ وغمامُ عبارةٍ تسامى نبلا وجلالا وساماه البدرُ اكتمالا.
.. وكنتُ قدْ خرجتُ لتوّي منْ وهْدةٍ لا ألوي، بخطو تلوَ خطو عنْ سَـلا المحْروسة بعد زورةٍ منكوسة، والدمع ينهلّ لا يرقأ، والروع عن الصّدر لا يدرأ، وبعدَ أنْ رأيتُ ما رأيتُ، ودريتُ ما دريتُ منْ كون سَـلا أضحتْ جارية، ومن الآثار عارية، وأنَّ انْحناءَ المنازل منْ غير زلازل أمرٌ لا يحيِّرُ إذا انتفى التدبّر، واصطفَّ التعثرُ في عيون التسيير، وارعفَّ التنكرُ في أنوف التبذير؛ وقدْ قلتُ : اشتدي أزمة تنفرجي قدْ آذن ليلك بالفرج مُتذكرًا ابن ميمون وقدْ كنتُ أنسيته منْ هول الشجون.
اتخذتُ متكأ وكأس ُالشاي ينقع ظمأ، والحديثُ منطلقٌ بالشعر مندلقٌ، مؤتزرٌ بالسحر مُختمرٌ، والعميد يُحليه أناقة ويُجليه ذلاقة، والشعراءُ قوافلُ أو قبائلُ تمرُّ اطرادًا، جموعا وأفرادًا، حتىّ أناخَ بموكبه مقالٌ وانبرى منْ قوْسه سؤالٌ : وما شِعْـرُ سـلا ؟ وما شعراؤها ؟ وكيفَ فضاؤها ؟ وأينَ شموعها وآلاؤها ؟
انتهى إليَّ السؤالُ هسيسًا، وما رأيتُ سوايَ جليسًا ينمى إليه الكلامُ، وعنده البدءُ والختامُ.
رأيتني، وقدْ دارتْ عيونٌ وسارتْ شؤونٌ، حوقلتُ وبسملتُ ثمَّ اعتدلتُ، وعن الردِّ ما عدلتُ، واستهللتُ :
الشعرُ في سَـلا، يا سيدي ويا سندي، لا يدركه البلى. هوَ جرحٌ فاغرٌ ومولاه شاعرٌ. انكتابُ النجمةِ في عيون الغيمة إشراقةَ وتر وإطراقةَ عِبَر. هوَ العنبرُ السرمديُّ مهادًا والمرمرُ العسجديُّ امتدادًا. هوَ ما يند طلابًا وما يدنو اختلابًا. مواكبُ منْ ذهبٍ لا يصْدأ، وصواحبُ منْ رغدٍ لا يهدأ.
إذا سألتَ تاريخه أهداكَ باذخه، وإنْ سبرتَ ديوانه، وأكرمَنْ بكَ سابرًا خابرًا، أهداكَ إنسانه، وسلسلَ لجينا وعقيانـًا ثـمَّ أرسلَ لؤلؤا ومرجانا؛ منْ قصائدَ ضافياتٍ شُموسُها وقلائدَ غافياتٍ شَموسُها كأنها قطرٌ أحالَ الجدبَ عهادًا، أوْ فجرٌ جالَ بالضياء ومادَ، أوْ كأنه نبضٌ وقلوبُ العذارى مغناه، منْ مادحةٍ بالمعلواتِ صادحةٍ، ومولديةٍ بنور الهدى عَسْجديةٍ، ومنْ واصفةٍ على ذاتها عاطفةٍ، وشائقةٍ بأسرار البهاء ناطقةٍ، ومنْ مُتهللةٍ بالأذكار مُهللةٍ، ومُعربةٍ عنْ شواردِ المعنى مُغربةٍ.
وإذ أنا على القول مُكبٌّ يحوطني منه مُتلئبٌّ وقعَ إليَّ اعتراضٌ ناقضٌ، وانتفاضٌ رائضٌ دربَ مساجلةٍ، وانقباضٌ نافضٌ لهبَ مفاضلةٍ: " وما القولُ في أديبِ العدوتيْن وأريبِ العذبتيْن أبي جندار الذي فاق اللدات والأغيار؟ "
تململتُ من موضعي واعتدلتُ في موقعي لأرقبَ منْ نقرَ مسمَعي بكلام قدْ يبدو وجيهًا، وكليم ما كان إلا نبيهًا، فإذا صاحبي أبـو الحمـد وقدْ شخصً إليَّ بنظر أحدّ، ورماني بابتسام ألدّ، فإذا بي في الجلسة أسْتوي، وإذا بالمسامع تنسابُ نحْوي، وإذا بالنبض السلويّ يجتابُ كلَّ عليّ، و ينجابُ عنْ جليّ : " أما أبو جندار فشأوه سامق المقدار، وشأنه خافقٌ معطار، شاعرٌ دونَ مدافع وناثرٌ منْ غير مقارع، ولكنْ أنىّ له إمارة العُـدوتيْن وأمارة الجذوتين نثارًا ونظامًا، بداءة واختتامًا ؟ وكيفَ تمنح له الزعامة وفي سـلا تصدحُ أكثر منْ علامة ؟
حسبكَ، يا صاح، بماء قراح من الطيبيْن الأطيبيْن الأوحديْن المفرديْن عواد وابن خضراء وهما في السموق سواء، ومنْ أندلسيّ دانياتِ القطوفِ أبي بكر الشنتوفي، ومنْ ذي الشفوف المؤرج أبي زيدٍ حجي، ومَنْ سلسلهمْ العارفُ المُجلي أبو الفضل الوارف ابن عليّ في أرجوزةٍ غير مهْموزةٍ ولا مغمُوزةٍ. حسبُ صاحبكَ اغتباطًا أنه للرباط أديبٌ، فدامتْ له رباطًا "
ولمْ أدْر والحديث مراجلُ في الصدر، وزواجلُ على بنان الثغر، إلا والقافياتُ تشد هوادجَها وتمدُّ معارجَها وتجدُّ مدارجَها إلى حيث تدق المباني وترق المعاني، فقلتُ لخالص من الشعراء مُفلق وغائص في جوهَر مُشرق :
إني سألتُ الـقوافي وهْي حائـرة = بيني وبينـكَ عـمّا كان من أمـر
عنْ ربة الشعْـر والأنسـامُ مائسة = بمـا لديـها من الأنغـام والسحر
أعندَ صدْركَ تغـفو وهْيَ طارحة = عنها مجاسدَ صوتٍ أمْ على صدري ؟
فجاوبتْ .. والنَّـميرُ الحـرُّ مُبـتدرٌ: = أنـا عُيون المـها منْ دونما جسر
العُـدوتـان .. خبـاءٌ لي .. يُطـرزه = فـتـيانُ قـافـيةٍ .. بالأنجـم الغـرّ
لـكنـني .. قدْ أمـد الظلَّ منْ ولـهٍ = على سلا حيثُ يرسو مركبُ الفخر
قدْ صرتُ منها جمالا عزَّ مُطلبـًا = وليسَ .. يُدركـه، مِنْ عزه، غيـري
وصارَ مني الذي ما قـالَ قافـية = حسنـاءَ إلآ وهامَ السِّحرُ بالسحـر
مُـوشحـًا .. ومن التاريـخ غرتـه = وما سـلا غيرُ تاريخ من الشعْـر
يا رائقَ الشعر عندي اليوم مسـألة = قدْ جئتُ أعرضها منْ دونما ستـر
ما القولٌ إما عيونُ القافياتِ رأتْ = بأنـها لرباط الفتـح لنْ تسـري ؟
فاهتزتْ أركانُ المجلس بينَ مُحبذٍ ومنكس، وعلتْ همهمات تلتها دمدمات، وتراءى الردّ كأنه الرعد، وترامى الجوابُ شهابا يسوقه شهابٌ، فقلتُ في خاطري، وأنا بين تحيّر وتدبّر:" لعلي غلوتُ إذ علوتُ، وما ذاكَ مهْيعي ولا إليه مطمَعي."
فأردفتُ مُذيِّلا نثرًا ما توالى شعرًا :
" لكنَّ نفائسَ الزمان يا فوارسَ البيان صارتْ دوارسَ للعيان، أيامُه دالتْ وأنغامُه مالتْ وأسقامُه طالتْ، وإني لمنعمُ النظر في الحالي، وإني لملفيه مُقصرًا عن الخالي. وكمْ أمعنتُ التقصّي عنْ أرومة النصِّ فما رابني غيرُ وقص، وما نابني غيرُ تنام في نقص. وكمْ نكصتُ وفي يدي منْ حنين خفان أوْ شيءٌ له أذنان، وكأنما جفتِ القرائحُ واصطفتْ حواليها النوائحُ، إلا ما يكون منْ وميض قدْ يصيرُ إلى قريض "
اطمأنَّ الجمعُ، واستكانَ الروعُ، واستراحَ النقعُ؛ فتبسمَ العميد ضاحكا وقالَ مُباركا: " نعمَ التخلصُ وإنْ كانَ شائكا."
وحينها، ومنْ وحْي التدفق، تداركتُ القومَ قبلَ التفرق، وقلتُ : " ليكنْ ختمَ اللقاء ما تمَّ بين الأشقاء حينَ أزمعوا إحكامَ الرباط بين سلا والرباط :
زعموا أنَّ جمعيْن من الرباط وسلا ارتأيا بغية نسخ البلا تقسيمَ الرقراق درءًا للشقاق، فشدَّا حبلا بعقدتيْن فاصلا بيْنَ العُدوتيْن. فلما أجنَ الليلُ ومدَّ بردتيْن أتى كلُّ فريق من الضفتيْن حاملا سطلا أوْ سطليْن، وطفقَ منْ ضفة الآخر يغترفُ، وإلى صبِّ الماء في الأخرى ينصرفُ. فلما طلعَ النهار وحارا في تماوج المقدار عطفا على قسمةِ الإنصافِ، وصرفا لكلِّ عُدوةٍ راءًا بقافٍ، وما تبقى من الأشواق ارتقى جسرَ إشراق بين الأحبةِ والرفاق .. فكانَ شاعرُ الرقراق .. كأنه ناثرٌ ما هو نائرٌ منْ أوراق .. أوراق .. أوراق ..
.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى