سفيان صلاح هلال - الصراع من أجل شيء.. في رواية " سرٌّ مُلتَهِب" للكاتب النمساوي "شتيفان تسفايج"

المعرفة وحب الحياة هما الغاية الأهم في الصراع الإنساني مع الوجود، قد تشاركهما صراعات أخرى مثل: الصراعات الطبقية، الرغبة في الاستحواذ، البحث عن اللذة المؤقتة، لكنها تظل شكلية بجوار جوهرية المعرفة والحب. حول هذه المضامين تدور رواية سرٌّ مُلتَهِب للكاتب النمساوي "شتيفان تسفايج".
يعتمد الكاتب على التحليل النفسي في بنية الرواية؛ مما يجعله لا يهتم بالتفاصيل الخارجية للأبطال إلا عند توظيفها لغاية معينة، أو تأثيرها المباشر على جوانيات شخصياته، فمثلا حين أراد التعرض لآثار الفروق الاجتماعية على مسيرة الأمور أخرج الطفل من لفائف العزلة والجهل وغمسه بما يحيط به ليدرك قيمة النقود "للمرة الأولى"، يدرك أن هناك حقائقَ للحياة لم يفكر فيها قط، مثل إدراكه قيمة العملة حين أراد السفر أو التفاوت الطبقي: "لحق إدجار بمقعده في القطار، لم يكن قد لاحظ أنه لم يحظَ سوى بقطار من الدرجة الثالثة، وهو الذي اعتاد السفر بالدرجة الأولى، أصابه بشدة الشعور بالاختلاف لم يكن رِفاق السفر يشبهون هؤلاء في الدرجة الأولى"، وهكذا... عكس اتكاء الكاتب على توضيح أدق التفاصيل الداخلية للأبطال خاصة البطل الطفل إدجار: "يمكنني أن أحدِث ضجة عالية بتحطيم بعض الأغراض، فيأتون ويفتحون الباب لأخرج. لم تستهوه الفكرة الثانية؛ لأنها تتعارض مع اعتزازه .لا يجب أن يرى أحدٌ كم يُعامَل باحتقار."
لم تكن قصة آدم وحواء والشيطان مع الله، والتي وردت في كتب الأديان الإبراهيمية بعيدة عن العمل، فالطفل الذي دون سن البلوغ الذي لا يدرك ما يدور خارج جنته ولا يعرف حتى ما الذي يحدث بين رجل وامرأة، هذا الخانع المنكسر المنقاد للأوامر والتوجيهات ليس ببعيد عن الإنسان الأول، و"البارون" الذي اتخذه معبرا لإشباع نزواته من أمه المهملة من أب غائب دائما ليس بعيدا عن الشيطان، والفندق الفاخر في المنتجع النائي يقابل الجنة. لكن القصة الدينية ترهن السعادة في طاعة الأوامر وترهن الشقاء بالخروج من الجنة اعتمادًا على الأفكار الغيبية المجردة، أما "شتيفان تسفايج" الذي عاصر النهضة العلمية وتطلعاتها التي أزالت الغموض عن مجاهيل كثيرة وتنتظر وضع حلول لقضايا ومشاكل عظيمة، يصنع من التمرد والخروج على المعتاد طاقة دافعة للبحث عن استكشاف الحقائق: "كأنه سينتزع السر بصِنارة صيد من الأعماق الملتهبة لعينيهما. لا شيء يوقد الإدراك قدر الشك الملتهب. كل قدرات العقل البكر تطورت بمحاولة اقتحام الغموض. أحيانًا، يكون باب واحد خفيف هو ما يُبقي الأطفال في منأى عن ذلك العالم الذي نسميه العالم الحقيقي، ثم تأتي نسمة ريح خفيفة فتعصف به وتفتحه."
يمنح الكاتب الشك كقيمة وجودية دورًا عظيمًا للخروج من حالة الاستغفال التي أوقع "البارون" الطفلَ بها، فقد كان يمكن أن يستمر الطفل خانعًا وسعيدًا في نفس الوقت لو تجاهل شكوكه، لكن أمه وهي رمز الحياة والعطاء له كانت ستكون دائما عرضة للهو أبالسة مثل "البارون"، لكن الشك عند الطفل كان شكا منهجيا: "أعلى الدرج، واجه البارون، وقال له بصوت غاضب، مثقل بالدموع المكبوتة: ما الذي فعلته لك حتى صرت تتجاهل وجودي هكذا؟ لماذا أصبحت تتعامل معي بهذه الطريقة؟ وأمي أيضًا؟ لماذا تقصياني دومًا؟ هل أزعجكما إلى هذا الحد، أم أنني قمت بأي شيء ضايقكما؟". وأخذ هذا الشك ينمو مع تدبر الطفل لما يجري حوله والتفكير بتوسع: "صار الشك يمنحه فكرًا ثاقبًا واستثنائيًّا، نكتوي بالشك لكننا ننضج به"، هكذا يقول الكاتب، وكلما زادت شكوكه زادت أفكاره نماءً بالطول والعرض حتى وضع يده على الداء ووضع الخطط لمواجهته: "مِن الآن فصاعدًا، سيوجه نظرات قاسية ومتهكمة في وجه البارون الغاضب، ورأى كيف يدمدم باللعنات بين صرير أسنانه، واضطراره لمنع نفسه عن قذفها في وجهه. كما راقب بغبطة ساخرة كيف يتنامى حنق أمه، وكيف يتحين كلاهما الفرصة لمُهاجمته وإقصائه بعيدًا، أو يهادنانه قليلا، لكنه لم يعطِهم ثغرة، تكتيكات عداوته قد أُعِدَّت مسبقًا بشكل محكم ولم تترك أي ثغرة مكشوفة". لم يكن الشك ناتجا عن ذات مريضة، لكنه أثاره الخلل الذي أحدثه دخول "البارون" بينه وبين أمه، ذلك الشيطان الذي تسلل من خلاله إليها ثم أخرج له لسانه لينفرد هو بها، لم يكن العداء نابعًا من أنا عدوانية بطبيعتها، لكنها كالتي قالت: "إذا لم يسالمك الزمان فحارب" وقد حارب إدجار حرب المتمرد الشريف للوصول إلى الحقيقة النبيلة بالخروج الكلي: "انكشف له برفق شيء ما بداخله، ليست سعادة بالمعنى المفهوم، بل دهشة من تنوع أشكال الحياة، لقد شعر أنه هرب من الخوف والجُبن، إذ أن هذا كان أول فعل مستقل له، عايش به جزءاً من الواقع، الذي كان يمر بجواره دومًا دون أن يلتفت نحوه". إن الاستفادة من المحن جاءت أعظم مما تخيل ذلك الطفل، لقد "شعر بالسيادة حيال التجارب المستقبلية الغامضة. في الخارج، قد رآها متجردة، لم تعد مستترة كما كانت وراء آلاف الأكاذيب الطفولية، رآها بجمالها الكامل المخيف. وأنهم يأبهون لشأن بعضهم بعضًا، حتى لو بدا أنهم أعداء، لم يكن قادرًا على أن يكنَّ العداوة لأي شيء أو شخص. لم يأسف لشيء، وكان يحمل شعورًا بالعرفان حتى تجاه البارون، عدوه الألد شعر بالسعادة لكونه محبوبًا، وأنه بهذا الحب قد تورط في السر العظيم للعالم". وهكذا نكتشف بعد قراءة عمل مشحون بالصراع حتى من خلال عناوين فصوله التي تشعرك أنك في قراءة تفاصيل حرب دائمة (مباغتة – الأفيال - مناوشة – صمت – الكاذبون - خطوات في ضوء القمر - الهجوم - عاصفة .... الخ) إنها الحرب للوصول إلى الإدراك، للسير في طريق الوصول لكشف السر المُلتهب بالمعرفة وهو الحب. مسيرة رصدها المؤلف، وبيسر شديد ولغة صافية لا تشعرك أنك تقرأ عملا مترجما إلا حين تقابل أسماء أشخاص أو أماكن مختلفة أو عادات لا نألفها في بلادنا.


* شتيفان تسفايج" /كاتب نمساوي
قامت البرازيل في الذكرى الخامسة والسبعين لرحيل تسفايج بتكريمه ومنح اسمه أرفع جائزة برازيلية تمنح للأجانب، الوسام الوطني للصليب الجنوبي ) )ONC
** محمد رمضان حسين/ ناقد ومترجم مصري يترجم عن اللغة الألمانية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى