يونس بن عمارة - حبّ على النّمط التّقليديّ.. قصة رومانسية قصيرة

وضعت للتوّ قصّة (بول وفرجيني) ودمعتان حارّتان على خدّيها، إنّ هذه القصّة مُؤثّرة فعلا.

وصلت الخادمة إلى الشّرفة، وما إن رأت الغلاف الأحمر للرّواية إلّا وقد عرفت أنّ سيّدتها الآنسة راديفسون تبكي، لقد قرأتها حتّى الآن عشر مرّات، لطالما عاودنا قراءة الرّوايات التي تُعجبنا.

كانت الصّفحة الأولى من هذه الرّواية تحوي بخطّها: “عندما أهداني هنري هذه الرّواية… أهداني كنزا من المشاعر”.

أبوها… السيّد دافيد ويليام راديفسون لم يشأ أن يمنعها من قراءتها… غير أنّه يخاف عليها من هذه الرّوايات. والتي يدعوها بالرّوايات المُبتذلة، إذ يُحبّ روايات والتر سكوت.

والسيّد دافيد ويليام شيخ وقور، من الجيل القديم المُحافظ جدّا. وقد منع عنها الدّراسة حين كبُرت قليلا ليأتي لها بالمُدرّسين في بيتها وهُو كريم وجواد، أقلّ ما يُقال عنه أنّه رجل نبيل حقّا. دخلت الخادمة إلى الغُرفة ومن ثمّ إلى الشّرفة لتقول: السيّد مارك دونالد في قاعة الدّرس إنّه يقول كعادته إن كان بك توعّك أو ما شابه فلا داعي للدّراسة الآن. يُمكنك الدّراسة فقط حين تشعرين أنّ ذلك مُناسب…

مسحت جنيفر دُموعها، أو بالأحرى دمعتيها… وقالت بصوت هادئ: لا أظنّ أنّني سأتغيّبُ الآن… قولي لهُ أنّي آتية…

السيّد رافاييل ماك دونالد… أستاذ العلوم الطّبيعيّة وهاوي مستحاثات كبير… الأشهر على مُستوى إنجلترا كلّها.

كانت غُرفة الدّرس غرفة بسيطة ذات سبّورة سوداء وأثاث عاديّ، بها كُوّة لدخول أشعّة الشّمس ونافذة عريضة مُغلقة دائما، كان هنري دوما يخبّئ بينها وبين شبّاك النّافذة دُمية جنيفر… لقد كانت تدعوها “صديقتي إيما” لقد كانت جنيفر في طُفولتها تجتنب أن تفعل كالبنات الأخريات اللائي يعتقدن أنّ دُمياتهنّ هُنّ بناتهنّ، لقد كانت جينيفر تعتقد أن دميتها هي صديقتها أو بأسلوب آخر: أختها.

أما هنري فهو قريب بعيد لجنيفر راديفسون، وهو ابن السيّدة هيلاري لوبيز ابنة خالة السيّد دافيد ويليام راديفسون.

دخلت جنيفر وجلست شاردة الذّهن… بدأ السيّد ماك دونالد بالثّرثرة العلميّة حين سألته:

– سيّدي، هل تظنّ حقّا أنّه من العدل أن يتعذّب عاشقان؟

– نحن الآن في حصّة علوم آنستي…

– ولكن يا سيّدي أتُحبّ المستحاثات؟

– أجل.

– إذن لهذا السّبب تتكلّم عنها كثيرا… فلي الحقّ إذن أن أتكلّم عمّا أُحبّ.

– أنت مُخطئة وللأسف يا بُنيّتي… أبوك، أتى بي إلى هُنا لكي تستفيدي من ثرثرتي فيما أُحبّ… أمّا ما تُحبّين فعلاوة على أنّ الأستاذة أرنستين تُحبّك وتُدرّسك الحياة أكثر من العلم، فلديك معها مُتُسع من الوقت لكي تتكلّمي كما تشائين وكما تُحبّين.

– أنت مُحقّ… أنا آسفة. واصل من فضلك!

كان السّيد ماك دونالد يمتلك لهجة مُقنعة، ولكنّ الذي لا يعرفه، عرفته الأستاذة أرنستين دي فاليروان، أستاذة اللغة. فقد قالت لما حدثتها جينفير كما فعلت مع أستاذ الآثار:

– وبسؤالك هذا تُقرّين أنّك عاشقة؟…

– أنت تعرفين أنّني أُحبّ هنري.

– وأنّت تعلمين أنّ أباك مُتخاصم مع أمّي.

– ولكن لماذا نكون نحن الضّحيّة. لا دخل لنا فيهم… فليتركونا نعيش حياتنا.

– ما زلت صغيرة يا بُنيّتي، الشّخص عندما يُحبّ ينسى كُلّ شيء، وعندما يكره يكرهُ كُلّ شيء، ألا تدرين أنّك إذا كرهت شخصا تكرهين نسلهُ أيضا… تخيّلي فقط أنّ أحدا أتى لأبيك قبل أن تولدي وقال لهُ: إذا أنجبت لورا فتاة “هل ستُزوّجها لابن السيّدة لوبيز… وأنت تعرفين الإجابة…”

– حتى ولو كان…العيب في أمه، هنري لا بأس به.

– سيكون للدّماء نصيب من الحديث عند أبيك، سيقول أنّ دماء اللؤماء لا تختلط إلّا بدماء اللؤماء…

وتذكّرت جنيفر المُحاضرات الكثيرة التي ألقاها عليها أبوها حين علم بحُبّها لهنري… وقال أنّ دمّ لوبيز الفاسد يجري في عروقه، أمّا آل راديفسون الذين ينحدرون من آل ستيوارت أنفسهم فهم من دماء ملكيّة ويجب أن يبقى نقيّا ثُمّ ضرب أمثلة عديدة عن عائلات شريفة وفاسدة وماذا جرى لهما بما يُؤيّد نظريّته.

– هنري شابّ صالح وأنت تعرفُه يا أبي… الدم ليس مُشكلة، وإذا كانت التّربة صالحة البذور ستنشأ بصورة طبيعيّة.

قال دافيد وكأنّه يُعلن هزيمة ابنته:

– المُشكل في البذور يا بُنيّتي، أنت هي التّربة، سيقول لك ماك دونالد أنّه إذا كانت البذور سيّئة… لن تنفع التّربة والماء أصلا…

كانت حياة جنيفر راديفسون، واضحة المعالم جدّا… فالمدرسة والكُليّة لا تُمثّلان لها شيئا في حياتها وما إن يتقدّم شريف من النّبلاء حتّى يُزوّجها به أبوها… وحينها… وبعد وفاته… سيرثان ثروته العظيمة.

أمّا حياة هنري لوبيز فمُختلفة تماما، بعد إنهائه كُليّة الصّيدلة سيبحثُ عن عمل في معمل دواء… وحينها سيلتفت إلى الحياة الزّوجيّة ويتزوّج بجنيفر، هُو الآن في العام الثّالث… ومازال عامين… عامين فقط… لقد رفضه أبوها حين أتى ليخطبها منه وقال:

– أعلم يا بُنيّ كم تُحبّها… لكنّها لا تصلح لك… الله لم يكتبها لك.

***

شهادة السيّد رافاييل ماك دونالد

يجبُ عليّ أن أقول الحقّ… لقد كان السيّد ويليام دافيد ظالما، ولو كان هُناك سلّم للظّلم لتربّع السيّد ويليام على عرشه.

أنا لا أُريد أن أستطرد في سلّم ريختر (والسيّد ماك دونالد يحبّ الاستطرادات كثيرا) وضرورة وضع سلّم مُوحّد، كذلك وضع سلّم حراري مُوحّد بين المئوي والفهرنهايت ونُشير في هذا المقام إلى مُحاولات عديدة أهمّها مُحاولة ديمريتش والتي أنتقدُها في نُقطتين… (كانت الآنسة ارنسين دي فاليروان تقول: كلّما يجدُ السيّد ماك دونالد ورقة وقلما يكتب مقالة عن العلوم الطّبيعيّة!).

أنا أعتقد أنّ السيّد ويليام، وإن كان ذا حكمة وعقل راجحين إلّا أنّه أخطأ في حقّ ابنته، لا أُريد أن أروي أشياء خصوصيّة عن آل راديفسون، فالقضاء الانجليزيّ متعفّن النّواحي في باب القذف والشّتم العلني (يحرص البروفيسور على استعمال لفطة التّعفّن كمُصطلح علميّ وظاهرة طبيعيّة) وما هذا إلّا أنّي سأنشر ما أكتبه الآن في مُذكّراتي، ولذا فإنّ للخصوصيّة – حتّى دون علّة القضاء فالأخلاق والدّين عاملان مُهمّان – حُرمة معلومة.

سأمتنع (تقول الآنسة ارنستين أنّ ماك دونالد مُؤلّف غزير التأليف) عن ذكر هذا حتّى ولو وجهتها في رسالة شخصيّة، فنظام البريد المُتبّع، جدّ قاصر عن مهامّه وأنا أقترح بدل البرقيّات… (استطراد محذوف).

حاشية رقم واحد: إنّ الآنسة جنيفر جميلة جدّا، جميلة جمالا أكثر من زهرة اللوتس البديعة.

شهادة الدّكتور جينير غايفرون

أنا أعرف آل راديفسون جيّدا، بصفتي طبيبا عاديّا وطبيبا نفسيّا، أنا أعرف في قرارة نفسي أنّ ويليام أو دافيد كما يحلو له أن يُدعى لم يكن مُحقّا البتّة.

لقد جرّ رفضه لابن ابنة خالته السيّد لوبيز إلى التّعارض مع رغبة ابنته الحنونة الرّقيقة جنيفر، ولمّا قابل رغبتها بالرّفض قالت له جنيفر بعصبيّة يومها وهي تبكي: إذن لن أتزوّج يا أبي… هنري أو لا أحد…

– يا بُنيّتي… الزّواج أساس الحياة… هنري ليس من عائلتنا… هنري ابن الحقيرة…

– مالي ولابنة خالتك! أنا أُحبّ هنري لا أمّه…

وسوف تحكُمون بأنفسكم، سادتي بعد هذا على أيّهما المُحقّ.

شهادة السيّد دافيد ويليام راديفسون.

لم تكُن هذه أخلاق ابنتي، ولا أخلاق زوجتي، رحمها الله رحمة أبديّة –لورا- أبدا غير أنّ الحبّ أعمى، لقد صدق أولئك الشّعراء الغاوون، إنّ الحبّ أعمى، إنّ الحبّ الجامح الذي يأتي فجأة يستغرق سنوات عديدة. لقد علّمتني الحياة ألّا أستسلم، أقسمتُ ألّا تتزوّج هنري وأقسمت هي ألّا تتزوّج إلّا هنري.

أنا أتذكّر أيّام حُبّي لأُمّها لورا… كانت الأميرة الجميلة الحسناء… غير أنّها لم تكن ابنة حقير أو حقيرة… كانت شريفة دمّا ولحما وروحا.

شهادة الأستاذة الآنسة ارنستين فاليروان

دافيد ويليام هو المُخطئ… كيف يُفرّق بين عاشقين… يا لجمال هذين الزّوجين. أنا أتذكّر الآن لوحة الرّسام… آه… لقد نسيت غضبي… طبعا… أجل… كيف يُفرّق بين عاشقين طلبا الزّواج الشّرعي في الكنيسة المُقدّسة… أُفّ لهؤلاء الرّجال المُتحجّرة قلوبهم… كأنّهم مومياوات إنجليزيّة عتيقة ملفولة بألف لفّة من قماش العادات والأصول والتّقاليد… وآه وواه لو كانت أُصولا تدعو إلى خير أو تجنّب من شرّ إنّها الظلم الكاسح والجهل الجامح.

أنا أُحبّ جنيفر… دائما يكون حبّ المرأة أعنف من حبّ الرّجل، وأحبّ سعادة جنيفر، إنّ أبوها لا يريد أن تسعد ابنته البتّة، البتّة وكما يقول القسّ السّمين سبرفايلد خيرُ موعظة “… فليغفر الله لنا جميعا… فليغفر الله لنا جميعا…” إذن فليغفر الله لنا جميعا.

رسالة هنري إلى جنيفر

لا ألوم أباك أبدا. حبيبتي جنيفر (لأنّ القدر هُو الملوم الوحيد)، لم أُصبح فيلسوفا لأنّي فشلت في حبّك، وأصبحت أنسبُ كلّ شرّ للقدر، إنّ الإنسان يخدع نفسه دائما عندما يبني بُرجا كبُرج فرنسا وتسأل طفلة بريئة صغيرة خالتها الفرنسيّة الجميلة.

– خالتي من بنى هذا البُرج؟

فإنّها ستقول وهي تمضغ العلك وبنغمة ايطاليّة (لأنّها تدّعي أنّها من الريفيرا الايطاليّة) “المُهندس ايفل يا صغيرتي” وستتجنّب أن تقول “بُنيّتي” لكي تُبيّن للنّاس ولنفسها أنّها صغيرة ولم تتزوّج أو تُنجب بعد.

أنا لا أُريد أن أكون أديبا بكلامي هذا أو أُحلّل نوازع وكوامن الخير والشرّ عند النّاس أنا مُنذ أيّام أفكّر في الأسباب التي حلّت بأبيك لأن يرفضني فوجدتها سببين.

أوّلهما: إنّي ابن ميلاري لوبيز.

ثانيا: أنّي لا أصل إلى مُستوى شرف أبناء أصدقائه من الأكفاء لك في نظره.

أمّا جوابي عن السؤال الأوّل، فإنّني لن أتنازل عن اسم عائلتي (لوبيز) حتّى ولو قال أنّه سيُزوّجني بك، أنت نفسك يا حبيبتي سترفضين رجلا تخلّى عن شرفه فما أسهل أن يتخلّى عن حبيبته.

وأمّا السّؤال الثّاني فأبوك لا يعرفني إطلاقا، إنّ مستواي العلمي أعلى ودون فخر من أيّ مُستوى علمي يملكه من يظنّه أبوك المُوقّر كفؤا لك، أمّا في مجال المال والفروسيّة فأنا أقول له عبارة واحدة فقط، أنّ (عصر الفروسيّة ولّى) وإن كان يا حبيبتي جنيفر لا يفهم ذلك، فأنا حقّا أرثي له، لأنّه يعيش في عصر آخر غير عصرنا هذا.

المُخلص هنري لوبيز.

رسالة حنيفر إلى هنري

يجب أن لا يكون أبي عائقا أمام حُبّنا… هنري يجب ألّا يكون النّسب هو الشّيء العائق بيننا… نحن نُحبّ بعضنا ولتذهب الأنساب إلى الجحيم.

المخلصة جينيفر.


***

في هضبة مُخضرّة تتربّع عليها عدّة صخور منحوتة وبيوت مهجورة أشبه بحطام سفينة ضخمة على اليابسة، كان هناك عدّة أشخاص، بل سُيّاح يجوبون هذه الخرابة كان هُناك فوجان… المجموعة الأولى عدّة رجال يقومون بالحفريّات بقيادة شابّ أبيض البشرة قويّ البُنية طويل القامة رافعا رأسه وأنفه للسّماء أبدا…

أمّا المجموعة الثّانية فمجموعة من السّادة والسيّدات بقيادة دليل سياحي ظريف جدّا.

صافح الدّليل عالم الآثار الشّاب… وقال له: “أما زلت تبحث هُنا؟”

– أجل… وأين ستجدُ عالم آثار إن لم تجده في خرابة…

قالت سيّدة من بين السيّدات، جميلة، بيضاء وشعرها أسود فاحم وعيناها زرقاوان قالت بمرح: إنّ الشّيخ زاده كان يُمازحنا قبل قليل أنّ الخرابة يسكنها اثنان البوم وعالم الآثار!

انفلتت ضحكات من عدّة أفواه ثُمّ ابتسامة ساحرة انفرج عنها ثغرها… راقبها هنري لوبيز مذهولا بجمالها الذي لا يُقاوم… هُناك بعض النّساء يمتلكن إغراء وفتنة لا تُقاوم، أمّا هذه فلا تُقاوم نفسيّا وجسديّا، روحيّا وماديّا… لا تُقاوم على الإطلاق.

قوامها الممشوق الذي يتأوّد في لباس انجليزيّ تقليديّ خلّاب.

وبعد جولة مُمتعة مع الشّيخ زاده… رافقهم خلالها الأثريّ هنري… اتّجه الرّكب السّياحي إلى الحافلة الصّغيرة للعودة حين تخلّفت الحسناء الانجليزية قليلا… وقد سقط منها كُرّاس صغير تتخذه كأجندة… أخذها هنري من على الأرض، وقرأ عنوانها وذرف دمعتان… “جنيفر راديفسون”

كانت قد أرسلت العنان لدموعها… حين وقف هنري وقال: ثلاث سنوات حياتي…

– هنري… أنا أهيم بك…
– جنيفر… أنت هي… حبيبتي…

* عن مدونة يونس بن عمارة


يونس بن عمارة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى