محمد حسن إبراهيم - جماليّةٌ منسيَّة ومُشاعة

تُغري صفة الجَمال لوضعها في مصاف المقولات الأنطولوجيِّة وحتى إن لم تكن كذلك فإنَّ مجرَّد الإغراء الذي تشعه هذا والتشكك والإكتراث لها والتساؤل عما إذا كانت تنتمي لهذا الحقل ( الأنطولوجيا ) أم لا لهو دلالة على أنها تملك قدرا من الأهليّة أو مسحة من شبه مع مقولات هذا الحقل ، ثمَّ ملاعق جميلة وكتب جميلة وإيماءات وصفات وأفعال جميلة ويمكن أن نذكر الكثير غير ما أسلفنا ذكره ، وربما حدى هذا بأفلاطون لعدّه جزءا مقوِّما لوجود الموجود هو والخير ، وكمزيد دلالة على قيمة الجمال في الفكر البشري فإننا إذا ارتحلنا إلى السيكولوجيا وعند فرويد خصوصا في كتابه قلقٌ في الحضارة فإننا واجدون مكانة للجمال عنده بحيث يعدّه المطلب الأقصى من التحضر وأن تجاهل الحضارة لهذا المطلب أحد أسرار إنزعاج المرء وسطها وتململه رغم كل ما قدمته له من أمانٕ ضدَّ ما يتهدده وفوق ذلك توفيرا كبيرا لوسائل الراحة بفضل العلوم والتقنية .

لكن وفي الحقيقة فإنَّ الجمال الذي دأب الفلاسفة على الحديث عنه مغاير - وليس تماما - لذلك الذي يتحدث عنه فرويد ، فالفرق يكمن في المصدر الذي يُستمدُّ منه أو تستشعر بفضله هذه الصفة ، فالفلاسفة وفي الغالب يرمون لمصادِر فنيَّة بالمعنى الصارم والضيق ، كاللوحات والمنحوتات والموسيقى والشّعر ، أما فرويد فهو مُتحدّثٌ عن جمال مستمدّ من مصادر بسيطة ونُلاقيها يوميا مثل تلك التي نجدها في شارع مُشجَّر وفي نظافة المدن وتكاد المُتعة ( وهي الشعور الذي يبثه الجميل فينا ) المستمدة من هذه المصادِر أن تتلاشى إذا ما قورِنت بتلك التي يجلبها تأمُّل الأعمال الفنية العظيمة .

إن الفلاسِفة يجعلون الأمر يبدو كما لو أنّ من لم تُجِز له الفرصة لتلقي الأعمال الفنية قد قُضي عليه بالحرمان من إرواء هذه الرغبة المِلحاح.

ههُنا يطلُّ علينا الفيلسوف المعاصر روجر سوكروتون في كتابِه "الجمال" ( الصادر عن المركز القومي للترجمة ) بمفهوم "الجمال الخافِت" وهو يتأسّس على بديهتين مهمتين تقرُّ الأولى بأن الجميل ممتع والثانية تقر بتفاوت بين شيء جميل وآخر وهو فرق في درجة المتعة وشدّتها وإنَّ أقلّ درجة من هذه المتعة هي التي يدور حولها هذا المفهوم فهو يعرّفه بأنّه "الجمال في أقل درجاتِه" [1] ، فنحن لا نتوقّع من شيء يمدنا بهذا القدر من الضئيل من الجمال أن يُخلَّد بمعية جماليات بطولية فنية ، لكِن الرغبة فيه تحضر وتبدى "بشكل واعٕ أمامَ الآخرين" [2] .

فنحن أيا يكن نفضُّل أن تكون غرفنا مُرتبة ونظيفة وأن تكون قدر الطبخ في هذا المكان ، وقد نتلقاه ونحن نمُر بإحدى الطرقات إذ تلاقي أعيُننا وجها جذابا ثمّ ما نلبث أن نمضي إلى حيث إعتزمنا الذهاب ، " إنّها أكثر إنخراطا في قراراتنا العقلانيَّة " [3] و " تُشكّل قطعة من المشهد الذي نعيش فيه حياتنا " [4] .

يجعل مفهوم الجمال الخافِت من الجمال صفة مُشاعة وفي مقدور أي إنسان ، الجمال في أقلّ درجاته يتمثّل في الرغبة في تحقيق إنسجام وتواؤمٕ قدر الإمكان إنه يظهر وسط تواضع غيرِه ويستوقفنا إذاك لِفُرادته وفي نفس الوقت هو مانحٌ لغيره من أعمال جمالية عظيمة لأن تُرى وتُتلقى بهذا القدر من المتعة إذ "يتعفّف عن منافستِها أو لفت الأنظار لنفسها" فيشيح بنظرنا عنه من أجلها لتستوقِفنا فُرادتُها هي بدورها .

إنّ الجميل المقدس أو البُطولي مرهونٌ جمالهُ بوجه من الأوجه بمحيطه حتى وإن غاب هذا المُحيط إذ نتفرّسه وننتشي به بل هو يحتاج إلى هذا المحيط الخافِت ليطغى ويغمر ذواتنا لذّةً ، و"إنَّ أبدع ما صنعته يد الإنسان إذا وُضعت كُلها جنبا إلى جنب ستفقد لا محالة تفرد كل منها وسيصبح كل منها في حرب مع جمال القطع الأخرى" [5] .
______________________
1- الجمال لمؤلفه روجر سوكروتون ص30
2- نفسه ص30
3- نفسه ص31
4- نفسه ص31
5- نفسه ص33

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى