أدب المناجم عذري مازغ - يوميات مغارة الموت: تجربة الحلم

الإهداء: إلى عمال مناجم جبل عوام، القلعة الصامدة التي مازالت تشع بنضالاتها المستميتة

كتبت عن هذه التجربة في أيامها، ونشرت بعض التفاصيل منها بشكل متقطع في جريدة أنوال التي كانت حينها لسان منظمة العمل الديموقراطي آنذاك، كما ضاع الجزء الأكبر منها بين تناقلها في ألأيادي، أي أنها كانت تتناقل من يد إلى أخرى لتصل إلى النشر أو لا تصل، كنا في اعتصام داخل المنجم على عمق 800م وكان المنجم مطوقا بالدرك الملكي حيث انقطع التواصل مع الخارج بسبب هذا الحصار، وكنت كتبت هذه المذكرات في أوراق إدارية، بونات تتضمن تعليمات ومقادير لكميات المتفجرات التي تستعمل في المنجم، كنت قد وجدتها بأحد المكاتب المهيأة في المنجم، وكنت أكتبها أملا في عكس الصورة التي كنا نعيشها داخل الإعتصام، وأبعثها مع عامل الصيانة بالمنجم، وكان يخضع للتفتيش عند دخوله إلى المنجم أو عند خروجه، وكان طبيعيا أن لا تصل كلها، ثم إن ظروف النشر حينئذ كانت متأثرة بجو الكتابة النخبوية آنذاك أي أن أغلب الجرائد الوطنية كانت متحزبة في الغالب وكانت أعمدتها مخصصة للمتمرسين في الصحافة الحزبية إضافة إلى أنشطة كوادرها، كانت في الحقيقة تتماهى مع الصورة النمطية لصحافة المخزن، وطبعا بأشكال متفاوتة،صحافة المخزن كانت تنشر أنشطة الملك ويأتي بعده نشاط حكومته، ثم أخبار متفرقة حول تدشينات هنا وهناك أو رسائل أخوية بين حكومات شقيقة، وكان الغباء المشترك فيما بينها، أعني الصحف المخزنية والصحف الحزبية، هو أنهم كانوا يكتبونها في الليل ليقرأوها في ضوء الصباح على أنفسهم، لأن الأمية في الشعب كانت مستشرية بشكل قاتل، في المنجم كانت تصلنا جريدة “الحزب الشيوعي المغربي”بشقيها المكتوب بالعربية والمكتوب بالفرنسية ( طبعا بين قوسين كلمة الحزب الشيوعي المغربي لأنها صراحة صغيرة على العمال الذين كانوا شيوعيين بالفطرة )، وكان يحملها الكاتب العام للنقابة وهو أمي تحت إبطه ليقرأها أحدنا داخل المنجم عندما يتركها حيث الموضع الذي نتناول فه وجبة الإفطار الثانية دون أن يسألنا هو عما تحتويه، كان يعرف أنها جريدة النقابة بالوراثة أي أنه ورث عرفها من الحزب الشيوعي حين كانت كوادره فرنسية، أما هو فلا يعرف عنها سوى أنها تصلح كسجادة يفترشها أوقات الصلاة داخل المنجم.
قلت، كان من الصعب تقبل نشر مقالة لعامل بسيط من المناجم، مكتوبة في ورق رديء وتضايق أعمدة الكبار، كان صعبا أن يتقبل النخبويون وجود عمال يكتبون من مناجم لعمال جبليون يجاورون غابات تعيش فيها بعض من قبائل القردة،كان الموقع الجغرافي هذا يمنع رؤية النخبة المثقفة في المدن الكبيرة من أن ترى بأن المجتمع العمالي الذي يألف بينهم طابع العمل الجماعي المنجمي هم مجتمع يتألف من عدة أجناس ومن مختلف المناطق، وبعبارة كان مجتمعا أكثر مدنية، وأكثر توحدا وإئتلافا من القطعان الدائعة في صخب المدينة، كان مجتمعا صغيرا حقا لكنه مجتمع شريف أشرف من النخب المثقفة التي تتجارى وراء المناصب الإدارية دون أن تكون لها رؤية مجتمعية واضحة، لهاوظيفة يستعجلها زواج سريع لتأسيس أسرة تغدو منعزلة وأنانية منكمشة على ذاتها في طقوس بورجوازية لاتتقن إلا حساب التقشف والتباهي بلغة متفرنسة عوجاء، مجتمع منفصم ثقافته حفلات أعياد الملاد. كان صعبا على هذه الفئة المشرفة على صناعة الوعي الجماهيري المنسجم مع استراتيجية تدخل في برنامج الحزب أن تقبل عاملا يكتب خزعبلاته وان تتفهم وعيا ينولد من داخل الأنفاق المنجمية، وعيا يحمل لغة مختلفة وثقافة مختلفة ومعانات مختلفة، وعي لمجتمع عاش خارج الثقافة المخزنية، ويعتصم في عملية احتلال لمنجم ليربك حسابات أحزاب ونقابات كانت تساوم للدخول في حكومة العهد الجديد ، عهد سمي آنذاك بعهد “الإنتقال الديموقراطي” ، بالخلفية ذاتها التي لمجتمع الوظائف الإدارية: عقد قران مع النظام الحاكم، تأسيس أسرة حكومية فانعزال فانكماش مقيت، فلغة مفرنسة فحفلات لميلاد بئيس، يقال أنها تدشينات وطنية وبعبارة كان العهد ذاك عهد النشاز السياسي، وفي جوه كانت المعركة الكبيرة لعمال مناجم جبل عوام الذين تجرأوا في سابقة تاريخة من المغرب بطرح ملف التملك الجماعي لشركة مناجم جبل عوام من طرف العمال مادامت الشركة الأصل قد قدمت سيناريو إفلاس ببيع الشركة بدرهم رمزي وأعلنت إفلاسها في المحكمة الإبتدائية بأنفى بالدار البيضاء وكانت المعركة الكبيرة التي دامت زهاء أربع سنوات من التضحية، وأفرزت ما أفرزت من تناقضات وعلى مستويات عديدة، ويكفي المرأ أن يتصور أن عمال مناجم جبل عوام كانوا في صراع مباشر مع الحكومة المغربية (التي كانت تقودها أم الوزارات آنذاك في شخص الرجل الحديدي إدريس البصري) من جهة ومن جهة أخرى التنازع القاتل مع النقابتين المركزيتين ومن ورائهما أحزاب المساومة (مع استثناء دور فرع الإتحاد المغربي للشغل بالرباط الذي كان داعما للمعركة مناقضا في ذلك التوجه المركزي للنقابة). في هذا الجو النضالي المشحون بالصراع كتبت هذه اليوميات بالشكل الذي سبق ذكره وضاع منها الكثير بين الأيادي ونشر منها القليل كما أشرت في جريدة أنوال، وإيمانا مني بأن لاتذهب النضالات البطولية لعمال مناجم جبل عوام سدى، سأحاول إعادة كتابتها، حافزي فيها هذا الإعجاب الغير المنتظر لمناضلين نقابيين إسبان عندما أثرت عرض هذه التجربة النضالية في أحد ملتقيات النقابة العامة للعمال بإشبيلية، حيث توالت علي الأسئلة بشكل لم يكن محسوبا، إذ أني لم أكن أحمل معي لا أرقاما ولا تواريخ ولا شيء آخر بل كانت مداخلة ارتجالية كلفتني الكثير من النخور في الذاكرة والعودة وراءا إلى أيام الإعتصام، أيام تيغزى الوردية وأيام الشموخ النضالي الذي كرس مدرسة فريدة من نوعها في المغرب ـ
تيغزى القرية العمالية بأنشطتها المتعددة الإجتماعية والثقافية والخدماتية، ببنيتها التحتية التي كرستها سنوات مريرة من نضالات العمال المستميتة، بدءا بالإنخراط في المقاومة المسلحة ضد الإستعمار الفرنسي وانتهاء بالنضالات المتعددة ضد الإستغلال الرأسمالي في المناجم التي بها انتزع عمال المناجم بجبل عوام ما اكتسبوا ليخلقوا نموذجا من العيش الإجتماعي وسم ما كان يحلم به الساسة المخزنيون حين يزكمون أحلام شعب فقير ويتوعدون سكان المداشر ببناء قرى نموذجية، لعلهم يقنعونهم بالبقاء الأبدي في القيام سرا وعلنا بعبادة البؤس والضياع، ينتظرون موسما مطرا ويصلون صلاة الإستسقاء أيام الجفاف، كان فقراء المداشر الفلاحية والبوادي النائية يعيشون حياة ماقبل التاريخ ويقدسون السماء كما لو كانوا من عبدة الأوثان وكان الساسة في قبة البرلمان يعدونهم ببناء قرى نموذجية وكانوا في الحقيقة يبنونها لأنفسهم هم ، أما العمال بتيغزة فقد بنوا قريتهم النموذجية دون أن ينتظروا وعودا: منازل قرمودية تتوفر على قنوات الصرف الصحي، إنارة بالكهرباء، قنوات الماء، أزقة منتظمة بدون أسماء، أو هي بأسماء العمال القدماء ( يقال زنقة فلان لأنه كان أول قاطن فيها أو أكبرهم أو أشهرهم لحادثة نضالية ما). كانت القرية تتوفر على مسبحين عامين لرياضة السباحة إضافة إلى مسبح خاص لطبقة الأطر والمهندسين، مستشفى محلي مجهز بالمعدات الطبية والأدوية سيارتان أو ثلاثة للإسعاف، طبيبين أحدهم فرنسي أثر البقاء بالمغرب على العودة إلى فرنسا وآخر مغربي بعد أن طرد العمال طبيب إسباني لانحيازه إلى الباطرونا، قاعة سينما لعرض الأفلام السينمائية أو المسرحيات تشرف عليها الشبيبة العاملة، مقر للنقابة العمالية تشتغل فيه الشبيبة أكثر مما يجتمع فيه العمال لأن القرارات العمالية كانت تصاغ في الساحة الكبيرة عند كل بئر من آبار المناجم، كما أن سبورة المطالب والملصقات التي تعني بقضايا العمال كانت تعلق بها هناك بتلك الساحات (كانت كل وحدة انتاجية تتوفر على ساحة وسبورة ومنصة لتدخل أي عامل يريد أن يلقي كلمة أو وجهة نظره)، نقل مجاني عمومي كان يستفيد منه كل السكان، كما كان يؤدى في حالة التسوق بثمن رمزي لدعم ما يسميه العمال بالصندوق الأسود، (سنأتي على ذكره في حينه) بالإضافة إلى صناديق الإنعاشات الأخرى، قلت نقل عمومي يشمل كل المجال الحيوي للقرية كما كان يربطها بجميع وحدات الإنتاج، نقل مدرسي يستفيد منه أبناء العمال وكل الساكنة، حي تجاري تتوسطه مقهى عمومية للعمال إضافة إلى مسجد كبير وحانة ومدارس ابتدائية إضافة إلى ملعب لكرة القدم وآخر لكرة التنس ومجال غابوي وبساتين صغيرة أمام كل منزل، كانت تيغزى قرية نموذجية بكل المقاييس ، لا مركز للدرك ولا وجود للمباني الحكومية، وكانت تتفاعل فيها جميع الثقافات، إسلامية، شيوعية، قومية، وما إلى ذلك مما يشكل النسيج الثقافي المتنوع بتنوع الإجناس أيضا فيها، عرب، أمزيغ من سوس، من الريف والأمازيغ المحليين .
كان عدد العمال الرسميين بالمناجم 750 عامل وعدد المياومين منهم يتراوح ما بين 250 و300 عامل أما عدد السكان الذين كانوا يعيشون من النشاط الحيوي للمنجم كان يفوق 3000 ن كما كانت دورة الأجور العمالية أيضا عاملا حاسما في حيوية المدينة المجاورة مريرت من خلال نشاط سوقها الأسبوعي، أما المناجم فكانت تتمركز في ثلاث مناطق متجاورة، منجم جبل عوام المركزي، ومنجم إغرم أوسار (القصر الكبير بالأمازيغية، ويسمى أيضا قصر السلطان الأكحل وهو عبارة عن صور قديم ينتمي إلى عهد الدولة المرينية، هناك دراسات عبارة عن أبحاث جامعية لطلبة تقول بأنه بناه البرتغال، أما أنا شخصيا فأرى أن الحقيقة الوحيدة التي تحوم عليه هي التهميش الممنهج لمسح تاريخ المنطقة، بغض طرف الدولة عنه وعن الهدم العشوائي الممنهج في حقه خصوصا في السنوات الأخيرة، لمسح آثاره حتى لا يكون هدفا لدراسة علمية أركيولوجية في المستقبل، أما الحقيقة المسجلة رسميا في أرشيف الشركة المستغلة حاليا فهو سور لمدينة إدريسية تأسست على قاعدة حلم شريف(1)) والمنجم الثالث يسمى منجم سيدي أحمد نسبة إلى مالك الأرض التي أقيم عليها مقابل وظيفة بئيسة برتبة عساس ليلي .
يعود تاريخ استغلال هذه المناجم، ومن خلال آثار الحفر القديمة، إلى القرن الثالث عشر، كما بدأ التنقيب بحثا عن الفضة والذهب بالمنطقة من خلال المسح الطوبوغرافي والجيولوجي، اعتبارا لطبقة الكرانيت التي تكون البنية الجيولوجية للمنطقة، قلت بدات أبحاث التنقيب سنة 1929م حيث ستؤدي النتائج الميدانية إلى اكتشاف الذهب في شكل كتلة صلبة مع الكوارتز سنة 1950م ثم إلى تأسيس الشركة المنجمية لجبل عوام سنة 1954م التي بدأت رسميا في الإستغلال منذ سنة 1955م(2).ـ
يتبع..ـ
(1)قرأت أخيرا مقالا للباحث المغربي أحمد عصيد يبرز فيه أن قبر إدريس الأول حدد بناءا على حلم أحد الشيوخ لأفاجأ بدوري أن عهد بداية استغلال المناجم يعود إلى الدولة الإدريسية، والحال أنه ليست هناك دراسة علمية تثبت هذا الطرح او ذاك، لكن الثابت لدى السكان المحليين أن المدينة بناها “السلطان الأكحل”إضافة إلى وجود نقود الدولة المرابطية أزاح عنها السيل في الثمانينات وهي عبارة عن قطع نقدية ذهبية إضافة إلى بعض أسماء المنطقة التي قد تساعد في تحديد هوية المدينة، والثابت حتى الآن أنها بنيت تأسيسا على وجود هذه المعادنـ
(2) في مقال لها منشور أيضا بالحوار المتمدن، أوردت جريدة المناضل”ة” هذه التواريخ لكن على مايبدو اعتمدت على ذاكرة العمال وليس على أرشيف الشركة المستغلة ـ


https://l.facebook.com/l.php?u=http...Yqa7O52gyq7qTqKBfN0xPnh8CB6FXjOzerbrRw825bcXU
ahewar.org
عذري مازغ - يوميات مغارة الموت: تجربة الحلم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى