توفيق الستيتي - رواية “قصة عشق كنعانية”والمنهج النقدي الأسطوري

[SIZE=22px]التّجلي: يبدو جليا من خلال القراءة الأوّلية لرواية “قصة عشق كنعانية” أن التجلي الأسطوري “تام وصريح”، حيث جعل صبحي فحماوي من “الأسطورة الأوغاريتية” مُكوِّنا بنيويا مُهيمنا يخترق متن الرواية الحكائي ونسيجها البنائي من الألف إلى الياء. ولعلّ أول مظهر من مظاهر هذا التجلي ينكشف من خلال عنوان العمل نفسه؛ فنسبة “قصة العشق” إلى “العهد الكنعاني” تُحيلنا بشكل مباشر على العصور الغابرة لبلاد الشام القديمة، عندما هاجر الكنعانيون، منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ليستقروا على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط في بلاد الشام وجنوبها (أرض فلسطين) فاكتسبوا تسمية “سكان الأرض المنخفضة” نسبةً إلى “أرض كنعان” المستَمَدّة من الكلمة كنع/ قنع/ خنع، التي كانت تعني الأرض المنخفضة.
وبعد العنوان الرئيس، تأتي الإشارة الواردة بالمناص الاستهلالي الأول ضمن عتبة التصدير، المُقتَطَفَةِ من كتاب “اختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني”، لتُؤكِّد هذا التجلي الصّريح، من خلال استحضار لفظة “الأساطير” في تشبيه الأمم بالروايات واشتراكهما في التَّأثُّر بصروف الدّهر وعاديات الزمان، حيث يقول هومي بابا: «الأمم مثل الروايات، تفقد جذورها في خضم الزمان وأساطيره، ولا تستعيد أفقها إلا في الخيال… الأمم عبارة عن سرد للتاريخ». وبذلك، يدعو المؤلف القارئ، منذ الوهلة الأولى، إلى اليقظة والانتباه، وإمعان النظر وإطالة التأمل في الأثر الروائي الذي يُقبل على قراءته، فاتحا في وجهه آفاق انتظار رحبة تُثير فضوله وتدفعهإلى استكشاف مَداها دَفْعاً. أما العناوين الداخلية للمَقاطع فتُمثِّل مظهرًا آخر من مظاهر التّجلي الأسطوري، حيث ارتبط جزء غير يسير منها بالآلهة الكنعانية بشكل صريح ومباشر، كما هو الشأن بالنسبة لعناوين: المقطع الثاني؛ والثاني عشر؛ والسادس عشر؛ إضافة إلى الحادي والعشرين؛ والثاني والعشرين، التي وُسِمَت على التّوالي بـــ: “الرب بعل”(ص17)؛ و”موت!” (ص89)؛ و”هيكل الإلهة يم”(ص140)، و”عناة”(ص176)، و”شمس” (ص181).
ولم يقتصر التجلي الصريح للأسطورة الذي انتهجه صبحي فحماوي على العتبات وحسب، بل امتد ليشمل الوقائع والشخصيات والفضاءات والأزمنة التي شكّلت هذه العناصر مجتمعة أُسَّ المتن الحكائي للرواية وعصب نسيجها البنائي. وقد كانت اللحظة التي تجسّدت فيها الرّبة “عناة” للسارد “عمر”، المهووس بالبحث والتنقيب في المغارات الكَرمَليّة، والمتعطش لمعانقة بقايا تاريخه “المُسَكّتِ”، إيذانا بانفتاح السرد على الواجهة الأسطورية فانتقلنا برفقة “عمر”من الزّمن المعاصر بتحدِّياته وإكراهاته إلى العالم العجائبي الأرحب لأزمنة التكوين وصراعات الآلهة الكنعانية. وجاء أول مقطع من المخطوطة ليحكي تفاصيل قصةخلق الرّبة “يم”، إلهة المياه البدئية، للعالم:
«بخار وضباب، ومياه مالحة،….تتلاقح مع مياه حلوة، وعجينة ترابية تتعجن ضمن هذا ال هولي ال عظيم..عالم ضبابي غير واضح ال معالم، يبدو مثل بيضة لا نهائية ال حجم، تشقها الإلهة الأولى، الإلهة الأم (يم) إلى شقين.. قامت ال حياة، وانشق ال كون. . »
وبعد شَطْرِها للكون إلى نصفين؛ علوي وسفلي؛ وخلق الشمس والقمر والنجوم، انبرت الإلهة “يم” إلى خلق ابنها “ال”، وجعلته الإله الأوحد للكون. ثم سحبت أحد أضلاعه عندما كان نائما فخلقت منها زوجته “عشيرة”. وبعد الاسترسال في ذكر بقية الأرباب الأسطورية المخلوقة اتباعا، يأتي الدور على ذكر بلاد كنعان، باعتبارها الأرض المقدّسة التي شهِدت بدايات الخلقواحتضنت هياكل الآلهة: «هذه البلاد الكنعانية، دنيا واسعة، ..تتمطى على شواطئ بحر كنعان الكبير! إنها عالم فيه جبال وغابات ووديان وسهول ومراعي. مدن حضارية حصينة، فيها بيوت حجرية عظيمة، وقصور وهياكل آلهة، مدن مسورة بأسوار منيعة، ترتفع إلى حدود ال سماء».
وبالانتقال إلى المقطع الثاني الذي يحمل اسم: “الرب بعل”، تُقرِّبنا المخطوطة من رب الخصب والمطر والنماء، ورمز الحياة والقوّة والشّباب في الميثولوجيا الكنعانية، فتصف قوّته وسخائه وكرمه: «كان بعل أقوى من في البلاد، وذا بأس شديد! إنه مثل ال، إنّه رب مجيد ذو بأس شديد»، كان «يرسل الرياح والأعاصير، فلا تسمع إلا صوت الريح، ولا ترى سوى انهمار المطر، فتخضر الأرض، وتتفتح الأزاهير.
بعل لا يستبعد من رعايته أحداً» .وهكذا كانت تسير الأمور،إلا أن رصدت “عشتار” “البغي المقدّسة” بعلا، فأغوته وشغلته عن مهامه العظمى، فانحرف عن المسار:«فخرجت عشتار من بين الأمواج، ربة الجمال والحب والخصب، ونشرت معها المحبة والبهجة واللذة.
شاهدته عشتار على هذا الحال الأرعن، رأت الوحش المتحفز في بعل، أبصرت القوي الآتي من قلب الغابات، أعجبت به البغي المقدسة، فقعدت له على الشاطئ، تتمنى أن يخصبها، فشقت ثوبها نصفين، وألبسته واحدا منهما، لتكسي عريه، فكشفت عن فتنتها، وأبانت أسرار الجسد. فرآها بعل، وانجذب إليها، فألهبت مشاعره، ثم راودته عن نفسه، وقامت بدور المرأة اللعوب، البغي المقدسة، فانقض عليها» وبعدما وهن “بعل” وخارت قواه جرّاء ركضه الدّائم خلفها، دعته”البغي المقدسة” إلى التمرّد على والده، الإله “ال”، فأجاب دعوتها دون مقاومة تُذكر: «تعال آخذك إلى دمشق، ذات الأسوار الكبار، لنُتَوِّج داغون ربًّا هناك تعبده بلاد السماء، وأذهب معك إلى أوغاريت، لأجعل الملك الكبير يقدسك، ويفضلك على الأوحد ال، وما أن ينتبه بعل إلى اسم ال، حتى يشعر بتحد كبير، فيقول لها والشر في عينيه: هلمي يا عشتار، خذيني إلى نصب ال، (. . . ) وأنا سأطالبه بكل الصلاحيات، وسأصرخ في قلبه قائلا: أنا الأقوى!أنا الذي سيبدل مصائر البشر!الابن بعل، هو الأشد والأقوى من أبيه ال!» وبذلك يُهمِل” بعل” المهام المنوطة به، ويُقبِل على مباهج الحياة وملذّاتها، وينحرف عن المسار الذي خُلِق من أجله: «سنقيم الأفراح كل يوم في الساحات، حيث الشباب الباحث عن الفتيات الحسان، يفوح من أجسادهن أريج الأنوثة! سننشد البهجة في العيش، ونفرح بالحياة!» فانقسم الكنعانيون فيما بينهمجرّاء ذلك، وتفرّقت بهم السُّبل. وانقلبت طائفة منهم عن تعاليم “ال” واتّبعت مبادئ بعل.
وأمام كل ذلك، اكتفت “العذراء الطاهرة””عناة” بمراقبة أخيها ومتابعة خطاه، بينما سلّط عليه “موت” رب الفناءغضبه ونقمته. وإلى جانب الوقائع الأسطورية المرتبطة بالخلق والتكوين، وصراع الآلهة، فقد شكّلت مجموعة من الأحداث التاريخية الأخرى التي طبعت الموروث الأسطوري الإنساني عموما، والأوغاريتي على وجه التحديد، مظهرًا إضافيا من مظاهر التجلي الأسطوري في رواية “قصة عشق كنعانية”، حيث خص الروائي بعضها بمقاطع كاملة كما هو الشأن بالنسبة لقصة وصايا المعلم اليَسَع التي وردت تحت عنوان “الوصايا الكنعانية السبع” وشكّلت موضوع المقطع السادس؛ وقصة”أهل الكهف” المُثارة في المقطع الثالث عشر؛ وقصة “الطوفان العظيم” موضوع المقطع الرابع عشر….
[/SIZE]

د. توفيق الستيتي
جامعة شعيب الدكالي
- [SIZE=22px]المغرب[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى