عائشة أحمد - اعتكاف

من وراء المشربيات الخشبية المزينة بأشكال هندسية تُطل فاطمة بفضول. تريد أن ترى وجه الإمام عندما ينهي الصلاة ويلتفت مواجهاً المصلين لينهي تسبيحاته وهو مطرق. صوته ساحر وفيه الكثير من الخشوع الذي يطربها. تقصّت عنه منذ أيام وعلمت أنه يريد الزواج وينقصه المال. وعلى الرغم من أن المبلغ الذي تمكنت فاطمة من المساهمة فيه كان قليلاً، إلا أن الفكرة نفسها أشعرتها بكثير من الراحة.

بعد الانتهاء من صلاة السّنّة، رأت الرجال وهم يقفون في الوقت نفسه، في الدقيقة نفسها، وفي اللحظة نفسها التي يقف فيها الإمام. خشخشة باهتة وهمهات خفيفة، كل هذا يُخلِّف رعشة لذيذة في قلبها. ينتصبون واقفين خلف الإمام بنظام واتزان مثيرين للإعجاب. وتحاول أن تخشع عندما يقول الإمام «صلّوا صلاة مودِّع». تظل متأهبة ومستعدة حتى للبكاء، لكنها لا تتمالك نفسها دائماً، فيجنح خيالها بعد لحظات.

لا تدري فاطمة لماذا تتذكر كل مشاغلها بمجرد أن تبدأ بالسجود، المحاضرة التي يجب أن تنسخها من صديقتها قبل أن تعيد إليها الدفتر بعد غد، مكان الأساور التي كانت والدتها تبحث عنها قبل أيام، السائق الذي يجب أن تهاتفه ليقلَّها غداً إلى الجامعة في الصباح الباكر. ولا يفيد معها كل الاستغفار، ولا الأدعية التي تستفتح بها صلواتها.

وبعد أن انتهت صلاة التراويح، بقيت مع والدتها وعمتها في المسجد للاعتكاف. عدَّلت فاطمة طرف السجادة المثني، ومسحت عليه مرات، ثم مدت ساقيها، وأسندت ظهرها إلى الحائط. وضعت المصحف على حجرها، وظهر جزء من ساقها تحت العباءة السوداء. رمقتها والدتها بنظرة أدركت معناها فوراً فسحبت ساقيها، واعتدلت في جلستها.

كانت تحاول أن تمنع نفسها من الإسراف في شرب الماء، لأنها لا تريد أن تُبطل وضوءها، لكن شاي عمتها المطيّب بالحبق يغريها دائماً بـ «بيالة» أخرى وأخرى. وفي طريقها إلى الحمام، لمحت فتاة تبدو في منتصف عشرينياتها، تعبث بهاتفها، والمصحف أمامها، كانت قد فكَّت شعرها الذي بدا مبللاً. استغفرت الله في خاطرها ولم تقل شيئاً. لكنها في طريق عودتها، وجدت الفتاة نفسها وهي لا زالت في مكانها، وقد تقوّس ظهرها وهي تنظر إلى المصحف الذي صار في حجرها. وكانت الآن قد أبعدت الهاتف وبدأت بتلاوة القرآن بصوت خفيض. اقتربت منها، وظلّت واقفة أمامها.

الفتاة توقفت عن القراءة عندما انتبهت للسواد الذي امتد فوقها، رفعت رأسها ونظرت لفاطمة، التي بدا الامتعاض على وجهها. سألتها بحدة:

- كيف تقرأين القرآن دون أن تُغطي رأسكِ؟

- ما المشكلة؟ أنا أتلو القرآن دائماً بغير حجاب.

- هذا لا يجوز!

ثم سألتها بانفعال: «ألا تغطين رأسكِ وقت الصلاة؟».

الفتاة ظلت تنظر صوب فاطمة بتعجُّب. عيناها ازدادتا اتساعاً وفمها ظل نصف مفتوح. لم تقل فاطمة شيئاً، لكنها بعد قليل، قالت بلهجة آمرة: «أنا أرى أن تضعي حجابك»، لم ترد الفتاة، ومرّت لحظة صمت ثقيلة. شكرتها وهي تحاول أن تصطنع ابتسامة ما، لكنها، وعلى الرغم من ذلك، لم تضع الحجاب، وواصلت القراءة بهدوء.

أحست فاطمة بغرابة الوضع فانثنت عائدة إلى مكانها. صارت تستغفر الله بصوت عال. المهم أنها نصحت الفتاة، هذا يكفيها. جلست بجانب كرسي والدتها الأبيض، وبدأت بتلاوة القرآن، لكن صوت والدتها وهي تقرأ أفسد عليها التركيز. كانت تتلو وبالها مشغول بأمر تلك الفتاة، وشعرها الذهبي المفلوت بغير تسريح. قلبها لم يكن حاضراً. توقفت عن القراءة وتناولت أحد كتب الأدعية من داخل حقيبتها الجلدية الصغيرة وشرعت تدعو بصوت مسموع.

بدت لها الفتاة بشعرها الطويل كما لو أنها واحدة من أولئك العارضات اللواتي يتم استخدامهن لحملات الترويج لمستحضرات العناية بالشعر. لطالما رغبت فاطمة بشعر كثيف ومسترسل، لكن كل المستحضرات والوصفات الطبيعية، لم تنجح في جعل شعرها أكثر نعومة ولمعاناً.

باغتها صوت عمتها وهي تطلب منها محارم ورقية، فنهضت متثاقلة، ومتجهة مرة أخرى إلى الحمام. انتبهت فاطمة إلى الأحذية والصنادل المختلفة الأحجام والألوان، الملقاة بفوضى وعشوائية في الممر الفاصل بين الحمام والمصلى. نظرت إلى فردتَيْ حذائها، وقد وضعتهما بعناية في مكان بعيد نسبياً عن إعصار الأحذية ذاك، وفكرت بالبائع الوسيم الذي قابلته صباحاً في محل الأحذية، وشعره المصفَّف بعناية للخلف، والقلم الأسود الذي يطل من جيبه العلوي. لقد حاول أن يضع الحذاء في قدمها عندما طلبت أن تجربه، لكنها أحست بالحرج وهو ينحني أمامها، وصار الدم يتدفق إلى رأسها. أخذت فردة الحذاء منه بعصبية، مبتعدة عنه. هل كانت غاضبة؟ تمنَّت بعدها لو أنها تصرفت بطريقة أكثر طبيعية، كما فعلت صديقتها لين، التي كانت مستمتعة بالمشهد، لدرجة أنها كانت تطلب المقاسات الخطأ عن عمد.

تسترق النظر إلى الفتاة ذات الشعر الذهبي، لا زالت في مكانها، ودون غطاء. لماذا لم تلحظها من قبل؟ أليست من الحي نفسه؟ ثم لا يبدو أنها برفقة أحدهم، لا أمّ، ولا أخت، ولا عمة. أهي متزوجة؟ تنظر إلى يدها اليسرى، هناك خاتم ذهبي رفيع. «يا لرهافة أصابعها» تفكر فاطمة، وهي تعدل من وضع الغطاء على شعرها، وتنظر إلى يدها العريضة الخالية من الحلي، وأصابعها الممتلئة، فحتى خواتم والدتها الكبيرة الحجم تبدو صغيرة وغير ملائمة لأطرافها. لذلك هي تفضل الأقراط دائماً. قالت لها لين ذات مرة أنها تجعل المرأة أكثر أنوثة.

بعد الانتهاء من صلاة القيام، كانت العيون ممتلئة والأنوف محمرَّة. الدعاء كان مؤثراً، شهقات النساء تعالت في نهاية الصلاة. أما الفتاة ذات الشعر الذهبي فقد ظلت في مكانها وهي تمسح عينيها وتعيد المصحف الصغير إلى حقيبتها. صافحت فاطمة بعض الجارات وقبَّلت صديقات لها، وودَّعت أخريات.

وهنّ على السّلَّم في طريقهن للخروج، لمحت الفتاة نفسها في سيارة سوداء كبيرة، كانت تميل على الرجل الذي جلس وراء المقود، ويبدو أنها كانت تحدثه، وكان هو يبتسم. أعادت الفتاة رأسها إلى الوراء، ثم غطت فمها بظاهر كفها. هل كانت تضحك؟ هل كانت تخبره عن تلك الصبية الخرقاء صاحبة الأطراف العريضة والممتلئة، والتي لا تعرفها، وكيف أنها حاولت أن تسدي لها النصح بفظاظة؟

ابتعدت السيارة، وصار لا يُرى منها إلا أضواؤها الخلفية بين جموع السيارات، وظنت فاطمة أنها سمعت أصوات ضحكاتهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى