رسائل الأدباء رسالة من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور..

في مدينة الشعراء


صديقي العزيز،

قرأتُ حلمك العجيب الذي التقيتَ فيه أبانواس وأبا عبيدة وآخرين، ثم أويتُ بعد ذلك إلى فراشي وأنا مفعم بذلك الحلم، وبما فيه من أحداث وأشعار، فلم يكد يأخذني النوم حتى رأيتُ، فيما يرى الحالم، أن شيخنا ابنَ قُتَيبة قد قام برحلة إلى مدينة الشعراء، وأنه يتجول في أزقتها وحاراتها، مندهشا مما يراه.
ومدينة الشعراء هذه مدينة جميلة البنيان، كثيرة النباتات والحدائق، بديعة الطقس، فلا يحس أهلها بالبرد في الشتاء، ولا بالحر في الصيف.
وحاراتها كثيرة، تفصل بينها الأشجار الباسقة، ولكل حارة اسمٌ تختص به. فتجد فيها، مثلا، حارة المُقِلّين، وهم الشعراء الذين لم يتركوا سوى شعر قليل، مثل المُسَيَّب بنِ عَلَس، خال الأعشى، والمتلمِّس، خال طرفة، وحُصَين بن الحُمَام المرّي، وغيرهم كثير. وكل واحد من هؤلاء الشعراء المقِلّين يسكن داراً صغيرة، ضيّقة، جزاء له على قلة شعره.

وهناك أيضا حارة المُعَمَّرين، الذين بلغوا أرذل العمر، فمنهم لَبِيد بن ربيعة، صاحب البيت المشهور:

ولقد سئمتُ من الحياة وطولها = وسؤال هذا الناس كيف لَبيدُ

ومنهم المُسْتَوْغر بن ربيعة، الذي يقول:
ولقد سئمتُ من الحياة وطولها = وعَمرْتُ من عدد السنينَ مِئينا

ومنهم ابن أحمر الباهلي، الذي عمّر طويلا، إلى أن أصيب بالحبن، فلم ينفع فيه دواء، وفي ذلك يقول:

إليك إلهَ الحق أرفعُ رغبتي = عياذاً وخوفاً أن تُطيل ضمانيا
فإن كان بُرْءاً فاجعل البرء نعمة = وإن كان فيضا فاقض ما أنت قاضيا
لقاؤك خير من ضمان وفتنة = وقد عشتُ أياما وعشتُ لياليا

وهناك حارة الشعراء المنتسبين إلى أمهاتهم، وهم كثيرون، فمنهم يزيد بن الطّثْرية، صاحب البيتين المشهورين:

بنفسيَ مَنْ لو مرَّ بَرْدُ بَنانه = على كبدي كانت شفاءً أناملُهْ
ومَنْ هابَني في كل شيء وهبْتُهُ = فلا هو يعطيني ولا أنا سائلُهْ

ومنهم ابنُ دارَة، وكانت أمه تسمى دارة لجمالها، تشبيها لها بدارة القمر. وابن دارة هذا هو القائل:

لا تَأْمَنَنَّ فَزارياً خلوتَ به = على قَلُوصك واكتبْها بأسْيار

وقد كان هجاؤه لفزارة سببا في مقتله.ً

ومنهم ابن الدُّمَيْنة، الذي يقول في بائيته المشهورة:

بنفسي وأهلي مَنْ إذا عَرَضوا لهُ = ببعض الأذى لم يَدْر كيف يجيبُ
ولم يعتذر عذر البريِّ ولم تزَلْ = به ضعْفةٌ حتى يُقالَ مُرِيبُ

ومن المنتسبين لأمهاتهم ابن ميادة، وهو القائل:

ألا ليتَ شعري هل أبيتَنَّ ليلةً = بحَرَّة ليلى حيث رَبَّتَني أهلي
بلادٌ بها نيطت عليّ تمائمي، = وقُطّعْنَ عني حين أدركني عقلي

وبعيدا عن هذه الحارة، في أقصى مدينة الشعراء، تجد حارة الرُّجَّز، وهم معروفون مشهورون، فمنهم العَجّاج، أبو الشعثاء، الذي قال له سليمان بن عبد الملك:" إنك لا تحسن الهجاء." فقال:" إنّ لنا أحلاما تمنعنا من أن نَظلم، وأحسابا تمنعنا من أن نُظلَم، وهل رأيتَ بانياً لا يُحسن أن يَهدم؟"
ومنهم رؤبة بن العجاج وأبو نُخَيْلة، الذي كان رؤبة يهجوه ويسميه الشاعر الخياط، والخياط كما لا يخفى عليك هو الدعي المنتسب إلى غير قومه. ثم أبو النجم،الذي يقول في إحدى أراجيزه:

إني وكلّ شاعر من البشرْ
شيطانه أنثى وشيطاني ذكرْ
فما رآني شاعر إلا استترْ

ومنهم دُكَين الراجز والأغلب الراجز ورُجّز آخرون كثيرون، يعيشون كلهم في تلك الحارة المنزوية، التي تحجبها الأشجار.
وفي مدينة الشعراء هذه، تجد أيضا حارة أغربة العرب، وعددُ دُورها قليل، ثم حارة عشاق العرب، فإذا أنت ابتعدتَ قليلا عن حارة العشاق هذه وجدتَ أكبر حارات المدينة، وهي حارة المولعين بشرب الخمر. حارة محاطة بالحدائق والأشجار من كل جانب، ومزينة بالنوافير ، ودُورُها متراصة بديعة البنيان، وعلى باب كل واحدة منها اسم الشاعر الذي يقيم فيها، وتحت الاسم بيت شعري من مختاراته في ذكر الخمر. فأول ما يطالعك دارُ الشاعر الأعشى، وقد كُتب على بابها بيته المشهور في وصف الخمر:

تُريك القذى من دونها وهي دونه = إذا ذاقها مَن ذاقها يتمطّقُ

ثم دارُ الأُقَيْشِر الأسدي،وعلى بابها:

إنما نَشربُ من أموالنا = فسَلُوا الشرطيَّ ما هذا الغضبْ؟

ثم دار مالك بن أسماء بن خارجة، وقد نُقش على بابها:

حيث دارت بنا الزجاجةُ دُرْنا = يَحسب الجاهلون أنّا جُنِنّا

ثم دارإبراهيم بن هَرْمَة، وعلى بابها:

أسأل الله سكرةً قبل موتي = وصياحَ الصبيانِ: يا سكرانُ!

ثم دار الوليد بن يزيد:

وقد تجَلّتْ ورقَّ جوهرُها = حتى تبدَّتْ في منظَر عَجَبِ

ولا تزال تلك الدُّورُ تتوالى حتى تبلغ واسطة عقدها وهي دار أبي نواس، وقد نُقش على بابها:

فتمَشّتْ في مفاصلهمْ = كتمَشِّي البُرْءِ في السّقَمِ

وهنا عند باب أبي نواس يقف الآن شيخنا ابنُ قتيبة وهو يوشك أن يطرقه. وأخاف أن أطيل عليك بذكر ما سيدور بينهما، ولهذا أستأذنك في العودة إليه في رسالتي القادمة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى