أحمد رجب شلتوت - بول فيرلين شاعر يلاحق غموض المرأة ويعلن رضاه بقسوتها

رغم أن شهرة الشاعرين الفرنسيين شارل بودلير وآرثر رامبو ملأت الآفاق، إلا أن بورخيس كان يفضل عليهما بول فيرلين، ويرى شعره أهم وأعلى شأنا من شعرهما، وكان فيرلين قد توفي أواخر القرن التاسع عشر مخلفا إرثا شعريا هاما، يحتاج إلى إعادة القراءة.
بعد أقل من عامين من اختياره أميرا لشعراء فرنسا، توفي الشاعر الفرنسي بول فيرلين في الثامن من يناير عام 1896، ولم يكن قد أتم عامه الثاني والخمسين بعد.
وفي صبيحة اليوم التالي لوفاته ذكرت الصحف الفرنسية حادثا غريبا يخصه، فعندما مرّ جثمانه أمام تمثال الشعر المنصوب في أعلى مسرح الأوبرا، كُسرت يد التمثال التي تحمل قيثارة محطمة. فكأن الشعر الفرنسي فقد إحدى ذراعيه، وتمثل الذراع الثانية في رامبو الذي كان صديقا حميما لفيرلين. وكان قد أصدر قبل تنصيبه أميرا للشعراء ديوانه “أغنيات لها” في عام 1891، وقد صدرت مؤخرا في دمشق ترجمة الديوان التي قام بها الدكتور عادل داود.
الوعي بالتناقضات
بول فيرلين مولود في مدينة ميتز بشمال شرق فرنسا، على الضفة اليمنى لنهر السين، وهناك عاش طفولة مستقرة في كنف أسرة بورجوازية؛ فقد كان والده ضابطا بالبحرية الفرنسية، وفي عام 1850 انتقلت الأسرة للعيش في باريس، وهناك التحق بمدارسها، وفي صباه تعلق بالشعر والخمر، بدأ رومانسيا ثم انتقل إلى التعبيرية فالرمزية، أصدر ديوانه الأول “القصائد المأساوية” في 1866، وهو الديوان الذي امتدحه مالاراميه، وكتب عنه أناتول فرانس، ومنذ أعماله الأولى شكلت قصيدته مُعادلا للحياة اليومية التي يعيشها، وكانت حياته حافلة بالقلق والالتباس، وجاءت قصيدته تشبهه فوصفه النقاد بأنه “شاعر مليء بالتناقضات، يتأرجح بين العتمة والنور، وبين الخير والشر، وبين الاكتئاب والفرح الطفولي، وكان فرلين واعيا بتناقضاته لذلك ظل يتصارع معها حتى النهاية”.
قصائد ثمن لحب يتحرر من كل قيد
قصائد ثمن لحب يتحرر من كل قيد
اقترنت مأساته الأولى بفقدان حبيبته أليسا، لكنه أحب من بعد صبية في السادسة عشرة من عمرها هي ماتيلدا مونيه، وتزوج منها عقب صدور ديوانه الرابع “احتفالات راقية” في 1869، وعاشا معا في بيت والديها، وكانت مشاعر الحب التي عاودته لأول مرة بعد وفاة أليسا قد ألهمته قصائد الديوان الخامس “الأغنية الجميلة” الذي صدر في عام 1870 وفي صدر صفحته الأولى إهداء لها واعتراف بأنها ملهمة قصائده، لكن سعادتهما انتهت حينما دخل آرثر رامبو إلى حياته.
نشبت الحرب بين فرنسا وبروسيا في 1870، فتم تحويل المدرسة التي كان رامبو ملتحقا بها إلى مستشفى عسكري، فهرب إلى باريس، وهناك عاش متشردا، وكتب قصائد مميزة فنصحه البعض بأن يكتب للشاعر فيرلين، فكتب له رسالة وأرفق معها بعض قصائده، نالت القصائد إعجاب الشاعر الكبير فرحب برامبو ودعاه لأن يعيش معه، كان رامبو في مثل عمر ماتيلدا، التي كانت تعاني متاعب الحمل فانصرف عنها زوجها، وأمعن الشاعران في الخمر والشعر والعلاقة المثلية، وفي عام 1872 قرر الشاعران أن يهربا إلى لندن، وهناك عاشا لفترة قبل أن يسأم رامبو العلاقة فهرب إلى بروكسل حيث كانت تعيش أمه، فعاد فيرلين إلى باريس وحيدا شاكيا من هجر رامبو له، وكان ذلك عام 1873، وكتب قصائد ديوانه “أغان عاطفية دون كلام” الذي صدر في 1874.
خلال ذلك كانت ماتيلدا قد طلبت الطلاق وحصلت عليه، بعدها سافر فيرلين إلى بروكسل حيث التقى برامبو، وتشاجرا وهما تحت تأثير الخمر فقام فيرلين بإطلاق رصاصتين باتجاه رامبو، أصابت إحداهما يده، فحوكم فيرلين وحكم عليه بالسجن لسنتين، على الرغم من أن رامبو كان قد سحب اتهامه لفيرلين بمحاولة قتله.
وفي السجن أقلع فيرلين عن الخمر مرغما، ووجد نفسه فاقدا للزوجة والحرية ولم يبق له إلا الشعر، فكتب عدة قصائد شكلت ديوانه “في الزنزانة الانفرادية”، لكنه قرر ألا ينشر الديوان الذي كتبه في السجن، وبالفعل لم ينشر الديوان إلا بعد رحيل الشاعر بمئة وعشرين عاما، في باريس 2016 حيث عثر أحد كتاب سيرته بالصدفة على نسخة خطية من الديوان بين أوراق الشاعر.
أغنيات لها
عقب خروج الشاعر من السجن سافر إلى إنكلترا، فعاش لفترة كتب خلالها ديوانيه “الرومانسية غير المشروطة” و“الحكمة”، وعاد إلى باريس لينشر أغلب قصائده السابقة في ديوان “قديما وحديثا”، ثم يصدر في 1884 كتابه “الشعراء الملعونون” الذي أكسبه شهرة فائقه، وعده النقاد رائدا للشعراء الرمزيين ذوي النزعة التحررية، وعن هذه المرحلة من شعره يقول مترجم الكتاب الدكتور عادل داود “ذاع صيته بقوة، فانطلق في أثير الشعر المتغاضي عن كل ضابط أو قيد، وتجسد في شعره عالم من الحس المرهف والرومانسية المثيرة التي يشعل غرائزها قدر قليل من الكلمات، فارتسمت في أبياته ملامح فن انطباعي بديع”.
بول فيرلين مولود في مدينة ميتز بشمال شرق فرنسا، على الضفة اليمنى لنهر السين، وهناك عاش طفولة مستقرة في كنف أسرة بورجوازية
وفجأة أصيب فيرلين بمرض غريب ألزمه المستشفى فتوقف عن الإبداع لسبع سنوات، حتى كتب قصائد ديوانه “أغنيات لها” في عام 1891، ونشرها فور الانتهاء من كتابتها لينهي بذلك فترة انقطاعه عن الشعر.
يضم ديوان “أغنيات لها” خمسا وعشرين قصيدة قصيرة غير معنونة، منحها فقط أرقاما، وكأنها أجزاء من قصيدة واحدة طويلة، يتغنى فيها بامرأة يحبها ويصفها أيضا بأنها مخادعة. يقول “أنت بلا فضيلة أبدا/ إنك تمتلكين أكثر ما في الخداع/ من فطنة/ وأكثر ما في الأشياء/ من صدقية/ فهلا حصلت على عنايتك اللطيفة”.
وتتوالى القصائد التي يصفها المترجم بأنها “قصائد غزلية يُفصح فيها بول فيرلين عن كنه نفسه المتغنِّية أبدا بمفاتن الهوى، والمترنِّحة بعذاباته. فالشاعر يوضِّح غموض المرأة، ويعلن رضاه بقسوتها ثمنا لحبٍّ يتحرَّر من كلِّ قيد؛ فيمضي هذا المتيَّم متماديا، ملتحفِا بعباءة التصوّف، طالبا لروحه المزيد من شرور الحب ولذّاته”.

بول فيرلين شاعر يلاحق غموض المرأة ويعلن رضاه بقسوتها | أحمد رجب | صحيفة العرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى