أحمد خلف - الكابوس

في بادئ الامر ، روعني المشهد بما احتواه من غرابة وانا ادفع الباب بعنف ، فاجأتني البنت الكبرى في غرفتها ، شبه عارية ، صرخت بوجهي وانا اقف حائراً امامها قبل فتح الباب بالقوة التي عهدتها بنفسي ، دفعتُ الباب وتعرت الصورة كما تتعرى الروح من ستائرها ، والفم مفغور الى مداه ، ضاع منه الصوت واختفت نبرة الاحتجاج العليلة ، العينان جاحظتان ، ثابتتا النظرة على المشهد الفجائي ، صحت بصوت تلاشت منه قوته وتوارت اشارات التهديد ، اصبح مجرد صوت خائب :
ـ ماذا ارى ؟ يا الهي ، تكلمي .
لم اتلق جواباً ، انما نظرة مستريبة تكفي لتلقم امثالي من الرجال حجراً ، اولئك الرجال الذين ضيعوا من اعمارهم اكثر من ثلاثين عاماً في تلقي الاوامر الصارمة ، في جيش عرمرم .
يدي لا تزال تقبض على اكرة الباب ندت مني صيحة مفزعة :
ـ طاووس ، أيقاسمك فراشك طاووس ؟
هزت البنت رأسها علامة الموافقة على السؤال الذي لم تجد فيه معنى ؟ ولم تكن موافقتها لإجتناب الفضيحة :
ـ ألا يبدو رشيقاً وجميلاً ، يا أبي ؟
القيت عليها بقية قطع الثياب لترتديها على عجل ، بينما لاذ الطاووس بين الافرشة والوسائد والثياب المتناثرة ، بفوضى وعدم اهتمام ، رفع لي رأسه من بينها ، ليندس ثانية بين الحاجيات القريبة من ذراعيها العاريتين وانثناءة فخذيها عند الركبتين ، وحين كشفه الضوء الساطع الذي كان المصباح الصغير يرسله ليعري الموجودات في الغرفة ، ارسل الطائر نظرة ارتياب نحوي ، وجناحاه مضمومان بحذر شديد الى جنبيه :
ـ لقد افزعته يا ابي ، ارجوك ..
ـ كيف دخل وماذا يفعل هنا ؟
ـ لن تؤذيه .. لن تفعل ذلك ابداً .
في تلك الاثناء ، ارتمت البنت برفق على طائرها واخفته بجسدها من الاعلى ، بات من العسير رؤيته ، لست ادري لماذا خيل اليَّ ، انه يمد لسانه لي من تحت جسد البنت المتهالكة عليه ، ساخراً من محاولاتي المتكررة ، في مطاردته بينما ينفض ريشه الزاهي تحدياً لأمثالي من الرجال الذين امضوا ردحاً كافياً من الزمن ، وهم في شغل عن بقية حياتهم ، ليس امامهم سوى تنفيذ الوصايا والاوامر الصارمة . لاشك ادركت البنت عجزي في التحكم بمصير الطائر . كان يحتل الحجرة كلها في حضوره او ظهوره امامي حتى في تواريه بعيداً عني ، احسه يكتم انفاسي بوجوده مع البنت ، كان يصر على ان يريني عن كثب ريش الوانه الزاهية ، الخداعة في بريقها .
البريق ، كنت في ما مضى اميل كثيراً نحو الاشياء التي ترفل ببريقها الخاص ، بريق الذهب او خيوط الشفق ، التماعة القذيفة في ليل العراء المتناهي ، بريق اشعة منعكسة على سطح المياه حين تستسلم في صفاء الى الوجود المشع ، وليس الريش الرخيص المتلاشي ، المتطاير في العراء . تمنيت لو استطعت الحديث معه ، ان اعنفه واطرده ، اوقف غليان طيشه وتواجده الطارئ داخل الدار ، لكن سدى ضاعت محاولاتي كلها :
ـ لن يأتي النهار الا ويكون قد غادرنا نحو الخارج .
اهتزت خصلات شعرها دون موافقة اكيدة ، تلمست جزعها ، اعادت الطائر الى وضعه على فراش سريرها ومنحت نفسها استرخاء باذخاً ، كان الطاووس ادرك معنى الكلام ، وراح يشاركها بذخ الساعة تلك .
ـ لا اريد رؤيته يعيش معنا .
ربتت يد قوية على كتفي ، التفت وجدت وجه الزوجة مكفهراً والنعاس غلف بشرتها بنوع من الوجوم :
ـ عد الى فراشك يا عزيزي .
ـ انظري ماذا جلبت ابنتك من بلاء لنا ؟
ـ ارجوك دعنا من النصائح يا رجل .
قوضت نبرة صوتها فكرة الاستمرار في الكلام ، التفت البنت بغطاء فراشها محتضنة الطائر بين ذراعيها ، هيئ له ان يشيعني بنظرة استخفاف هازئة ، ها هو يشاركنا مساحة الدار ، وينام في غرفة ما تخيلتها تغدو ميداناً لأفعاله وملاذاً لنواياه ، كيف يمكن لي دفع البنت للتخلي عن حماقتها معه ؟ هل تراها تطامنت اليه وعاشرته لأيام مضت ؟ كم من الوقت سيبقى معنا في الدار ؟ ترى هل البنت وحدها من ارتضت بوجوده معنا ؟ اليست الزوجة من جانبها تواطأت مع بقية افراد العائلة ، ترى اين البنت الاخرى واين الولد ؟ كان النعاس الشديد يغالبني وقد استولى عليَّ حقاً ولا مفر من الركون الى النوم لا محال .
في الليل حلمت بالطاووس خلال نومي المتقطع ، اضطرتني الزوجة الى الاستيقاظ لكي اتخلص من الكابوس الذي الم بي .
وقالت لي : كنت تصرخ في نومك وتتقلب في الفراش . انهض .
لم اجبها بشيء .
فكرت جاداً في اهمال الرد عليها ، رأيت نفسي اسيراً وسط طريق ميسمي طويل محفوف بالحفر والاخاديد بين خطين طويلين من المقابر ، مقابر وكثبان وحفر متناثرة على امتداد الطريق ، والغبار يغطي الموجودات من حولي رأيت ( كما يرى النائم ) رجلاً يبكي وامرأة تنوح ولما رأياني اتقدم وسط مقابر اكلها الزمن واخرى شيدت من الآجر والطابوق وقد طليت بالقير ، فزع الرجل واطلقت المرأة ساقيها للريح وهي تعول ، وكدت امسك بالمرأة لولا صراخها الذي افزع الموتى في رقادهم ، شتمني الرجل وسدد اليَّ سيل من الحجارة التي لم يصلني منها شيء ، بل تناثر معظمها في الهواء ، ولما سقطت على وجهي وانا اجري مسرعاً للامساك بالرجل ، ادركت اني اركض ملهوفاً نحو نفسي ، اذ تبين في الحقيقة ان الرجل لم يكن في الا انا ، اما المرأة فلم اعد اعرفها من اين اتت والى أي الجهات ذهبت ، رغم انها تركت وراءها آثاراً لا تمحى ولا يزيلها الزمن ، وعاهدت نفسي اذا ما رأيت المرأة في مرة قادمة ، لن ادعها تهرب او تفلت من يدي ، وقلت لابد من معرفة كل شيء يدور من حولنا ، امرأة او رجل ، طائر او حيوان يدب على اربع ، لا مجال للتهاون بعد الآن ، رغم ان الحنين الى البيت ظل يلازمني طيلة الوقت المنصرم وخلال ذلك كله ، سمعت الزوجة تنصحني بتناول قدح من الماء البارد ثم علي الذهاب الى دورة المياه لأزيل عن نفسي هذه الغمامة .
ـ لن تزول هذه الغمامة ما لم اتخلص من ضيفنا غير المرغوب فيه .
رأيت ذراعها العاري يلوح في فضاء الحجرة :
ـ لن تنفعك كل الوسائل يا عزيزي .
كان احد معارفي يردد على مسامعنا ، في وقت قريب : لا خلاص لنا من طواويسنا ، ولا قبولنا بها بالامر الهين ، فكيف الحل اذن ؟ ولم يعطنا حلاً بل لجأ الى الصمت ليتركنا في حيرة من امرنا . ولأيام عدة خيل اليَّ فيها ان من قال تلك العبارة : هو طاووس بيتنا وليس شخصاً آخر .. اراه كل صباح يتبختر ويتهادى في الممرات وبين الغرف ، كأنه صاحب الدار او مالكه ، ولم يمنعه الحياء السخريه المعلنة من بعض عاداتنا او تصرفاتنا ، رغم انه لم يتحدث معنا وجهاً لوجه ، بل يرسل طلباته على هيئة شفرات يعوزها الوضوح ، وبالنسبة لي لم اتسلم منه اية علامة او اشارة في مغادرة البيت فكرت في محادثته واقناعه لكنه ظل يزوغ ويراوغ في كل مرة يصادفني فيها وجهاً . يا الله كم يبدو شاذاً وغريباً في كل ما يصدر منه ، حتى صمته بدا ثقيلاً ويكتم الأنفاس . وخُيل اليَ ان وجوده يترسخ او يكاد يصبح ازليا ما دام هناك من يحميه ويرعاه ، اذ ليست البنت الكبرى وحدها ترغب في وجوده ، بل البنت الصغرى ايضاً ، وكثيراً ما وجدتها تمسح برفق على جناحيه ، تداعبه ، وتلامس بأطراف اصابعها الرقيقة الوان ريشه الناعم :
ـ يا الهي ما احلاه وابهاه بيننا.
تلك عبارتها المحببة الى نفسها ، عبارتها التي تدفع برمال هائلة في انحدارها الفجائي تنهال على جسدي رماد وغبار يلف الكون حولي كلما شاهدتها تحتضن الطاووس وتبدي ما في وسعها من عناية به ، جهدي ينصب في ألا يطأ غرفتي الخاصة ، الا يحتل أي جزء منها ولو بسعة اصابع اليد مجتمعة ، والحق ، كانت الزوجة تدفعني الى التحلي بالصبر وطول البال ، وانه مجرد طائر لا يجلب لنا سوءاً ، الا تراه سلوى البنتين ومبعث سرورهما . قلت لها : لابد من ان تحل الساعة وهي آتية لا ريب فيها .
حدث هذا في الايام الاولى لدخوله الدار ، غير انه بدلاً من طريقته مع افراد الاسرة ، ادرك رعاية البنت الكبرى له ، وقد تلمس اذعاني لطلبها في بقائه ولم تبخل البنت الصغرى عليه بالعطف والمؤازرة وان كانت تختفي في غرفتها وتغلق عليها الباب لساعات طويلة وربما لأيام ولا تدع احد يطأ ارضها ، حتى وان كان يقف امام بابها ، فهي لا تفتح ابداً ، انما ندرك كلنا ، ان لا مجال لدخولنا عليها ما دامت لا تسيء لأحد ولا تطلب منا شيئاً ، كانت تكتفي بعزلتها في بعض الاحيان ، ونحن نعرف تماماً ، اهتمامها وعنايتها بأشيائها الخاصة مهما بدت ضئيلة او ليست ذات بال ، لكن لا احد يخترق هذه العزلة ويبدد حرمتها ، ربما يعلم في قرارة نفسه انه طائر جميل ويبدو في بعض الاوقات مهذباً ورقيقاً ، لكنه لا يكف عن طلباته في ان يكون حاضراً بيننا ، وقد يضطر للتدخل في شؤوننا ، ومن الطريف انه راح يجاهر بأفعاله بلا مواربة حتى انه اتخذ له مكاناً على مائدة الطعام ، في المقعد المواجه لمقعدي تماماً ، ظل يزوغ ببصره بعيداً عن نظراتي المتابعة لحركته ، تلك النظرات الشزرة المليئة بالتأنيب والاساءة غير المباشرة له . هو يعرف جيداً انني لا اميل اليه ، بل اتمنى رحيله الآن قبل أي وقت آخر . كنت اعجب اشد العجب من قدرة افراد الاسرة على التفاهم معه ، ما هي وسائلهم وكيف لهم ان يفسروا نواياه وافكاره ولأكثر من مرة بذلت جهدي في تحمل بعض تصرفاته مع البنتين الصغرى خصوصاً ، كان يعجب بهدوئها واستكانتها وتلطفها المفاجئ له . رأيته ذات يوم يتفرس بوجهها بعدها القى بجسده كله في حضنها ، صرخت بها : حتى انت يا بنتي ؟
ـ آه ، ارجوك يا ابي انظر اليه كم يبدو مسالماً وديعاً .
ـ يا لرائحته ، الا تجدينها تزكم الأنوف ؟ مرة اخرى تعللت بالصبر ولجأت الى قدرتي على التحمل ، فوجئت بصوت البنت . يسألني :
ـ انت تغار منه يا ابي ؟!
ـ كلا ليست الغيرة وحدها .
كان ذلك صوت الام يرد على البنت . قاطعتها بحزم :
ـ كفى تهريفاً .
وللمرة الاولى حطت عيناي على سكينة المطبخ ، قلت لا مفر من تسديد طعنة قاتلة له . وسيتداعى امامي جثة هامدة ، آه كم ستزيح عن كاهلي ثقل السنين لو فعلتها . كنت على أهبة الاستعداد لكي اجعله يتداعى وينهار وستكون صيحة فزع تهد قواه ، عندئذ سيتهالك جبل الاماني وتنهار الساعة بكآبتها كلها . يدي تهتز وتكاد تنفصل عن جسدي لإلتقاط سكين المطبخ ، غير ان المرأة انتبهت الى سورة الغضب تعتمر في داخلي ، عندئذ ، اندفعت نحو الطائر وازاحته برفق عن مائدة الطعام لتتركه يلوذ بإحدى الغرف .
تلبد جو المائدة بالغيوم ، لم تمتد يدي نحو الطعام ، نهضت وبحثت عنه ، اذا ما صادفته ينام في سرير احدى البنتين ، سأقضي عليه دون تردد . لم اعثر عليه في أي الغرفتين ، لاحت مني نظرة عاجلة الى الزوجة شاهدتها توزع نظراتها على افراد العائلة :
ـ انا لا افهم تصرفاتك هذه الايام ماذا يحدث لك يا رجل ؟
ـ لم يحدث شيء يخصني وحدي .
عذبني كثيراً جمع كلمتهم على قبوله والتسامح مع وجوده الطارئ الثقيل ، اما الآن فلا خلاص لي بينهم الا التعلل بالصبر على العقبات ، التي راحت تترى عليَّ الم تحدثهم انفسهم بما اعانيه منفرداً ووحيداً ؟ الا يجدون صمتي اشارة لرفضي المستديم ؟ لماذا يسكتون عن فوضى وجوده بيننا ؟
كيف يتم لهم السكوت عن تلك الرائحة اللعينة ؟ كان من العسير عليَّ احتمال رائحته او حين اسمع وقع خطواته تدوس في المكان ، للحظات مضت وانا ابذل جهدي في تدارك سورة الغضب المستطير ، حين فوجئت به وقد القى بجسده على فراش سريري ، لم اتمكن من اندفاعتي الجنونية نحوه ، القيت جسدي بكل ثقلي عليه ، امسكت بالوسادة من وسطها وجعلته يغوص تحتها ومن جانبه لم يدخر طاقته في التخلص مني ، ولكن ذهبت كل محاولاته ادراج الرياح ، افلت الجناحان من قبضتي ثم تبعهما القدمان وراح يسدد لي ضربات موجعة من جناحيه واطرافها السائبة ، لطمني على وجهي اول الامر ، وكرر الضربات ، تلك كانت تزيدني اصراراً على احكام الطوق حوله ، اشتد الصراع بيننا ، تيقنت ان ما يجري بيننا قد يمتد ويطول ، قبل ان يداهمني افراد العائلة لتخليصه من يدي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى