دلال عنبتاوي - قصيدة القناع..

تعد قصيدة القناع مظهرا من مظاهر الحداثة في الشعر العربي، وقد ساهمت الكثير من العوامل السياسية والاجتماعية في الوطن العربي بخلقها؛ ولعل من أهم الأسباب التي دعت لولادتها؛ أن الشاعر العربي الذي عاش كثيرا من الأحداث وتعرض لكم هائل من التناقضات دفعته إلى الخروج من دائرة المألوف، وخلقت لديه حالة من التمرد على قيم الثبات والجمود.
وقد لجأ الشاعر العربي في البداية إلى استخدام الرمز وتوظيفه في النص الشعري، كوسيلة فنية للتعبير غير المباشر عما يريد الحديث عنه، وللكشف عن مكنونات نفسه ومن ثم انطلق إلى توظيف القناع في نصه.
ورد تعريف القناع في اللغة في معجم لسان العرب، في مادة « قنع « المقنعة والمقنع ماتغطي به المرأة رأسها، وانطلاقا من التعريفات المعجمية يبدو القناع كناية عما يغطي الصورة الطبيعية أو يعلو اللون الأصلي أو يحجب الوجه الحقيقي حجبا مؤقتا، أما مفهوم القناع اصطلاحا فهو أسلوب شعري يتمثل في أن يخاطبنا الشاعر وقد تقمص شخصية ما، فيتماهى معها والقرينة اللفظية الدالة على وجود القناع هي ضمير المتكلم، وأما القرينة المعنوية الدالة على أن القصيدة مقنعة فهي وجود تفاعل بين ذاتية الشاعر ولوازمه، وبين خصائص الشخصية المستدعاة وشروطها المرجعية.
لم يبرز مصطلح القناع في القصيدة العربية؛ إلا مع الشاعر عبد الوهاب البياتي وقبله أشير إلى أسلوب القناع بمصطلح الرمز. وللقناع أنواع منها: الأسطوري، والخرافي، والديني، والأدبي ويتحدث الشاعر من خلال تلك الأقنعة عن تجربة شخصية، أو جماعية تتشابه مع تجربة القناع، وقد ظهرت أقنعة فنية في القصيدة العربية لاتلامس الواقع بل ابتدعها الشاعرعلى غير مثال سابق في الحياة الواقعية، وقد قاد استخدام القناع إلى إغناء القصيدة العربية وتطويرها، ولكنه قاد كذلك في بعض الحالات إلى طولها وغموضها وتشعبها، وقاد كذلك إلى تكرار أقنعة اتخذها الشعراء وسيلة تعبيرية في قصائدهم
وقد جاء توظيف الشعراء للقناع من خلال بحثهم عما يخفف من السمات الغنائية والذاتية، التي وسمت الشعر خلال النصف الأول من هذا القرن، لذلك داخل الشعر العربي الحديث اتجاهات ذات منحى موضوعي تمثلت في خلق القصيدة،ذات المنحى الدرامي، وقصيدة القناع، والبالاد، وقصيدة المنولوج، والقصيدة متعددة الأصوات. وقد اقترب الشعراء عبر استخدامهم للقناع من القصيدة الدرامية، و سعوا لنقل القصيدة من إيقاعها الغنائي البسيط إلى إيقاع درامي، يعتمد حركة صراع النفس في مواجهتها لحركة الواقع.
في الحقيقة إن القناع يشكل نموذجا فنيا للبطل النموذجي الذي يطمح إليه الشاعر، فكل قناع في النهاية هو نموذج يحمل رؤيا الشاعر، وكثيرا ما بنى الشاعر نماذجه الفنية التراجيدية على شخصيات اجتماعية ثورية قديمة ومعاصرة من مثل الحسين بن علي،المتنبي،النفري، الحلاج، لوركا، جيفارا ... وغيرهم .
ولعل من أبرز وظائف القناع ودواعي ارتدائه في القصيدة العربية، أن الشاعر المعاصر يتقنع بشخصية ما محافظا على سماتها الأصلية، أو محورا إياها غالبا من أجل أن تصير الشخصية المستدعاة طيعة يسهل تماهي الشاعر المستدعي لها معها؛ فيؤدي القناع آنذاك ما أريد له من وظائف أو أكثر مما فكر به صاحب النص، ولقد حددت وظيفة القناع الرئيسة في القصيدة الشعرية في كونه وسيطا يتيح للشاعر من خلاله أن يتأمل ذاته وعلاقتها بالعالم من حوله، في محاولة يسعى من خلالها إلى خلق الندية بينه وبين هذا العالم بكل ما ينطوي عليه مفهوم « العالم المحيط « من شمول .
وأنا أرى أن هناك دوافعا كثيرة دفعت الشعراء في وقتنا الحاضر إلى توظيف القناع، أهمها الدوافع الفنية والسياسية و الاجتماعية، وأن قصيدة القناع هي قصيدة النخبة فهي تبحث عن المتلقي المثقف إذ إن كل قناع هو رمز، وليس كل رمز قناعا .


د. دلال عنبتاوي
أعلى