جورج سلوم - بلاسيبو

كلّما أغرقتُ نفسي في مستنقع تلك الأدوية زاد اعتلالي.. واستفحل المرض عليّ واستكبَر واستجبر..وعنّد وتمدّد ..وطغى وبغى وعربد .. وأرغى وأزبد

وسعالي كان بلحنٍ واحد وصار بلحنَين ..والحمّى المسائية الوحيدة صارت بنسختين ..والنوبة نوبتين

وبعضها يستمسكني وبعضها يستسهلني

وبعضها يستغفلني وبعضها يستسهرني

وبعضها يجذبُني فأغدو مجذوباً وبعضها يدفعني لأصبحَ مدفوعاً ..فأخبط خبط عشواء وراء مركز ثقلي فارغ الرأس مسلوب الإرادة ، تسوقني تراكيزُ أدويةٍ متغايرةِ التراكيز في حلقةٍ مفرغة أدور فيها دُواراً وقد تدور الدنيا من حولي لو استسلمتُ لسكون الإرتخاء ورخاوة السكون .

كلّها تداخلات دوائية تدخِلكَ في متاهةٍ لا فكاكَ منها إلا بالتخلّي عن تلك الأدوية والتراكيب والخلائط التي ما أنزل الله بها من سلطان

وكأنّ دوائي غدا جزءاً من دائي ..أقرأ نشرتَه المُرفَقة فأزداد همّا على همّ ووهماً على وهم ..ولا أرى استطبابَه مناسباً لحالتي ، وكلّ تأثيراته الجانبية تحدِثُ لديّ مضاعفاتٍ مضاعفة وعقابيلَ عقبوليّة ، وكأنهم يكتبون عنّي أنا.

فأتّصل بطبيبي مستفهماً فيجيب :

-لا ..لا تقرأ تلك النشرة ففيها مبالغة ومراوغة علمية !

-لماذا إذن ينصحوننا بقراءتها ما دامت خزعبلاتٍ وفرقعات إعلامية ؟



كلُّ علاجاتي قنابل صوتية ..انفجارات وهمية ..تصمّ الآذان فقط وتثير الغبار من حولي كغمامةٍ ترابيّة ..

ولا تفجّر جلاميد الصخور من مقالعها

ويبقى مرضي عصيّاً معنّداً جاثماً فوق جسدي المُدنَف كجبلٍ من الهموم .. كحجر عثرة يسدُّ عليّ المنافذ ..وأزدادُ غرقاً وضياعاً في سراديبي ومتاهاتي .. وأبحث عن بارقة أمل وبصيصٍ من النور فأصطدم بأجنحة الخفافيش العمياء ترتطم بوجهي وتزيدني قلقاً وأرقاً .

كلّها ألعابٌ نارية تشعشع بسمائي المظلمة كتباشيرَ للشفاء ..وتتبخّر كفقاقيع الصابون !

أتناولها وفق وصفاتٍ طبية كتبها جهابذة الأطباء بخطوطهم القريبة من الطلاسم ..ويبعثون فيّ رجاء الشفاء الكلاميّ فقط ..وابتساماتهم الصفراء تدلّ على عدم ثقتهم بما يكتبون ..لكنّهم أبداً يكتبون ويكتبون لي الوصفات تلو الوصفات بل ويكتبون ..ويناولونني مجرّد ورقة يسمّونها وصفةً ذات قيمة ..وأناولهم أنا ما فيه النصيب

إنها طلقاتٌ خُلّبية ورصاصات جوفاء ..تلك الأدوية التي يصفونها .

إصاباتٌ من نيرانٍ صديقة أهلّل لأزيزها لكنّها تخطئ العدوّ وتصيبني أنا .

علبٌ كرتونية ملوّنة فارغة المحتوى ولو كانت مغلّفة بشكلٍ أنيق ومنضّدة ومسطّرة ومصندقة ومحنجَرة ..إلا من مساحيق مضغوطة كحبيبات أو شيئاً من دقيق السكر في كبسولات ..أو تحاميل قد تكون مصنوعة من معاجين لا معنى لها ..أو حقناً من مصلٍ قد لا يكون معقّماً أو ماءً مغلياً نابعاً من صنبور !

وأسمّي بالله وآخذ الدواء في وقته ..

وهذا قبل الطعام وذاك يكون بعده ..وهذا قبل النوم وذاك مع جرعة ماء كبيرة ..وهذا يفور في الكأس وهذا يترسّب في القاع كعلائقَ وثمالاتٍ قعرية ورُسابات قاعيّة ..حرّكها يا أخي بملعقتك بدورانٍ مستمرٍّ عكس عقارب الساعة ثلاث دورات ونصف ثم ازدردها وأنت تتجه للقبلة ..ولا تنسَ ذكر الله أثناءها

كأنهم مشعوذون دجّالون يكتبون لنا حجابات وتعاويذ يستنجدون فيها بالجنّ الأزرق فلا يفكّون القيد والسحر عن جسدي المريض ..ويحار الطبيب في أمره كالعرّافة الغجرية ويقطّب حاجبيه ويضرب الرمل ويرمي المندل ويقرأ الكف ..ويستبصر في لوحة الإيكو خيالاتٍ متحرّكةً يفسّرها كيفما اتفق كقارئة الفنجان المقلوب ..وينجّم ويتنبّأ وكذب المنجّمون ولو صدقوا.



تبّاً لكم ولأدويتكم التي ما زادت طينتي إلا بلّة ..

والله كأني آخذ دواءً وهمياً ..فإن نسيته اليوم لن يحدُثَ شيء

وإن ضاعفْتُ الجرعة فلا انسمامَ ولا فرط تحميل ..ولو حاولتُ الانتحار بكلّ أدويتي دفعةً واحدة لما أفلحتُ إلا بإقياءٍ انفعاليّ انفجاريّ ناجم عن التراكيب المتداخلة ..والحمد لله ما عُدنا سمعنا بأحدٍ انتحر بانسمامٍ دوائي ولو حاول ذلك ..وهنا تكمُن المعجزة الدوائية !



قلت له :

-وما انخفضت حرارتي العالية أيها الطبيب؟

قال:

-هذا لأنك لم تشارك خافض الحرارة بالكمّادات الباردة

قلت :

-وما انخفض الكولسترول بالرّغم من التزامي بالدواء كما أمرت ؟

فابتسم ساخراً:

-طبعاً لأنك ما التزمتَ بالحمية

-والصّداع المستمرّ ما قولك فيه ؟

-وأنا أذكّرك بالتدخين والقهوة والعصبيّة التي لا تفارقك

-ومفاصلي المؤلمة في زحمة أدوية المفاصل التي ابتلعتها ؟

-هذا لأنك نسيت المعالجة الفيزيائية وجلسات التدليك التي لابدّ منها كمشاركة للدواء .

ولولا العيب لقلت له أنك تذكّرني بجارتنا العجوز التي نصحتني بأن أنقع قدميّ بالماء الساخن مع التدليك الحنون ..ويجب أن أضيف الملح تدريجياً وبعض الثوم المبشور ..والمسّاج للقدمين يجب أن يكون بيد امرأة جاثية قبالتي على الأرض – وهي تعرف أنني أعيش بلا امرأة للأسف - وكأنها تريد أن تقول لي بأنّ أصابع المرأة المغناطيسية منصوحٌ بها لسحب أمراضي بدءاً من أخمص قدمي ..ولا تمسّ قدمك الأرض بعدها بل تحتضن المرأة قدميك للتنشيف بمنديل أخضر ليس قطنياً ولا حريرياً ..ولا تنسَ طبعاً وضع قدمك اليمنى بالماء قبل اليسرى ..ذلك منصوحٌ به أيضاً !



ذلك الطبيب يذكّرني بالصيدلي في وحدة الإرشاد الزراعية عندما راجعتهم شاكياً من الفئران التي تتكاثر في بيتي ..يومها أعطوني علبة من المسحوق أرشرشرها في زوايا البيت كسمٍّ قتّال للفئران ..وعندما راجعتهم شاكياً من عدم نجاعة السّم وأنّ الفئران استساغت السمّ وتقتات عليه ، عندها نصحوني بأن أقتني قطة في البيت ، لأنّ سُمَّ الفئران لا يعمل إلا بوجودها .



وطردْتُ حينها كلّ أفكاري الاستطرادية ..وقلت للطبيب متسائلاً :

-بالله عليك ..لو مرِضْتَ أنت – لا قدّر الله - وأنا أعرف أنّ الطبيب لا يمرض ، لكنْ لو مرضت فإلى أين تذهب ؟ وهل تلتجئ إلى طبيب أو صيدلي أو شيخ أم تعالج نفسك بنفسك ؟

نظر في وجهي مستغرباً سؤالي ..وأدار بوجهه عني وهمس :

-أنا أصلّي إلى الله أن يقيني شرّ البلاء ويبعد عني الداء والدواء ..وأرجوه أن يردّ القضاء أو يتلطّف علينا بالشفاء ..فالله هو الشافي وما نحن معشر الأطباء إلا وسائل ورسائل ..نصلي إليه ليهدينا وقد يكون الشفاء بوساطتنا وعلى يدينا .

ضحكتُ وقلت :

-والله ثم والله ..لولا مريلتك الطبية لأهديتك عمامة وا شيخنا الجليل ..ولولا أنني أعرف انحرافاتك لاعتبرْتُكَ داعيةً أو مرشداً روحيّاً على الأقلّ ..لماذا تتقمّصون هذه الشخصية الجليلة وتدخلون إلى المريض من هذا الباب وأنتم عنه ومنه خارجون ؟..لماذا تسايُرني وتعاقِرُني بعقارٍ ما وتعرف سلفاً أنه موهم وأنتم تسمّونه فيما بينكم بلاسيبو ؟

نظر إليّ الطبيب بجدّية المُدافع عن نفسه وقد وصل البلل إلى ذقنه ..خلع نظارته .. وقلب الصفحة التي تحمل اسمي وكان يدوّن عليها ملاحظاتٍ مؤرّخة عن تطوّراتي المرضية ..وفهمتُ عندها أنّ علاجي عنده قد انتهى .. قال:

-لطفاً صديقي ..يا مَن لا تشفى بأدويتنا وتنعتها بالبلاسيبو ..الآن وصلتُ إلى تشخيص حالتك المرضية وهي تسمى نوسيبو ..هل سمعتَ بها ؟

ولم ينتظر ردّي وكأنه يعرف أنني أسمع هذه الكلمة لأوّل مرة ..لذا تابع قائلاً :

-النوسيبو مريضٌ بالإيحاء ..موهومٌ ومتوهّم بحالاتٍ مرَضيّة يقرأ عنها بنشرات الأدوية ..فتتجسّد تلك الأمراض لديه ويتبنّى أعراضها بل ويشكو منها ولا يرى لها شفاءً ما دام تحت تأثير تلك الأدوية ..ودواؤنا ليس بلاسيبو كما تظنّ فلسنا في مراكزَ بحثيّة تجريبيّة عليك وعلى غيرك ..دواؤنا فعّالٌ جداً ويشفي العليل لو كان عليلاً بالحقيقة ..ولست أنت المريض الوحيد الذي نعالجه بين زحمة الخلق ..

فالكثيرون يتحسّنون ويشفون والحمد لله ..ما دمنا نضع يدنا على الجرح فسنشفيه بإذن الله ..أما من كان مرضه متلوّناً كالحرباء بلون الدواء الذي يتوهّم منه فسينزلق من بين أيدينا كالضفدع الزلوق ولا نسمع منه إلا النقيق .. وأما رجاؤنا بالله فليس لأننا أطهر الناس ، بل نحن منقذون للغرقى في لجّة اليم ونترجّى أن نلتقطهم قبل الرّمق الأخير لأنهم لا يتقنون العوم.



أنت مريضٌ متنكّبٌ للأمراض الوهميّة ومتأبّطٌ لها ولذا نسمّيك نوسيبو ..ولن يكون علاجك عندي إلا بلاسيبو !.

*********************
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى