أسعد الهلالي - أنا وغويا

دبُ النشاطُ في وجهِ (غويا) .. تنطّ عروقُهُ الزرقاءُ وسط تسطح وجهه الذي يبدو تحت الضوء البرتقالي للشموع العشر التي سورت حافة قبعته العريضة برتقاليا كصحراء تشربت توا بسيل من المطر الغاضب..

***
يسيح الضوء الشبحي الكئيب لمصباح الفلورسنت في فضاء حجرتي ذات السقف الواطئ.. يمتص الجلد الصناعي البارد للكرسي العتيق، جرعة النشاط والتدفق التي استجديتها من حزمة (القات) الهمداني، فيتمطى محتضنا نشاطي وتدفقي.. تتقلب نظراتي بين اللوحات المصلوبة على جدران حجرتي المغبرة.. مساحات من الألوان الكابية اختلط اليأس بتدرجاتها بعد محاولاته المجهضة للاختفاء خلف قماش اللوحة المشدودة كبشرة متصابية..
دمدمت (لوسيانا):
ـ (غويا)...
تراقص الضوء البرتقالي المتوهج من الشموس الصغيرة المرحة المحيطة كتوابع فلكية مأسورة بقبعته التي غطت دماغه المتخم بالألوان والانحناءات.. استدارت فرشاته الرقيقة حول نفسها وانسحبت ذاهلة، لتدع الجسد المستلقي بين جدران اللوحة ضاجاً بحياة غريبة تتشربها عينا (غويا)، وتتسلل عبر أنامله المتكلسة على مقبض الفرشاة إلى شعيراتها، فتحيل خواء القماش الأبيض البليد إلى حياة تزرع في أعين الملائكة الهائمة في فضاء الحجرة ورأس (غويا) وفوق كتفيه الدهشة والحيرة.. في باحة المنزل الكبير، يصرخ الراهب (خوليو ميغيل) تحت الشباك الواسع للحجرة المرصوفة بحجر أحمر كدم متخثر..
ـ ستلتهمك النار يوما أيها الفاجر.. تُعِدُّ ملائكة الرب الرحيمة تقاريرها عنك وترصد تجديفك وكفرك.. ستُحرَقُ أنت ومردتُكَ اللعينة.. ستُحرق..
ويهرب مزمجرا بالشتائم بعد أن غرقت قلنسوته العالية بزيت التربنتين الملون بقوس قزح (غويا) المتسامق دوما فوق باليتة مزج الألوان الضخمة كبوابة قصر الماركيز (لورنثيا)..
انفجر وجههُ الصحراوي بالضحك.. كان الراهب (خوليو ميغيل) قد ذاب خلف شباك الغرفة البرتقالية في ظلام لشبونة القاتم، مهرولا، محاطا بصرخاته الحاقدة.. ازدحمت اللوحة المتكئة على المسند المرتفع بأضواء الشموع المتراقصة فوق قبعة رأس (غويا) المتهزهز.. انفرجت شفتا (لوسيانا) الممتدة بجسدها المرمري اللدن خلف أطر اللوحة.. قرقر صدرها بضحكة كبتها حنق مفتعل فترجرج نهداها المغروران كمويجتين مرحتين.. تمتمت بغنج..
ـ (غويا).............

***
تتقلب الفرشاة بين أصابعي.. أقضم شعيراتها بأسناني القلقة، فيلتصق فتات القات الهمداني بين خصلاتها.. أغطها في علبة زيت التربنتين، فتطفو نقيطات القات على سطح الزيت، أمزج قليلا من الأحمر الفاقع مع الأصفر، وأكسو مساحة من ابيضاض اللوحة الشاسع بلون خجول تثب بين مساربه نقيطات القات الداكنة محاطة بطبقة من لعابي سورتها أخرى من التربنتين المائع واللونين الباحثين عن ملامحهما وسط خلطة مرتبكة لطخت اللوحة البيضاء كبركة آسنة من بقايا المطر في (باب القاع) ، بذلت الكثير من الجهد والمال لأحصل عليها، فتأتي.. الموديل.. (لوسيانا غويا)، عاريات جميع الرسامين الذين تفتر شفاهنا دهشة ونحن نرى التماعات أجسادهن العاجية، حين دخلت إلى مشغلي فشلت في إقناعها على التخلي عن خمارها الأسود المحمر لفرط الاستخدام ورداءة القماش.. لم أحلم أن أرسمها عارية، لم أحلم بأن أتخيل تضاريس جسدها الضائع بين طيات العباءة الأسطوانية السوداء التي تجعلني أشعر أحيانا بأن من تدخل وسطها ليست امرأة وإنما عمود كونكريتي.. كل ما أردته أن أرى ملامح وجهها لأرسم آدمية لا وهم أسود، عينان مذعورتان تربكهما رؤية الريالات الخضراء فينط من بحرهما الاشتهاء، ليس للرجل الواقف أمامها بحياء وتمنٍ، بل لريالاته.. استلتهن من بين يدي سريعا لكنها رفضت أن تخلع خمارها مكررة بإصرار خائف:
ـ لن ترى وجهي قط...
لا مناص من الاستسلام لما أرادت، فأسرعت بتهيئة لوحتي وألواني وأجلستها على كرسي معدني بين الجدار المقابل وأسوار للوحة الصغيرة، إنه أكبر قليلا من مقعد لوسيانا (موديل غويا)، شرعت بالرسم..

تنهدت الفتاة فانطبقت أبواب الدار واحدة اثر أخرى، اهتزت الجدران فتناثرت لوحات عدة على أرض الحجرة التي تعاقبت فيها المربعات السوداء والبيضاء كرقعة شطرنج ضخمة، شعرت بأني لن أتمكن من تجسيد ملامح جميلة، فما أراه أمامي مجرد كتلة سوداء بعينين مرتبكتين.. غامت عيناي بعيدا لتستعرضا جميع الفتيات العاريات اللائي رسمتهن ريشات الرسامين منذ رامبرانت ومايكل أنجلو وروبنز وأوجين دولاكروا وفان كوخ وتولوز لوتريك وغوغان وسلفادور دالي، انتبهت إلى أن خلف إطار لوحتي فتاة تنتظر تدفق الألوان تحت أصابعي لتشهد فرقعة سحرها على الكتان الأبيض، بدت كلماتها المتسربة من مسامات الخمار الأسود كقلب مغلف بالثأر..
ـ ما تريد أن ترسمني عليه... أليس قماش أكفان؟

***
اكتملت ملامح (لوسيانا) المستلقية على طيات الحرير القرمزي، يتكور شعرها الليلكي الطويل حول وجهها الطافح بالحياة، مضطجعٌ على عري ذراعها الممتدة كأفعى متوفزة بين العديد من تفاحات حفرت تكورهن قضمات أسنان لؤلؤية طاغية الأنوثة، عقص (غويا) عينيه، انساب خيط من الشمع الذائب على حافة القبعة، عربد مارد قلق في صدره وصرخ في أذنيه صرخة مدوية طردت أحلام أهالي لشبونة الوردية.. الحمراء.. السوداء... سعل صاحب الخان المسلول في عنق الشارع الغاص بالقاذورات، طردت مثانة طفل الأميرة ماركريتا المدلل ما تكدس فيها من وله الخادمات الكاذب فطفا جسده الصغير فوق بركة من البول، سرعان ما تشربها فراشه الحريري الأزرق المطرز بعيون غجرية سوداء كعيني عاشق الأميرة الوسيم، غرز (غويا) سبابتيه في بئري أذنيه الضاجتين بالأصداء، هاج المردة أسفل بئر أذنه فترددت أصداؤهم تبحث عن مسارب أخرى للقفز خارج أسوار السجن الشاهقة، تمايل رأسه حين تغلغل صخبها في مسامات دماغه الملون بألق الحياة المسورة بإطار اللوحة، انسابت خيوط الشمع الذائب حول وجهه الذي تبخرت آخر قطيرات المطر من صحرائه فبدت رمالها الصفراء كوجه ميت، نط ماردان وقحان من عينيه ليلتصقا بألوان اللوحة، انكبا على تفاحتين وشرعا بالتهام احمرارهما اللامع، تكوم صخب المردة في عيني (غويا) فشرعهما ليتقافزوا متناثرين حول جسد (لوسيانا) وذراعيها ونهديها وخصلات شعرها، تراجع جسده جاذبا معه شتات الضوء الشاحب المتأرجح فوق قبعته ليتهالك على الجدار الخلفي المشقق غاسلا صحراء وجهه بدموع غزيرة اختفت خلف قضبان رقيقة من خيوط الشمع الذائب، ووسط الحجرة رفع صليب المسند، جسد لوحته المصلوب، تحرقه نيران مردة محكمة تفتيش جائرة، وفي الجانب الآخر استسلمت (لوسيانا) لبرودة طيات الحرير القرمزية المتسللة لعريها المرمري وأطياف محببة تزقزق حول رأسها المستسلم لإغفاءة حالمة بحياة برتقالية تثير غيرة الجميع.. حتى الملائكة..

***
ها قد انتهت أنبوبة اللون الأسود، فكرت مرارا بمزج هذا اللون الكريه، جذبت أنبوبة اللون الأحمر فتملصت من بين أصابعي وأسرعت بالاختباء خلف علبة الألوان البلاستيكية، تأكدت أني سأفقد ألواني جميعا لو كررت المحاولة، فقد هرب الأصفر والأخضر، حتى البني أوشك ان ينتحر منزلقا.. بَلّطتُ اللوحة بمساحات اللون الأسود الشاسعة فتكور رأس غامض تحت طيات الخرق السوداء المتداخلة مع الكفن الأسود الذي دثر الجسد الذي أظنه فتيا، بحلقت محاولا رصد إخفاقة قلب الجسد الأنثوي المتكوم أمامي على الكرسي المعدني، فأوشكت أن أوقن أنه محض تمثال، ولا تحتاج التماثيل إلى قلوب، اخترت فرشاة دقيقة نظيفة لأرسم سمكتين بيضاوين محتضرتين وسط دائرة الوجه المختفي.. فكرت:
مرات القراءة: 502 - التعليقات:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى