امل الكردفاني - اسكوتش/ قصة قصيرة

هاهو يترنح ويعبر الأزقة الغارقة في الثلج ؛ أنفه الأسود المدبب كضفدعة غلمة يبرز من بين كوفيته ، ظهره الطويل محني قليلا في محاولة لتقصير المسافة بين نقطة ارتكازه والأرض.
"أفريقي"
نظر لأشقرين قالا ذلك بعدائية ، أزاح الكوفية وتحفز لقتالهما. لكنهما ظلا ينظران إليه ورأيا وجهه المستطيل وأطراف أصابعه الضخمة. فغادرا بسلام.
وحين ارتقى السلم الحلزوني ضغط على ركبتيه وهمس:
- اللعنة على شتاءك يا اسكتلندا...
عندها فتحت امرأة ذات ملامح مغاربية باب الشقة فوقف ورمش بعينيه وهي ترمقه بصمت.
- افسحي لي الطريق يا امرأة..
ترددت قليلا ثم تركته فمضى وراءها حتى تهالك على أريكة محشوة بالاسفنج.
- إنك حتى لا ترتدين شيئا ثقيلا على جسدك..
جلست وهي تشاهد التلفزيون بصمت.
- نحن الأفارقة لم نعتد على هذا البرد..عشت عشرين عاما هنا ولم اعتد عليه.
قالت دون أن تغادر حملقتها في التلفزيون:
- كلنا أفارقة فلا تتباكي يا عجوز...
خرج شاب عربي نحيل من ممر مظلم يخفي غرفة في الخلف. أخذ يخلل شعره بأصابعه ثم ارتدى معطفا سميكا وغادر وهو يصفر. بعدها خرجت فتاة هزيلة مثله وعيناها خائرتان.
- هل دفع لك..
سألتها فأجابت الفتاة بأن فتحت قبضة يدها وبها النقود. ثم التفتت اليه:
- ماذا تريد؟
لم يجبها فلوت شفتيها امتعاضا وصمتت بدورها.
كان هناك فيلما على التلفزيون ، فقال:
- سأودعكما...
لم تهتم المرأتان. فأضاف ؛ لقد قررت العودة لأفريقيا.. لقد أصبحت خبيرا في تقطير الشعير..سأفتح مصنعا هناك.
قالت المرأة ويدها تقلب القنوات:
- عدت لأحلام اليقظة مرة أخرى..
همس بحزن عميق:
- هذه ليست حياة يا ثريا...هذه ليست حياة...
القى على وجهها المتجمد نظرة خاطفة ثم قال:
- لماذا لا تأتين معي يا ثريا....
نهضت الفتاة واختفت خلف الممر فتابعها هو ببصره.
- ابنتك تعلمت أسلوب المومسات..
قالت وهي تتابع الفيلم:
- لا شأن لك بها.
- مازالت تزعم الدهشة عندما يخلع أحد الحمقى سرواله ثم تقول جملتها التي علمتها لها..
رقق صوته ليكون أنثويا وقال:
(اللعنة.. هل تحمل تؤأمك بين فخذيك.. لم أر شيئا بهذه الضخامة من قبل).
قهقهة بصوت خفيض ثم ابتلع ما تبقى من قهقهته ووزع ذراعيه خلف مسند الأريكة.
- مع ذلك فهي ليست بارعة مثل أمها.
أخرج من جيبه رزمة نقود ورقية ثم وضعها على الطاولة.
- هناك نوعان أساسيان للاسكوتش تتفرع عنهما ثلاثة
أنواع...إنني خبير حتى في تذوق الاسكوتش وتمييزه بسنوات تعتيقه. للاسكوتش طقوسه المقدسة ، فله كأسه الخاص ذلك الكأس التيوليبي الواسع البطن والفوهة، ولديه طريقة امساك معينة. حينما أضع بضع قطرات من الماء فوقه فيغدق على أنفي بالرائحة الرائعة أشعر بمعنى لحياتي في هذا البلد الكئيب. ربما لو كنت لا زلت في أفريقيا ربما مت بطلق ناري. مع ذلك من يهتم.. سنموت في كل الأحوال ولن نعرف حينها أننا متنا.
قالت المرأة:
- تبدو رومانسيا اليوم.. أكثر من اللازم...إن رومانسيتك لا تتفق مع شكلك الخشن أبدا....هذا يصيبني بالغثيان..
- أشم الكأس بمسحة سريعة ثم أجرع جرعة أحشوها داخل فمي لأتذوق الطعم ثم ابتلعها..فتزحف عبر أحشائي...اليوم حصلت على أجر تحكيمي بين منتجات الشركات المصنعة للاسكوتش...لم يكن كثيرا فأي سكير قادر على فعل ما أفعله ولكنني مع ذلك أمتلك قدرات أكثر خصوصية من غيري.. الاسكوتش المزدوج أعرفه بسرعة ، بل أعرف عدد البراميل التي عاش فيها كما لوكنت مقيما معه...لقد انبهر مدراء الشركات بقدراتي..مع ذلك لم يقدم أي منهم عرضا للعمل معه...كم هم باردون يا ثريا...
- لم تصنع قنبلة نووية ليقدموا لك عروضا.. توقف عن أحلام اليقظة والشعور بالعظمة....
قالت وهي تتابع فيلمها.
- أشعر بالعظمة... ربما أنا سكران قليلا...لقد تجرعت عشرات الكؤوس اليوم مجانا...أشارك في التحكيم لكي أشرب مجانا بل وأحصل على نقود...
-ستظل مزيفا إلى الأبد...
غمغم:
- كلنا مزيفون يا حبيبتي...
قالت:
- لست حبيبتك... ولست مزيفة أيضا...
- حسن... لا بأس....ولكن إلى متى ستستمري هكذا..
قالت:
- حتى يخرج صالح من السجن...
حك خلف أذنه اليمنى ثم فرك حلمتها وقال ساهما:
- أنت وفية ومخلصة جدا... فرغم أنك حولت فخذيك لمبولة لكنك مخلصة وتنتظرينه...
- أحبه.. هو يعرف كل شيء فأنا لا أخفي عنه شيئا....
استنشق الهواء بنصف منخر أنفه الأيمن..
- جيد... هل قابلته قريبا؟
- قبل اسبوع..
- هل لا زال ارهابيا؟
- لم يتغير.. ولهذا أحبه... أنت متقلب ولا يمكن توقعك أبدا... عرفت هذا منذ البداية فتحاشيت تسليم عواطفي لك....
حارت نظراته وسمعها تقول:
- الحب ليس سوى استعداد ... ولا أملك المجازفة بذلك...
قال:
- أنا جائع....
قالت:
- سننام الآن.. غادر...
- كم أنت قاسية...
قال ذلك ونهض وعظامه تطرقع ، ثم سار ببطء حتى فتح الباب وخرج من الشقة.
لا زالت ثلوج أدنبرة تزداد منذ شهر يناير ، لن تكمل الشهر حتى تعود إلى الاضمحلال وتذوب كل ثلوج اسكتلندا فيمتلئ نهر كلايد وينتشي.
المصابيح كانت شاحبة يغمرها الضباب والأشجار سوداء جافة ومتجمد بلا حركة. هناك كاسحة جليد متوسطة الحجم كانت تنظف الطريق المعبد باستمرار مثل سيزيف. فخذاها كانا يرتعشان تحتي من اللذة... ثريا الملعونة أصبحت قوادة لابنتها التي لا زبائن لها إلا من المضطربين نفسيا. تأمل الشارع الخالي من خلف لثام وجهه. ما المعنى سواء هنا أم في أفريقيا؟
أفرغ هذا السؤال عزيمته تماما. وكأنما كان ذلك إجابة حاسمة وواقعية لسؤال وجودي. لمح حانة صغير فانعطف إليها. طلب اسكوتش أحادي وقطعتين من الكيك. كانت الحانة دافئة وبها بضعة رجال ولا توجد امرأة واحدة.
خلع لثام وجهه فقال النادل:
- عذرا يا سيد ولكننا لا نرغب بك هنا..
انتفض قافزا لاكما النادل الذي ترنح للخلف وأصاب الذعر الزبائن ؛ جثا فوق صدر النادل وأخذ يسدد له لكمات عنيف وخلال ثوان وجد جسده مقيدا بأذرع خمسة من رجال الشرطة بعد أن تعرض للصقع.
في زنزانة ضيقة رأى نفسه وحيدا ، كل شيء أزرق هنا..وكأنما يستبدلون زرقة السماء الحرة بزرقة الحوائط وفرش السرير. بعد دقائق ألقوا بشاب أبيض نحيل داخل الزنزانة. كان يبدو عليه أنه قد تعاطى الهيروين منذ دقائق وهناك قطرات دم على بنطاله. ترنح الشام ثم نظر إليه بعينين خائرتين. ولم يكترث هو له.تقدم الشاب نحوه وجثى على ركبتيه وهمس:
- تبدو عفيا أيها العجوز...
تبادل معه نظرات ذات مغزى.
مد الشاب يده وتحسسه ثم قال هامسا:
- هذا ضخم جدا.. ستكون ساعاتنا هنا عظيمة.
فتركه يفعل ما يشاء.
بعد ثلاث ساعات كان يجلس أمام المحقق الذي قال مشمئزا:
- أن رائحتك لا تطاق...
هذا ليس جديدا بالنسبة له ، لقد اعتاد ذلك ؛ من مرتفعات هايلاند شمالا وحتى أقاصي الجنوب.
- إن سجلك حافل بالمشاجرات يا سيد..
قال القاضي منتظرا ردا. ولما لم يجده أضاف:
- حسن...سأرفع لك الكفالة لحدها الأقصى.
رفع يده اليمنى الضخمة فقال القاضي:
- تكلم..
قال:
- لا استطيع دفع أي مبلغ صغير أو كبير...
- تريد أن تقبع في السجن..
- لا أملك خيارا آخر.
قال القاضي:
- من حقك وأنت داخل السجن أن تمنح فرصة التدرب على حرفة.. هل ترغب في ذلك؟
أجاب:
- لا...
سأله:
- لقد قدمت إلى اسكتلندا منذ إثنين وعشرين عاما ومع ذلك لم تندمج في المجتمع. هناك فرص كثيرة للدراسة والتدرب. ولا أعرف سببا لبقائك هكذا.. هل يمكنك أن تشرح لي يا سيد.
اجابه:
- لا...
كانت قاعة المحكمة شبه خالية ، رطبة ، ورائحة الخشب تنبعث منها. هكذا خيل إليه.
- ماهي آخر مرحلة دراسية لك.
ثم استدرك القاضي قائلا:
- ليست مهمتي هنا أن اعاقبك يا سيدي.. إنني أمارس روح العدالة... ولذلك فأنا احاول فهم وضعك بالكامل لإيجاد علاج ما لك. وهذا من صميم عملي ولكن قد لا تعرف ذلك.
اجابه:
- بل أعرف ذلك...
قال القاضي:
- جيد... تعرف أن كل جنحة بسيطة تتطلب عناية أكبر بالجاني أكثر من الجنايات...وخاصة في تقدير العقوبة المناسبة.
قال:
- أعرف تفريد العقاب جيدا ولا احتاج للشرح فقد كنت محاميا في أفريقيا قبل أن أهاجر إلى هنا...
بدت الدهشة على وجه القاضي الذي صمت قليلا ثم قال:
- ربما ما تحتاجه يا سيد هو علاج نفسي أكثر من العقاب...
لم يرد عليه بل انفجر باكيا...وكان صوت بكائه قبيحا...مع ذلك احترم القاضي تلك اللحظة وانتظره حتى هدأ ثم أمر شرطيا بجلب كوب ماء للمتهم.
عبرت الطائرة القارة الأوروبية..ثم هبطت في القارة الأفريقية....
وهبط منها فلفحه سموم حارق...كان السود حوله في كل مكان.. لم يألف ذلك من قبل...كانوا يتحدثون الفرنسية بلكنة أفريقية ، يأكلون الحروف بسرعة وتخرج أصواتهم دون أن يمر الهواء بأنوفهم.
استقبله شاب باسم واقتاده بالسيارة نحو رحلته الأخيرة...
كانت الأدغال رطبة وصامتة.
أعطوه سلاحه ، وبذة عسكرية ، ورتبة واسما جديدا ، ثم قال القائد:
- ستكون هذه هويتك الجديدة معنا في بوكو حرام...
قال:
- لم تكن لي هوية قديمة..
سأله:
- ماهي خبرتك الحياتية...
اجابه:
- تقطير الخمور... لا يضاهيني أحد في الاسكوتش بأنواعه المختلفة.
صمت القائد وقال:
- صحيح أن الخمور محرمة ولكننا سنستفيد من خبراتك هذه لتمويل الجماعة....
ثم أضاف:
- ولا بأس من كأس أو كأسين لنا.
غمز له وضحك.
قال:
- لو تذوقت الويسكي الاسكوتلندي فلن تشرب غيره يا سيدي..
رفع القائد حاجبيه بدهشة وقال:
- حقا؟!
- حقا...
قال القائد:
- يبدو أننا سنكون صديقين ممتازين...
ثم همس:
- ولكن..فليكن ذلك سرا بيننا فقط...
حنى رأسه نحو كتفه الأيمن وأجاب:
- بالتأكيد ...
كانت السافنا الفقيرة أكثر غنى في عينيه من مسماها. بندقيته الآلية الحديثة تبدو ملساء بماسورة سوداء لامعة.... مرر اصابعه الضخمة عليها وهمس:
- أشعر بأن عالمي ينتظم....ينتظم فوق ما كنت أحلم به يوما ما...

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى