مارخا مينكو - العنوان.. ترجمة محمد رشو

«أتتذكرينني بعد، سيدتي؟»، سألتُ.
نظرتْ المرأةُ نحوي بعينين متسائلتين. كانت قد واربتْ الباب. اقتربتُ وخطوتُ لأقف على الرصيف.
«لا»، قالت، «أنا لا أعرفكِ».
«أنا ابنة السيدة س.»، قلت.
أبقتْ يدها على الباب كما لو أنها كانت تريد أن تمنعه من أن ينفتح ولو قليلاً. لم يبدِ وجهها أية علامة اعتراف. ظلّت تنظرُ إليّ بصمت.
«ربما كنتُ مخطئة،» فكّرتُ في نفسي، ربما ليستْ هي. لم أكن قد رأيتها إلا مرةً واحدة، وكان ذلك بشكلٍ عابرٍ قبل أعوام مضتْ. كان من الممكن جدّاً أنني كنتُ قد ضغطتُ على زرّ الجرس الخطأ. تركتْ المرأةُ البابَ وتنحّتْ جانباً. كانت ترتدي سترةً خضراء من الصوف المحبوك. كانت أزرارُ السترة خشبية وقد بهتت قليلاً من الغسيل. لاحظتْ أنني كنتُ أنظرُ إلى السترة وعادت مرة أخرى لتبقى نصف مختفيةً وراء الباب. لكنني كنتُ أدرك الآن أنني كنتُ على الصواب.
«كنتِ تعرفين أمي، أليس كذلك؟»، سألتُ.
«هل عدتِ؟» قالت المرأة. «كنتُ أظنّ أنه ما من أحدٍ قد عاد».
«فقط أنا،» قلتُ. انفتح بابٌ خلفها في الممر وثم عاد لينغلق ثانيةً. كانت هناك رائحة عطنة تنبعث من الداخل.
«آسفة»، قالت، «لا أستطيع أن أخدمكِ بأي شيء».
«لقد جئت إلى هنا بالقطار»، قلت. «كنتُ أريد فقط أن أتحدث معكِ قليلاً».
«الوقت ليس مناسبٌ أبداً»، قالت، «لا أستطيع أن أستقبلكِ الآن. ربما في وقتٍ اخر».
هزّتْ رأسها وأغلقت الباب بحذرٍ، كما لو أنه ما من أحدٍ كان ينبغي أن يُزعج في المنزل.
بقيتُ للحظاتٍ واقفةً على الرصيف. تحرّكتْ الستارة خلف النافذة. اختلس أحدهم النظر إليّ ليطرح فيما بعد أسئلةً عما كنتُ أفعله. «لا شيء»، ستقول المرأة، «لا شيء هناك».
نظرتُ مرّةً أخرى إلى لوحة الاسم بجانب الباب. كان مكتوباً عليها «دورلينغ»، بأحرف سوداء على مينا بيضاء. وبالخط نفسه، أعلى قليلاً، الرقم. رقم 46.

وبينما كنتُ أسيرُ ببطءٍ، عائدةً إلى المحطة، فكّرتُ في أمّي، التي كانت قد أعطتني العنوان ذات يومٍ، منذ أعوامٍ خلتْ. لقد كان ذلك في النصف الأول من الحرب. كنتُ قد أتيتُ إلى البيت قبل بضعة أيام ولاحظتُ على الفور أن الأمور قد تغيرت في الغرف. افتقدتُ كل شيء. فوجئتْ أمّي أنني كنتُ قد لاحظتُ ذلك إلى هذه الدرجة. ثم أخبرتني عن السيدة دورلينغ. لم أكن حينها قد سمعتُ بها قط، لكن تبيّن أنها من معارف أمي القدامى، التي لم تكن قد رأتها منذ أعوام. كانت قد ظهرت فجأة وجددت تعارفها. منذ ذلك الحين كانت تتردد علينا بانتظام. «في كل مرة تغادر هنا، تصطحب معها شيئاً ما إلى منزلها»، قالت أمي. «لقد أخذت كل أدوات المائدة الفضية، دفعةً واحدة. ثم أخذت أطباق الأنتيكا التي كانت معلقةً هناك. بجانب تلك الفازات الكبيرة، كان عليها أن تحمل الكثير من الأغراض، وأخشى ما أخشاه أن تكون قد أصيبت بفتقٍ في ظهرها لكثرة ما حملت من أواني المائدة».
هزّتْ أمي رأسها بحركة مثيرةٍ للشفقة. «لم أكن لأجرؤ حتى أن أطلب منها ذلك. لقد طرحت هي الأمر بنفسها. بل وحتى أنها أصرّت على ذلك. إنها تريد أن تنقذ كل ما عندي من الأشياء الجميلة. إذا حدث واضطر الأمر ذات لحظة أن نخرج من هنا، سوف نفقد كل شيء، قالت هي.»«هل اتفقتِ معها على أنها ستحتفظ بكل شيء؟»، سألتُ.
«وكما لو أن ذلك كان ضرورياً»، صرختْ أمّي. «سيكون مجرد إهانةٍ لا أكثر، الاتفاقُ معها على أمرٍ كهذا. وثم فكّري مرّةً في الخطر الذي تعرّض هي نفسها له، في كل مرةٍ تغادر فيها منزلنا بشنطةٍ ممتلئة!»
بدا أن أمّي قد لاحظت أنني لم أكن مقتنعةً تماماً. نظرتْ إلي نظرة لوم، وبعدها لم نعد نتحدّث في ذلك أبداً.
في غضون ذلك، ودون أن أولي بالاً للطريق، كنتُ قد وصلت إلى المحطة. ولأول مرة منذ الحرب، مررت بالأحياء الشهيرة مرة أخرى، لكنني لم أكن لأمضي أبعد مما هو ضروري. لم أكن أودُّ أن أعذّب نفسي وأرى تلك الشوارع وتلك المنازل المليئة بذكرياتٍ من الزمن العزيز.
عائدةً في القطار، تذكرتُ السيدة دورلينغ مرة أخرى، رأيتها واقفة أمامي كما كنتُ قد قابلتها لأول مرّة. كان ذلك في الصباح الذي تلى اليوم الذي كانت أمي قد أخبرتني عنها. كنتُ قد استيقظتُ متأخرةً ونزلتُ على الدرج ورأيتُ أن أمي كانت تسير بجانب أحدٍ ما. امرأة ذات ظهر عريض.
«تلك ابنتي»، قالت أمّي. وأومأتْ نحوي.
هزّت المرأة رأسها وحملت الشنطة التي كانت أسفل المشجب. كانت ترتدي مانطو بني اللون وعلى رأسها قبعةٌ لا شكل لها.
«هل تسكن بعيداً من هنا؟» سألتُ عندما رأيتُ كيف أنها وبمشقّة كانت قد غادرت المنزل تجرجر خلفها الشنطة الثقيلة. «في شارع ماركوني»، قالت أمّي. «الرقم 46. تذكّريه.»

كنتُ قد حفظته. كنتُ قد انتظرتُ طويلاً كي أذهب إلى هناك. في الفترة الأولى في ما بعد التحرير، لم أكن مهتمةً أبدًا بكل هذه الأشياء، وبالطبع كان هناك أيضاً بعض الخوف. الخوف من مواجهة الأشياء المحفوظة هناك والتي كانت تنتمي إلى صلةٍ ما لم تعد موجودة؛ المحفوظات التي كانت مودعةً في صناديق وانتظرتْ عبثاً أن يتم إعادتها إلى مكانها؛ والتي صمدت كل تلك الأعوام، فقط لأنها كانت محض «أشياء».
ولكن تدريجياً، أصبح كل شيء طبيعياً مرةً أخرى. كان ثمّة خبزٌ باهت اللون، كان ثمّة سريرٌ يمكنك أن تنام فيه دون أن يهددك أحدٌ ما، كانت ثمّة غرفةٌ ذات إطلالة كنت تعتاد عليها كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه. وذات يوم لاحظت أنه لديّ فضولٌ كبيرٌ لأرى مرة أخرى كل الممتلكات التي كان من المفترض أنها لا تزال موجودةً في ذلك العنوان. كنتُ اريد أن أراها، أن ألمسها، أن أتعرّف عليها من جديد.

بعد زيارتي الأولى وبلا جدوى إلى منزل السيدة دورلينغ، قررت أن أحاول مرة أخرى.
الآن كانت هناك فتاة في حوالي الرابعة عشرة من عمرها فتحتْ لي الباب. سألتها فيما إذا كانت أمها في المنزل.
«لا»، قالت، «خرجت أمّي لتتسوق».
«لا يهم»، قلت، «سأنتظرها».
اتبعتُ الفتاة عبر الممر. كان معلقٌ هناك بجانب مرآة شمعدانٌ معدنيٌّ من الطراز القديم من شمعدانات حانوكا. لم نكن قد استعملناه أبداً لأنه كان معقداً أكثر بكثير من الشمعدانات الشائعة.
«ألا ترغبين بالجلوس؟» سألتْ الفتاة. أبقيتْ باب الغرفة مفتوحاً وعبرتُ بجانبها إلى الداخل. مصدومةً، ظللتُ واقفةً هناك. كنتُ في غرفةٍ عرفتُها ولم أعرفها. وجدتُ نفسي وسط الأشياء التي كنت أرغب في رؤيتها مرة أخرى، لكنها شوشتني وتركتني مضطربةً في جوٍّ غريب. سواء كان ذلك من الطريقة التي لا مذاق لها والتي رُتّب بها كل شيء، أو من الأثاث القبيح أو من الهواء الرطب الذي كان عالقاً هناك، لا أعرف بالضبط، لكنني بالكاد تجرأتُ على أن أنظر حولي. سحبتْ الفتاة كرسياً. ذهبتُ لأجلس هناك وحدقتُ في مفرش الصوف على المائدة. لمسته بحذر. فركتُه بأصابعي. أصبحت أصابعي دافئةً من الفرك. تابعتُ بأناملي الخطوط التي عليه. في نقطةٍ ما على حافته لا بدّ أن هناك بخشٌ ما من أثر حرقٍ قديمٍ، بخشٌ لم يكن من الممكن رتقه.
«ستكون أمّي هنا بعد قليل»، قالت الفتاة. «كنتُ قد أعدت لها الشاي. هل ترغبين في فنجان؟»
«من فضلك،» قلتُ. نظرتُ إلى أعلى. حطتْ الفتاة الفناجين على طاولة الشاي. كان لديها ظهرٌ عريض. تماماً مثل أمّها. صبتْ الشاي من إبريقٍ أبيض. كان لغطاء الإبريق وحسب حافةٌ ذهبية، تذكرتُ. فتحتْ علبةً وأخرجتْ منه ملاعق.
«إنها علبةٌ جميلة»، قلت. سمعتُ صوتي أنا. كان غريباً. كما لو أن كل صوت في هذه الغرفة يصبح له وقعٌ آخر.
«هل تفهمين فيها؟» سألتْ. كانت قد استدارتْ وجلبتْ لي فنجاني. ضحكتْ. «أمّي تقول أنها أنتيكا. نحن نملك الكثير منها.» أشارت حولها في أرجاء الغرفة. «هلّا ألقيتِ نظرةً عليها».
لم أكن في حاجة كي أتبع يدها. كنتُ أعرف ماذا كانت تقصد. نظرتُ فقط إلى الطبيعة الصامتة المرسومة على طاولة الشاي. عندما كنتُ طفلة كنتُ أشتهي دائماً التفاحة التي كانت على صحن القصدير هناك.
«نحن نستعملها في كل شيء»، قالتْ. «بل وذات مرة أكلنا في تلك الأطباق المعلقة هناك على الجدار. كانت لديّ رغبة شديدة في أن أجرّب ذلك. لكنها بدت عادية جداً».
كنتُ قد وجدت البخش، أثر الحرق على حافة مفرش المائدة … نظرتْ الفتاة نحوي متسائلةً.
«أجل»، قلت، «يعتاد المرء على كل تلك الأشياء الجميلة حوله في البيت؛ حتى أنه بالكاد ينظر إليها. يلاحظ وجودها فقط عندما يختفي شيءٌ ما، لأنه يحتاج إلى تصليح، أو لأنه أعاره لأحدٍ ما، مثلاً».
مرة أخرى سمعتُ الوقعَ الغريب لصوتي وتابعتُ: «أتذكر أمي حين سألتني ذات مرة فيما إذا كنت أرغب أن أساعدها في تنظيف الفضة. كان ذلك منذ زمن طويل، وربما كنتُ ضجرةً في ذلك اليوم، أو ربما كنتُ مضطرة إلى البقاء في البيت لأنني كنت مريضة، إذ أنه لم يسبق لها وأن طلبت مني ذلك على الإطلاق. سألتها أيّ فضةً تقصد وأجابتني مندهشةً أنها كانت تتحدث بالطبع، عن الملاعق والشوك والسكاكين. وهذا ما كان غريباً، لم أكن أعرف أبداً، حتى تلك اللحظة، أن الأشياء التي كنا نتناول بها طعامنا، كل يوم، كانت من الفضة».
ضحكتْ الفتاة مرة أخرى.
«أراهن أنكِ لا تعرفين ذلك أيضاً»، قلت. وحدّقتُ في عينها..
«بماذا نأكل؟» قالت.
«الآن،» قلت، «هل تعرفين؟»
ترددتْ. ذهبتْ إلى البوفيه وأرادتْ أن تفتح الدرج.
«سألقي نظرة»، قالت. «إنها هنا».
وثبتُ من مكاني واقفةً. «لقد نسيتُ الوقت،» قلت. «ينبغي علي أن ألحق قطاري».
كانت تقف هناك ويدها على الدِرج. «أما كنت تريدين أن تنتظري أمّي؟».
«لا»، قلت، «عليّ أن أغادر فوراً». مشيتُ نحو الباب، فتحتْ الفتاة الدرج. «حسناً»، قلت. بينما كنت أخطو في الممر، سمعتُ خلفي قرقعة الملاعق والشوك.

على زاوية الشارع، نظرت إلى الأعلى حيث اللوحة التي كان عليها الاسم. شارع ماركوني، كان عليها. لقد كنت في المنزل رقم 46. كان العنوان صحيحاً. لكنني الآن لم أعد أرغب أن أتذكّره بعد. لن أذهب إلى هناك مرة أخرى، لأن الأشياء الموجودة في ذاكرتك والمرتبطة بالحياة التي كانت مألوفة لك في الماضي، تفقد فجأة قيمتها عندما تعود لتراها، منفصلةً عن سياقها، في بيئة أخرى غريبة. وثمّ ماذا ينبغي عليّ أن أفعل بها في غرفةٍ صغيرة مؤجرة، حيث لا تزال معلقةً هناك على طول النوافذ مزقٌ من ورق التعتيم وحيث لا يوجد في درج المائدة الضيق مكانٌ هناك سوى لبضعة أزواج من أدوات المائدة؟
قررتُ أن أنسى العنوان. من بين كل تلك الأشياء التي كان ينبغي علي نسيانها، سيكون ذلك أسهل شيء.

ورق التعتيم: ورق أسود كان يعلق على النوافذ لمنع خروج أي ضوء، وكان من الإجراءت الإلزامية في فترة الاحتلال في هولندا خلال الحرب العالمية الثانية وذلك لمنع طائرات التحالف من قصف أهدافها.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مارخا مينكو (1920) الاسم المستعار لسارة مينكو، كاتبة هولندية، كتابها العشب المرّ (1957) يعتبر من كلاسيكيات الأدب الأوربي عن الحرب العالمية الثانية. كانت الناجية الوحيدة من عائلتها التي قضت في معسكرات الإبادة النازية. نالت في عام 2005 جائزة كونستانتين هيوخينس عن مجمل أعمالها، وفي عام 2019 توجت بجائزة پ. س. هووفت التي تعتبر جائزة الإنجاز مدى الحياة وتمنح بالتناوب بين الشعر والنثر المكتوب باللغة الهولندية. تحظى مارخا بإعجاب النقاد على لغتها النقية والرصينة، وعلى نثرها الحيّ الواضح المليء بالفكاهة والملاحظات العميقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى