أدب ساخر مروة التجاني - تأويل النكتة..

ارتبط مفهوم النكتة في المخيلة العامة بإنها أي موقف أو حدث يدعو للضحك، يصدف أن يكون الموقف مرئي أو مسموع أو مكتوب وفي هذا المقال يعنينا شأن النكتة المكتوبة ، تلك المتداولة في الأذهان العامة وتحكى بشكل دوري.

ترتبط النكتة باليومي المعاش عادةً أو ما يحيط بواقع مجتمع ما، فينسج حول حدث ما موقف داعيٍ للضحك يكون متخيلاً حيناً أو حقيقي في أحيان أخرى، ولأن النكتة مرتبطة بالمخيلة العامة فيجوز لنا تشبيهها بالأساطير أو الخرافات والأمثال، فهي جميعاً تؤدي وظيفتها في الذهن الجمعي ولا تخاطب الفرد كعنصر، وهكذا تنتشر بسرعة ويسهل تداولها بين الفئات المجتمعية المختلفة، فكل فئة تجد مبتغاها ومكان لها فيها. مع ذلك فالنكتة تختلف كثيراً عن الأساطير، فهذه الأخيرة تحكى سيرة أبطال في دائرة مجتمعية وجغرافية ما وتمجدهم في المخيلة العامة، تسعى الأساطير لإبراز الجانب القوى والمنتصر وتظهر خلالها القيم الأخلاقية بوضوح وعليها تركز، وترتبط الأساطير بالجانب الميتافيزيقي وتروى سيرة الآلهة وأبطال خارقين للطبيعة. بخلاف النكتة .. تنتقي أبطالها من اليومي، لكنها تختار أولئك المنبوذين، الغير مرغوب فيهم، تسلط الضوء على قيم أخلاقية تعد مرفوضة أو غير مستحبة مثل البخل على سبيل المثال، في بعض النكات المكتوبة يكون أبطالها تمثيلاً لشخصيات مرئية في مجتمع ما، مثل البدوي، المرأة لكنها تكون محددة بصفات مثل السمن أو القبح أو الثرثرة وخلاف ذلك، التلاميذ البلداء .. هكذا تتشابه النكتة و الأساطير في السكنى داخل التفكير الجماعي، لكن الأولى تتواجد في اليومي أكثر لأننا نلجأ للأساطير كجماعة في الزمن الراهن بحثاً عن مجد سابق أو لتوحيد الكيانات الجماعية خلف قيمة ما.

تستدعي النكتة المنبوذين وغير المرغوب بهم في اليومي على الهيئة الضاحكة، هم بذلك حاضرون وغائبون ومنسيون في المخيلة الجماعية في ذات الوقت، لأنها تسعى لإظهار مهزلة مجتمع ما في شخوصهم، وتحدد الأطار الجمعي الواجب اتباعه لتجنب السخرية. أما النكتة السياسية فتوظف فن الضحك لتهدئة الإنفعال والإحتقان وتظهر السياسي بمظهر الساذج والبسيط لتخفي الأسئلة وتمنع طرحها، أما النكتة المرئية فهي تؤدي وظيفة أخرى بعيداً عما نتحدث عنه خاصة عندما توظف السخرية المرئية للقضايا السياسية في برنامجها وهو ما نجح فيه الإعلامي الطبيب باسم يوسف، فكان أن خيط الجراح المجتمعية وعافي الجسد، لكننا هنا كما أسلفنا بصدد الحديث عن النكتة المكتوبة..

تتستر النكتة على أيديولوجيا خفية وتنشرها ببساطة، فهي حين تحكي عن أمرأة سمينة على سبيل المثال ترسل رسالة للعقل الجمعي بضرورة إنتقاء الأنثى النحيفة أو متناسقة القوام، تقتل فينا إحساس ما .. وبعد أن تقتله ببطء لا تطلب منا أن نقيم له سرادق عزاء بل أن نشيعه ضاحكين،، حين تتحدث عن المنسيين في واقع ما فهي تأطر حضورهم بصفات محددة لذا نجدها تتحدث في الأغلب عن البدوي وليس المتمدن، إنها تختص بفئات بعينها كي لا يوقظوا فينا الأحساس.

نعم نحتاج للفرح والضحك .. وسيكون فرحاً عظيماً أن كانت الذهنية العامة قادرة على الشعور ببهجة الفرح الإستطيقي مثلاً لتنهض هذه المجتمعات من سباتها الطويل. فيما يلي عدة نماذج، لنلقي عليها الضوء سريعاً :

- دكتور شغل أغاني للمجانين، الكل رقص ما عدا واحد، سأله الدكتور ليه مش بترقص معاهم قال : اسكت .. اسكت أنا العريس.
في هذه النكتة يرتبط مفهوم الرقص بالجنون .. تقتل مثل هذه القصة إحساس الرقص كفن عظيم وتنعته إذا كان منفصلاً عن حدث جماعي كالزواج بالجنون، يحدث أن نرغب بالرقص بالمنزل طرباً وإنتشاءً بالموسيقى لكن سيكون فعلاً غير مرغوب فيه. تقصي النكتة هنا فئة المرضى النفسيين وتنعتهم بالجنون وهكذا تحدد وجودهم داخل الإطار الجمعي وتميزهم بصفات غير موجودة فيهم.

- مرة واحد بدوي عرف أن الجلد موضة مشى عريان.
تجعل النكتة من البدوي حاضراً في المخيلة لكنها تقصيه في ذات الوقت عندما تبرز جهله بالموضة والملابس، هنا تقصي الإنسان ككل وتحدد وجوده في الواقع بالشئ ( الملابس ) .. المستهلك.. تحيل النكتة هنا إلى الأفراد في المدن ممن لا يملكون المال الكافي لإقتناء ما يكفي من الثياب الجاذبة وتعيدهم إلى سيرة الريف والبداوة .. تنعتهم رمزياً في المخيلة بغير المتحضرين.

- رجل جرايد أبوه مات ، مشى في الجنازة يقول أقرأ الفاتحة.
تسخر النكتة هنا من موت الصحف بشكلٍ عام، موت إحساسنا بها، فلم تعد ( بالمجمل وليس الخصوص ) تثير فينا الغضب أو تخاطب الجانب المدفون داخلنا .. توظف النكتة هنا الجانب الميتافيزيقي الديني لتسهيل الإحساس بالحزن ، كأنها إختصرت جمال الحزن في الدين.

- امام مسجد دعى بعد صلاة الجمعة قائلاً " ربنا لا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا " ، فقال واحد من آخر الصف " ما سلطهم علينا وخلاص يا مولانا ".
هنا تقتل فينا النكتة إحساس الغضب من صانعي الرائ في المجتمع متمثلاً في امام المسجد الذي يخادع الجماهير بالخطب الميتافيزيقية والأحلام دون تبصيرهم بالواقع، نقرأ هذه النكتة ونضحك دون شعور بالغضب، لأن القائل بالحقيقة يأتي صوته من البعيد وجالس في آخر الصف، غير مرئي، فتظهر الحقائق كمهزلة.

- كان نيكيتا خروتشوف يخاطب جمعاً صاخباً فلم يكد يتبين صوته، فقال احدهم من الحشد لماذا تنتقد سياسة ستالين وانت كنت حينها صامتاً، فصرخ خروتشوف من قال هذا؟، فسكت الجمع وقال " الآن تعرفون لماذا " .
إن صحت واقعة هذه النكتة ، فهي تضحك بحجب الأسئلة، فرغم الإصلاحات التي حاول بذلها خروتشوف لكن لماذا لم يناهض من حينها الستالينية، لماذا لم يسر مع المئات إلى المعسكرات ويموت معهم. نحسب له إنه اختار إرادة الحياة على الموت والعدم.

- النكات مختارة عشوائياً .

- النص محاولة لتأويل قول نيتشة ( النكتة سخرية من موت احساس ما / إنسان مفرط في إنسانيته ) .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى