روبرتو آرلت - نساء ما بعد سن السادسة والعشرين.. ترجمة: أَحْمَد نُورُالدِّين رِفاعي

ما أجملهن النساء في سن السادسة والعشرين!، اللائي لم يتزوجن بعد، وليس لديهن رفيق! ولَكمْ هُنَ جميلات، ولَكمْ هُنَ مثاليات! أكثر هَؤُلَاءِ النسوة، يبدو وكأنهن جمرات مغطاة بطبقةٍ رقيقةٍ مِنْ الرماد. يتم استهْلَاكُها بِبُطءٍ، وتصير جميع إيماءاتهُنَ بطيئة ومُتعبة: مَلَلْنَ مِنْ الانتظار دونَ جدوى. فما أجمل نساء السادسة والعشرين اللائي لَمْ يتزوجن بَعْد، وليس لديهن حتى شريك!

الحزن…

مَعَ الأسَفِ؛
لَكمْ هو مُحزنٌ أن يَنْظُرْنَ الفتيات إلى الزوجاتِ الشاباتِ اللواتي يَمْرُرن وهُنَّ مُتأبِّطات رجلًا مَا مِنْ أذرُعَهُنَ! تتوجه إليهم العيون دونَمَا قَصدٍ، وعنْ بُعدٍ يَرمُقنَ الغريبات اللَّائي حَققن أمنياتَهُن، بِحَسرةٍ فأكأبتهُنَ النَّظْرَة، وتعود مرة أخرى أكثر إشراقًا وذات نظرة مرتابة الضوء ببؤبؤ عيونهن.

والمتزوجون؟ لقد شاهدتُ، ليلاً، وأنا أنظر لسَيّارةٍ الزفاف البيضاء، وبِضْعُ فَتيات ينتظرن “رحيل العروسين”. وتلك الفتيات اللَّوَاتي كانوا صِغارًا بَدَوا سُعداء، لكن أُولئِكَ اللَّوَاتي تجاوزين الخامسة والعشرين عَامًا بدوا قَلِقات، وأجتَمَعتْ قناعاتهُنَ يقينيًا بأنَّ هذه مغامرة استثنائية، ولكن، لَنْ تَتِمُّ لَهُنَ أبدًا.
وعندما اختفى موكب الزفاف، وانطفأت الأنوارُ، وَغَلَّقَ خادم الكنيسة الأبواب، أُولئِكَ الفتيات العازبات ، سَحَبنَ أنفُسَهُنَ بِبُطءٍ بَعيدًا دونَمَا أن يَنْبَسْن بِبِنْت شَفَة، وأُغرقن في التَّفكير “إن ما لم يكن كذلك”.

ذلك الحزن…

وذلكَ الحُزْنُ هو مَا يُزَيِّنَهُن، وهو الذي صيَّرَهُنَ شاحبات، مِمَّا تُرِكَ بأياديهُنَ مِنْ شفافية وطهارة راهبات؛ كَنِسوةٍ مُحْصَنَاتٍ داخل أديرة.
لأنه هُناكَ لَحظةٍ بهذا الخريف يَصلنَ فيها إلى لدرجةٍ مِنْ إكتمال نضجهن. تلألأ عيونهن كَالمحمومين، فيتحور الوباء كصنف مِنْ أصناف الصَّدَفْ، ويَظهرُ الشعر مَحفوراً في موجاتٍ مِنْ رُصاصٍ، ووقتمَا يَتَمَشَّينَ، يفعلن ذَلك بخفةٍ ورشاقةٍ غريبين. يُعرفنَ في تلك اللحظات أنهن بديعات الجمال بشكل لا يمكن انتقاده؛ لكنهن يَعلمنَ أيضًا أن ذلك الجمال هو شَفَق – اللهيب الأحمر الأخير قُبيل غروب الشمس، وأنه سيحين الغُروب قريبًا، وفيما بعد سيتحولن إلى نساءٍ صغيرات حزينات تلك الفتيات المرتديات بلوزات مصنوعة من أقمشة شفيفة خفيفة، وتبدو الواحدة منهُنَ ولديها ظهر منحني بعض الشيئ، وعندما يسمعن حديثًا عَنْ الحُبِ، يضحكن بطريقةٍ يملئُها الإرتياب والتشكُّك، ويسعين لتغيير دفة الحوار.

حتى سن العشرين…

كانت البنات سخيفات، ومتغطرسات إلى أن أتممن سن العشرين فإنهُنَ جميعًا يضفين حلاوة إلى أحيائنا، أما ما تقوله الفتيات لبعضهن عن الشباب “يا للأسف!”، “لا يا عزيزتي”، “نعم، يا جميلة”. كان لديهُنَ عُشّاق، ولكن واحدٌ مِنهُم لَمْ يكُنْ أنيقًا، والآخر أنه “لم يكن لديَّ معرفة به” والثالث ، “لَمْ يكُنْ يَجنى مَالاً بمَا فِيهِ الكفاية”. الحقيقة هي أنهُم -إحساس عنيف- لا يرغبن فى الزواج فَهُنَ يعيشن على أمل انتظار شيئًا أفضل.
أرواحٌ جميلة مِنْ حجارةٍ، وقلوبٍ رائعةٍ مِنْ فلِّين! لقد إِغْتَرّوا بجمالهُنَ لدرجةٍ أن صارتْ تِلكَ الرغبة بالنسبةِ إليهُنَ كمَا لو كان لِبخيلٍ أن يتنازل عن ثروته إلى رَجُلٍ بائسٍ؛ تِلكَ هي القناعة نفسها التي كانت تُزَينهُنَ كثيراً على مدارِ سنواتٍ عديدةٍ، بحيثُ أنَّهُ لا أحد أنْ يَحتَملهُنَ لمدة أربعةٌ وعشرونَ ساعة.
ثم انفلت الزمان.
فيقولوا: وكيف حدث ذلك! طار الوقت. بسرعة جدًا، فوجدن أنفسهن خارج الخط، وبعد ذلك أرادوا أنْ يرجع بِهنْ الزَّمن للوراءِ، ولَكنْ كان ذلك بعد فواتِ الأوان، لقد كان ذلكَ مُتأخرًا جدًا؛ وأنَّني الآن أصفُ هذه الفرحةُ مِمَّا شاهدتهُ.
وفى ليلةِ الكرنفال كُنْتُ بِجانب نافذةِ المَقهى. وهي كانت قد تُرِكَتْ وَحدَها مَعَ مُتَغَزِّلٍ. الِاثْنَان سَيُكمِلا الستون عام. عِندما انتهى التفاوض بينهُما،
رأيت في وجه الفتاة تَهلُّل بِحُمرَةِ الشفق -فرحة عارمة- وفجأة اقتربت الأم وخالتها، ثم قالتْ الفتاة، بينما تقدم الخطيب المتفاوض إلى الأمام، مُتبخترًا بالانتصار الذي فعله:
– لقد تم بالفعل!
فى ما عدا ذلك رُددت جميع نغمات الصبر، والقلق والانتظار. وفى الختام أخيراً حَددَ الآخر موعداً! وتَمَلَّكَتْ الفرحة مَنْ الأم، وأمَّا الفتاةُ هَروَلتْ لأخذِ خطيبها مِنْ ذراعهِ؛ وأنا، لَمْ تكُن لديَّ المقدرة على أنْ أتوقف عَنْ التَبَسُّم، فَقُلتُ لنفسي : “كَمْ شهرٌ، وكم سنةٌ مَرَّتْ كانت هذه الفتاةُ العفيفةُ، تَمَنَّتْ أن تَخرُج مَنْ العزوبية وذلكَ الجَحيمُ الَّذي بَاتَ تَعبيرًا مدويًا، عجيبًا؟
– ” لقد تم بالفعل!”
كمَا لو كان الأمر أن أحدهُم يُعلن نتيجة لعمليةٍ جراحية، وولادة سعيدة، وتجربة رائعة؛ شيءٌ بدا مُستَحيلاً وفي اللحظة الأخيرة، انفجر بِشكلٍ رائع. عُدتَ وقلتَ لنَّفسي مرة أخرى:
“كيف ستَعتَني بخطيبها الآن!” لَكَمْ هي لطيفة، ولَكَمْ هي مِثاليةٌ، وإلى أيُّ مَدى سوف تكون صائبةٌ في كُلِ شيءٍ! ولأنَّكَ تَبدو وكأنَّكَ رجلٌ غارقٌ في السفينةِ، يُطلقُ أخر صاروخٍ في الهواءِ، بينما تَمضي السَّفينةُ في الظلام. فماذا لو فشلت تلك الإشارة …

لهذ السبب…..
لهذا السبب هُنَ جميلات جدًا تلكَ النساءُ الشفقيات. جميلات وحزينات. يبدو وكأنهُنَ يرتدوا ملابسهُم لِحَفْلٍ آخر. وقَدْ تبقَّى لَهُنَ سنواتٌ قليلةٌ جدًا كي يَنتَشِلنَ أنفُسَهُنَ مَنْ الاحساسِ بِالوحدةِ، وأنَّهنَ لَمْ يكنَ كانوا كما في ذلك الحين، يفهمن ذلك، بشكلٍ جيدٍ جدًا، ومثالي جدًا. هن يتحدثن فى المُوسيقى، و يُدققُنَ فى اللحن. هُنَ مَرِنَات كَشجرِ الصفصاف ويمتلكن حساسية حشرات ذات قرون الاستتشعار الكبيرة، التي تمشي فوق الماءِ فى حالةٍ من سكون دونمَا أن تتغير هيئة ظلها.
ولهذا السبب هن جميلات للغاية. وذلكَ مَا جعل المُستقبل يخدعهن. وتصبح الأوراق بأيديهن ناقصة جدًا، لِدرجة أنهُنَ خَسِرنَ لِعبَتَهُنَ بأقلِ خَطأ، وإِحْدَاهُنَّ بتلكَ الليلةِ، بَدَتْ مُتألقةٌ، وبنهاية المطاف بدا مُحيياها مُحْمَرٌّ تَغمُرهُ الفرحة:
– وبالفعل قد تَمَّ ذلك!

(جريدة العالم، 4 مارس لعام 1929 ).




**************************************************************
نبذة عن المترجم:
أحمد نورالدين رفاعي
– ولد بالجيزة فى 25 ينايرعام 1993 بجمهورية مصر العربية.، تخرج في كلية الآداب،
قسم اللغة الإسبانية، جامعة القاهرة عام. عمل محاضرًا ومترجمًا للغة الإسبانية بمعهد اللغات للقوات المسلحة خلال عامي 2017:2016. بالإضافة للمشاركة في العديد من الندوات والمؤتمرات المحلية، والدولية المتخصصة في دراسات الأدب، ومقارنة اللغات.
نَشَرَتْ له العديد من الجرائد المصرية والعربية ، والأوروبية العشرات من القصائد، والقصص، والمقالات المترجمة من وإلى الإسبانية بمصر والدول العربية وبمتحف الكلمة إسبانيا .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى