مهند يونس - شبح محمد طمّليه..

منذ أيام قليلة انتظم نومي، بدأت أستعيد شعوري بالسعادة، كأني نسيت أني فلسطيني، وكأن لا شيء يحدث في سوريّة والعراق وغزة منذ عشر سنوات. لكن ها أنذا مستيقظ والساعة قد تخطت الثالثة صباحًا، وأحدق في أطراف الغرفة كأني أنتظر شيئًا أو شخصًا يأتي. هناك مثل صيني يقول أصعب ثلاثة أشياء: أن تحاول أن تنام بلا جدوى، أن تنتظر شخصًا لا يأتي، وأنت تحب شخصًا لا يحبك، وأسأل بما أني أمتلك سببين من الصعاب الثلاثة فلم يؤهلني ذلك؟ أنا مستيقظ وهذا يعني أني ملقى وحيدًا مع نفسي، لكن شبح محمد طمّليه داهمني جالسًا على كرسي المكتب المخلوع، يجلس الآن قبالتي ولا أستغرب وجوده فقد انتظرته طويًلا، في يده سيجارة الجيتان لايت، مد لي واحدة من علبته، لكني رفضت بأدب، أخبرته أني أقلعت حديثًا عن التدخين، وفي يده الأخرى كانيولا مزروعة بوريده، استغربت، قلت له ما الذي تفعله بيدك بعد أن مت، أخبرني أن السرطان ما زال مستشريًا في جسده، وأنه هو الذي مات وليس السرطان. أخبرني أنه يعاني من الأرق أيضًا، وأرق الموتى أشد وطأة. سألته ألأنه مقيد بكفنه ولا يستطيع التجول في الممرات حتى يهدأ وينام؟ أخبرني أنه فك قيده، وهرب منذ الليلة الأولى، مما صعّب الأمر أكثر. في العادة لست كثير الحديث ولا هو أيضًا، وجلوسنا صامتين في هذه الغرفة والساعة الآن من ثلاثة ثلاثات لا يستدعي أي ريبة على الاطلاق. سألني عن المرآة المكسورة المعلقة على الخزانة، تحسس ذقنه قبالتها، وخلع قبعته فسحبت معه بعضًا من شعره الناحل، أخبرته إن يود الحلاقة فهناك رغوة حلاقة وشفرات حلاقة جديدة في الحمام، لكنه ظل صامتًا. لفت نظره وجود كتابه -شاهد عيان- على مكتبي، أخبرته بنبرة المحب أني "وصّيت" عليه خصوصًا من عمّان ولم أستطع الحصول على غيره. تذكرت حلمه بكتابة رواية تضعه في مصاف الروائيين العرب العظام، وبادرته بالسؤال، لديك وقت فراغ طويل، لا بد أنك انجزتها الآن وحققت حلمك. لكنه أخبرني أنهم خذلوه. من هم؟ الفتاة التي أحببتها، المدينة التي أحببتها، والكتابة ذاتها، المكان هنا مريح ومسالم، ولا يشي بشيء ولا يحاول. ها أنا ذا أمامك، كما رأيتني آخر مرة في فلم ساندرا ماضي. لكن مصطلحاتي تغيرت، سمعتني وأنا أقول، سأحاول أن، سأبذل قصارى جهدي كي، سأطمح إلى، سأتوق إلى، سأمضي نحو، ... لكن كل شيء تغير الآن. فعل الموت أطاح بفعل المستقبل ودفع بأفعال التمني خاصتي الى الجبهة، وها أنا ذا أقاتل، ميت عنيد مصاب بسرطان اللسان ويدخن جيتان لايت، يشعل السيجارة من عقب السيجارة، ويقول للحياة كما قال ناجي العلي، لكن بصدق: طز. الموت لا يختلف كثيرًا عن الحياة، في الحياة نندم، في الموت لا مجال للندم، الستائر أسدلت، وعليك أن تنام، لتحلم بأشكال أخرى للموت لم تحدث. طلبت منه أن ينام عندي الليلة، على السرير فهو ضيف، مع أني أحب نوم الأرض، وظهر إنه يحبه هو الآخر، فتحت درج المكتب واخرجت شريط الزودورم واعطيته حبة ولنفسي حبة، قلت له ستنام الآن نوم طفل، انا اتحدث معك واكتب وعما قليل سأغفو مثلك، ذكرّني صباحًا أن أغيّر لك الكانيولا بيدك، تبدو مهترئة، وهناك نصف علبة مارلبورو ما زالت لدي منذ أقلعت عن التدخين، خذها معك.

مهند يونس





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى