كتاب كامل حسن ميّ النوراني - مريم عارية - رواية سافرة تكشف المستور (الجزء الأول: الفصول من 1-10)

كتابات أدبية (1)


في أول كتابي:
"رؤية دينية للدولة الإسرائيلية"؛
قلت:
"الدولة الإسرائيلية جماع الفساد الإنساني…"
وهنا… فساد ظلوم…
وحبٌّ يُطهِّر...
أبو سامي… إنسان أفسده العدوان الصهيوني على فلسطين…
أمّا الحبّ فقد طهَّره...

الحبُّ دواء الداء


1
ضرب الزلزال خيال الطفلة .والمعلمة الشابة، تدلق من حافظتها الذهنية، تفسيرات الفقهاء، لأول آيات القران الكريم: " الرحمن من الرحمة، والرحمة هي الرقة، واسم الرحم مشتق من الرحمن .والرحيم : الرفيق …"
إرتجَّ عود سماح الرهيف. وفي الفزع تبددت. حملقت في الضياع. والأشباح تخنقها. غام الهواء بريح الموت. أطلقت صيحة بعثرت فضاء المدرسة. غاصت اللحوم الطرية في خشب المقاعد. هرولت المديرة. المعلمة في ذهولها ترتعد… واليد العجوز المعروقة المصنوعة من امرأة مقهورة عانس، تهوي بصفعة موتورة على الوجه الشاحب البريء… والريحانة المذعورة في ظلام العصور تذوي…
غارت سماح في غيبوبة، فاقت منها على صوت ينادي عند الظهر: "الله أكبر". وكفها الناعم؛ حمامة نائمة في عش يدوي، له دفئ ذكورة بكر، يذرفه قلب سامي، أخيها –كما تعتقد- بالتبني… "الحمد الله أنت بخير"… قال وضمها حنانه.
يصادف اليوم عيد ميلاد سماح التاسع.
" وفي ليلة بردها عاتٍ، مثل ليلتنا هذه، أو أقسى، قبل عقد كامل من الزمان الضاري…
تحكي سماح إلى حليمة، الجالسة القرفصاء عارية قبالة مدفأة يغلي إبريق الشاي المخلوط بالنعناع فوقها...
"داهمتني رعشة لم يقاومها فراشي الثقيل. ناديت سامي. فزَّ من نومه العمّيق. توسلت إليه خلايا جسد يضطرب ، كأنما هو سفينة تلهو بها، عاصفة الموت ، في بحر يترامى في الهلع الإنساني الأزلي الباقي : " أرجوك، نم معي".
تردد الفتى قليلاً. لم يفعل ذلك من قبل. ثم جرفته الشفقة التي لم يكن يضن بها، نحو سماح؛ الطفلة سوداء البشرة، اليتيمة من كل صوب. وعلى الوسادة الرخوة الحمراء، تعانق الحب المشرق من عيون ظمأى إلى عطر القلوب، مع أنفاس تنفثها رغبة لم يختبر سامي مذاقها، حتى الآن.
تجاوز الوقت منتصف الليل. سماح رخوة تتقلب في حضن السهاد. ذابت ملابس الشتاء الثقيلة بين الجسدين اللذين كانا يفترقان، في عجل، فيلتصقان بالحرارة الأولى لشهوة ذكرية، تزداد جموحاً؛ والطفلة اللدنة، في براءتها، تلف خصر سامي بذارعها، وتقبض، بفخذها، على أسفل جذعه.
وسامي، يُحكم الحصار عليها. ويكافح طوفاناً يحتاجه. ذراعاه تضغطها. تبتسم الطفلة بعيون تنشقُّ فتنغلق. يتفلَّت سامي منها، وينأى قليلا… تلتصق به أشد مما كانت تلتصق. تجذبه من ذراعه، وترتد من صحوتها الخاطفة، إلى حضن سامي، فتزرع رأسها في صدره، فتتحاذى المنطقتان الوسطيان لهما. يضغط الفتى أخته، ثم يرتخي. تستلقي على ظهرها. يحملها النوم في جوفه. يضرب الجسد الذكري مرة أخرى. تهزمه فخذان منفرجان.. لا لغرض. تتحرك يد سامي في ثياب أخته. يقذف ماءه في فرج لم يتأهل بعد، لدوره المخلوق له…
اندست الفتاتان، كل في فراشها. هنأت سماح، بنوم، لم تذقه، منذ تلك الليلة الأولى، التي افتتح بها سامي، علاقات أخته، بالتبني، الجنسية، معه، ومع أبيه أيضا.
تعيش سماح، مع حليمة، ذات البشرة الأغمق من بشرتها، في شقة تقع في الطابق العاشر من بناية تعود ملكيتها إلى أبي سامي. تنتسب حليمة، إلى قسم الدراسات النفسية، في الجامعة التي تنتسب فيها، سماح، إلى قسم الصحافة.
وفي صباح كانتا فيه، تحتسيان الشاي، في شرفة شقتهما، المطلة على بحر غزة، وشمس الضحى، تداعب النسيم البارد، دخل سامي، بعد أن رن جرس باب الشقة، قبل أن يعالج قفله، بالمفتاح، من الخارج.
يزور سامي وأبوه، سماح وحليمة، عادة، في أوقات لا تبدأ، قبل الظهر. ونادراً، ما خالفا العادة، ويحفظ كلاهما، مواعيد محاضرات الطالبتين الجامعيتين. ويرافقانهما، منفردتين، في رحلة الخروج من دوامهما الدراسي، التي كانت، في أحوال عديدة، لا تقودها، إلى شقة الفتاتين، مباشرة.
رغبت سماح، بالإقامة بعيدا عن بيت أبيها بالتبني، لتتفادى إزعاجات سامي المتواصلة لها، بطلبات لا تنتهي، يحاول بها، أن يؤكد رجولته، التي لم تكن تحظى، بما تحتاجه من احترام، يليق بشاب ثري ووسيم. ولديها، صار سامي شيئا مختلفا، عما كانت تعهده، منه، عندما كانت طفلة.
كان سامي، يقرأ في عيون زملائه في الجامعة، وأقرانه من معارفه، ما يضمرونه له من مشاعر الاحتقار والنفور. والتي كان أبوه أيضا، يعاني من مطاردتها له، والذي يدوره، كان يسقطها، على سامي، المستهتر، (في رأي أبيه)، والمبتذل، اللاهث وراء نزوات، لا يخجل، من المجاهرة بها، في حضرة والده.
واستجاب أبو سامي، لرغبة سماح، في الاستقلال بحياتها، في بيت مستقل، ليتفادى الحرج، الذي كان يحسه، عندما تقوم إحدى عشيقاته، بزيارة ليلية له، لا تخفى على سماح.
في هذا الصباح، الذي اقتحم فيه، سامي، صلاة من غير طقوس، كانت الفتاتان تؤديانها، في رحاب مطلق، يفترش زرقة البحر تحته، ويتدثر بزرقة سماء صافية، جفتها غيوم الشتاء، القاحل هذا العام، فاجأت سماح أخاها: " أنا حامل"…
غادرت حليمة الشرفة. قال سامي :"أشتهي صديقتك هذه يا سماح".
_"سامي، قلت لك أنا حامل"…
"هذا شأنك"، رد وهو يقول: "سأدفع لها ما تريده إذا وافقت علي قضاء ليلة حمراء معي".
_"أنت سافل"!
صفعها. صمتت. غابت في بكاء مبحوح. وحليمة تضمها، وتمسح الدموع التي تسقي ذكريات المرارة واليتم وهوان العبيد…
حليمة تعرف أن سماح حامل؛ وأنها تستسلم لرغبات سامي، وأبيه، الجنسية بوعي ورضا، ومنذ عهد بعيد، بدأ، بعد أربع سنوات من الليلة التي فض فيها سامي بكارتها، حينما نضجت أنوثتها، وتفاقم إحساسها، بعذاب يمزقها، ولم يرحل عنها، ولا للحظة واحدة، منذ كشف لها سامي، عن سر التضحية بأمها، بعد ولادتها مباشرة، قبل تسعة عشر عاماً من الآن. وتعتقد حليمة، أن سماح، تهرب من محنتها النفسية، بتحدي القيم، المسئولة في الحقيقة، عن مأساتها. ولم يبدر من حليمة، أية إشارة باتهامها في أخلاقها، بالنظر إليها، من زاوية إصرارها، على إغراء كل من أبيها، وأخيها بالتبني، على التمادي في علاقتهما الجنسية معها. ويزداد تقدير حليمة لصديقتها، لحرص الأخيرة، على إخفاء علاقتها، مع سامي، وعلاقتها مع أبيها بالتبني، عن ابنه.
فسرت حليمة موقف سماح الأخير، كما دونته في دفتر تأملاتها، كالتالي: "تحدى الظلم حق إنساني مقدس. والإذلال المتعمد، جريمة لا ترتكبها امرأة طاهرة، مثل سماح".

2
اعتاد أبو سامي، زيارة سماح، في أوقات غير مبكرة من الليل، بعد أن ينتهي من أعماله التجارية، التي يزاولها بأعصاب مطحونة، وبمشاعر تضطهده من داخله. وبعد أن يتناول عشاءه مع الفتاتين، يبدأ في احتساء فنجان القهوة النسكافيه، المخلوطة بالحليب، والذي كان يحب أن تصنعه حليمة، ولا يفرغ منه، قبل أن يكون قد أشعل نصف علبة سجائر، قد تكون الرابعة، أو الخامسة، مما أحرق، منذ الصباح.
وقبل أن يطفئ عقب سيجارته الأخيرة، يكون النوم قد بدأ يجره، وأصابعه تتخلل، بعطف أبوي، شعر سماح، الهائج في فوضاه، حول عيون تكافح النعاس، ذابلة وأسيانة. وفي نجوى صامتة، تُلقي الابنة رأسها القلق، على صدر أبيها، وتحضنه.
تغبط حليمة صديقتها. حليمة، ومنذ بلغت السادسة من عمرها، بدأت معاناة الحرمان، من أب سرقه الموت، في حادثة دهس، في بلد خليجي، لا زالت أسرتها تقيم فيها.
تنسلُّ حليمة، بهدوء، من حجرة سماح، التي يرقد فيها أبو سامي. تغلق الباب خلفها. تدسُّ سماح جسدها، تحت فراش يضمها مع أبيها (بالتبني؛ كما تعتقد). يتماوج الجسد الأنثوي الطويل الرهيف اللدن الملتهب، تخربش السيقان الممشوقة، صمت الليل، يتحرك الذكر النائم في رجل طفولي شبق. يجذب سماح من جذعها. يداعب ثدييها، يرضعها بجوع أزلي إلى أمومة غائبة. تضغط يداها الملساوتان، رأسَه المتلفح بالثلج فيصير الثلج قطيعا من ماعز، يتنطط من تلة إلى تلة، على صدر يعلو ويهبط، ويعلو.. هذان نهدان يعشقان رجال الدنيا، كلها، وفي آن واحد…
فجأة، تنطفئ ثورة الذكورة. ينام أبو سامي، جوار سماح. يغفو قليلا. يضطهده نومه. يجلس في الفراش مفزوعاً. يلتفت إلى سماح، الوديعة مثل حمامة تلفها سحابة الصمت، يتمدد إلى جانبها. يدس ذراعه اليسرى تحت عنقها. يجذب رأسها، يطبع قبلة حارة، على الشفتين المصنوعتين بعناية إلاهية فائقة. يستلقي على ظهره. تشرد عيونه في الفضاء المعتم. تنحدر دموعه. يستدير نحوها مرة أخرى. يجذبها إليه، يلثم حلمتها اليسرى. يتوقف. يضغط ثدييها بأصابع من نار. ترتخي يده. يزفر. يرفع رأسه. يحملق في الأنوثة المستسلمة في ليل يرقص على موسيقى يعزفها موج البحر. يغمض عينيه. يلصق وجهه بوجهها. يضمها بعنفوان. يرتخي. يتحسس الحنايا الخلفية الضامرة لسماح. يزفر. يعتليها، يعصر الجسد المضطرم تحته. يلثم فمها. يرتمي على ظهره. يحوج كما الكلاب. يلقى رأسه المشروخ على صدرها. يجرفه النوم. يُطارده شقاؤه. يفزُّ مذعوراً. يحملق في وجه سماح. يغلق عينيه. يغرز رأسه في صدرها. يفزع. يلثم حلمتها اليمنى. ينحدر إلى أسفلها. يدس أنفه في فرجها. ينهض بحركة سريعة. يحملها بين يديه. يجلس فوق أريكة، وهو يضمها، بحنان الأمهات مجتمعات. تشرد عيناه، من باب الشرفة المزجج، في ظلمة تسكنه، وتترامي في الأفق اللانهائي.
يبكيان طويلا، وسماح تحضنه بعاطفة لا تزال ظمأى، منذ لحظة حملها الأولى، في رحم أم مضت في المجهول، منذ وضعت وليدة، كبرت، وتفاقم فيها السؤال: "تُرى، من أمي، ومن أبي؟!"؛ عذاباً مريراً…
كان أبو سامي يحرص على أن لا يندفع إلى ممارسة جنسية كاملة مع سماح. هي ابنته، هذه حقيقة لا يستطيع إنكارها بينه وبين نفسه.
لم يكن يخلع ملابسه، وهو في فراش سماح. وظلت الأخيرة، مواظبة على اتخاذ إجراءات وقائية لمنع حدوث حمل، كانت احتمالاته قائمة، نتيجة علاقتها الجنسية الكاملة مع سامي.
وفي ليلة، شعرت سماح، أن قوة تفوق قوة إرادتها، حملتها في جوف ضباب، فلم تتناول القرص اليومي لمنع الحمل. وعندما جاء أبوها (بالتبني كما لا تزال تعتقد )… كانت انفعالاتها، المشوشة، والمتصارعة، قد بلغت الدرجة التي، غمرتهما معا، في أول تجربة اتصال، روحي جسدي، أسكرتهما معا، في ليلة، لم يتناولا فيها خموراً، ولكنهما، كانا قد تجردا من قيود داخلية، في طقس، فشلت سماح، في تصويره لصديقتها حليمة، بعد خروج أبي سامي من شقتهما، في ساعة، توازي طلوع الفجر.
لم يتوقف أبو سامي، عند مسألة غشاء بكارة ابنته المفضوض. ويعرف، أن ذلك، يعود، إلى ما قام به ابنه، قبل عشر سنوات. وتحت تأثيراتِ عملية، لم تحكمها إرادة واعية، لم ينتبه أبو سامي، إلى أن فرج سماح، ليس صائما.
ومنذ تلك الليلة، أيضا، بدأت الفتاتان بالنوم معا، في فراش سماح، التي كان واضحاً، أنها غدت ميداناً، يتضاجع في فضائه، عمودان من نور مبتهج، وظلمة شرسة.
وفي ذلك الليل، الذي كان يسحب ذيوله، ضمت حليمة صديقتها، التي كانت لا تزال في غيبوبة شفافة، والتي لم تكن بعد، قد أفضت، بسرها الأخير، إلى حليمة، التي لا تخفي سماح، شيئاً مما يقع لها، عنها.
استسلمت سماح، للنوم في حضن صديقتها، مثل طفلة، يكسو وجهها، هدوء، يأتي من الأزل. كانتا عاريتين تماما. وكان خيال حليمة، يرسم لوحة جلال، يعزف رقصة باليه، تؤديها جوقة ملائكية.
وبعد خمسة أشهر، وهما في الفراش معا، قالت سماح، بعذوبة خائفة: "بدأ يتحرك". ألصقت حليمة بطنها، ببطن سماح، صاحت بفرح، يكفي العالم كله: "رباه، ما أجمله!" استلقت حليمة، برشاقة، على ظهرها جذبت سماح من ذراعها، جعلتها فوقها، وبغنج أنثوي شبق، قالت: "اضغطيني"!
تأوهت حليمة. أشرقت عيناها بنور الحب وبهجته. توردت وجنتاها. أطلقها النوم في الحرية السرمدية، التي تتأجج في أنفاس امراة حبلى، ينبض فيها جنين، مازال منفلتاً، من قيود أكذوبة الإنسان الكبرى…
وكعادتها، استيقظت حليمة، قبل صديقتها، بحوالي ساعة، قضتها في الحمام، الذي تتناول فيه أول فناجين قهوتها، مع سيجارة تشعلها من نار موقد الغاز الصغير، الذي تضع قهوتها، عليه، وهي في الحمام، أثناء قضائها لحاجتها الطبيعية، الذي تبدأه، بعد أن تنكش شعر رأسها، نصف الخشن، والمبعثر، بفوضى، يصحو بها من النوم ، فتبدو كما لو كانت إحدى نساء أفريقيا، الموغلات في القدم. يؤكد هذه الصورة، شفاه غليظة، وأنف أفطس، وجسد قصير، مائل للنحافة، باستثناء ثديين ممتلئتين، ومؤخرة، تندفع للخلف، لا تخجل من عُري، تواظب عليه حليمة، ولا تجفوه، تحت أي ظرف، داخل الشقة التي تقيم فيها مع سماح.
ولا تنسى حليمة، أن تحمل معها، إلى خلوتها اليومية في الحمام، الذي يضم مقعد قضاء الحاجة، دفتراً تدون فيه تأملاتها، بقلم أخضر.
وفيما يخص دراستها، لا تبذل، وهي، التي تقف على أبواب التخرج من الجامعة، جهوداً توازي تفوتها في نتائج الامتحانات، التي تدخلها.
تقول: "علوم النفس لا توجد في الكتب".
أضافت، خلال جلسة، في شرفة شقتها، مع سماح، وهى (حليمة )تحلق في السماء، من فوق كرسي طويل، يتمدد جسدها العاري عليه: "لم يصل عالم النفس الشهير، فرويد، إلى نظرياته العمّيقة، بدراسته لما في الكتب. فعل ذلك، بعلاقة مباشرة مع حقائق الحياة الإنسانية ".

3
سماح قالت: "أحببت حليمة، بكياني كله، ومنذ أول لحظة التقينا فيها. كانت روحي التي كانت قد ضاعت مني".
حليمة تكبر سماح ببضع سنوات. وتتقدم عنها، في الدراسة الجامعية، وفي وعيها الأخلاقي، ومستواها العقلي. يغلب عليها الصمت. وتستغرقها حالة من تصوف من غير طقوس ظاهرة. تعتز بانتمائها الإفريقي، وتحفظ عن أسلافها، أن نسبها يعود إلى جدين، من غرب وشرق أفريقيا الوسطى، وقعا ضحايا تجارة الرقيق القديمة، قبل مئات السنين، وانتهت رحلتهما، المكرهين عليها، في بلاد الشام. تمارس حريتها بطبيعة الغريزة، المضبوطة التي لا تجمح إلى إفساد حياة الآخرين. عاشت، على خلاف سماح، عمرها في الشتات. جاءت إلى غزة قبل ما يزيد عن ثلاث سنوات، للالتحاق بجامعة فيها. تعاني من انغلاقية المجتمع الفلسطيني، ولكنها تتسامى…
تابعت سماح: "أقامت معي، في شقتي في الدور العاشر، من بناية أنشأها أبي (بالتبني ) في عهد السلطة الفلسطينية. لم يمر على ذلك وقت طويل. كان أبي ( بالتبني) يشعر أنني بحاجة إلى شريكة تؤنسني في وحدتي، التي عانيت من قساوتها، الجوانية والبرانية، منذ بدأت أعي أنني عارية من أم ومن أب حقيقي. كنت أتبدد…حليمة جمعتني…"!!
ذات مساء، دخلت حليمة، وزميلة لها، متجر أبي سامي، الكائن في حي الأثرياء في مدينة غزة. التقطتا لوحين من الشيكولاتة. كانت تتحدثا بصوت مسموع، عن نية حليمة الانتقال من البيت الذي تقيم فيه، مع أسرة من أقاربها، إلى سكن مستقل…
التقط أبو سامي الخيط. بادر بتقديم قطعتين من أجود ما لديه من الشيكولاتة، إلى الفتاتين، لتستبدلا بهما، قطعتين رخيصتي الثمن، اللتين اختارتاهما. خطفت زميلة حليمة، القادمة من إحدى دول الخليج، القطعة من يد أبي سامي، وهى تصيح بفرح أنثوي: "ياي.. شكراً يا عمو، هذه هى الشيكولاتة المفضلة عندي". ثم أخذت أيضا، القطعة الأخرى، التي اعتذرت حليمة عن قبولها.
تجمدت عينا الرجل الستيني في نظرات تقفز من شهوة تغلي. كان صدر الفتاة ثورة نهود ريانة بالأنوثة التي تتحدى الذكورة القامعة المقموعة. تنهَّد من قاع نفسه. اصطنع ابتسامة رقيقة، قال بلهجة مجروحة، والفتاة تقرض الشكولاتة ببهجة،: "صحهْ وهنا على قلبك".
"كم تساوي هذه الشكولاته؟". سألت زميلة حليمة، وهي تغنج بجسد لدن، محشور في قميص وبنطال أحمرين، مشدودين على تماوج شبق، يرتخي حوله، شعر حريري، يلف وجها ناصع البياض، زاده إغراء، مكياج هادئ، وشفتان مرسومتان بعناية ربانية خاصة، تنفرجان عن ابتسامة يشرق منها حب منفلت..
رد أبو سامي: "الجميلة لا تدفع نقوداً"!
حدقت حليمة في عينيه. طأطأت رأسها. لم تنبس بكلمة. سألها: "هل أنت جادة في البحث عن مكان تقيمين فيه؟".
استعادت إنضباطها الداخلي وقالت: "أحاول ذلك منذ وقت طويل. يبدو أن هذه المسألة صعبة هنا!". وكانت، في الواقع، تصطدم بشروط، لم تتجاوب معها، يعرضها أصحاب شقق للإيجار.
"لا نزال أسرى أفكارنا القديمة"؛ قال أبو سامي. أضاف بحزم: "تفضلي غداً، صباحاً، بزيارتي، وإنشاء الله يحصل خيراً".
تواصل سماح: "ظلت المسافة بين أبي (بالتبني ) وحليمة، مسكونة بالصمت، رغم محاولات متعددة، منه، لإغرائها بالكلام، الذي كانت، بشكل عام، تُمسك عنه. ولكن شفتيها الأفريقتين، كانتا، بركاناً من الشهوة، يمتزج فيهما، انفعال، شبقي للأمومة والذكورة معاً. حليمة لديَّ، بهجة حب، تعذبت طويلا بالحرمان منها، قبل أن نلتقي. وفيها أيضا، أتذكر مديرتي التي صفعتني بقسوة، في التاسعة من عمري…".
"سألتها: حليمة؛ هل تمتلك النفوس البشرية، عاطفة نبيلة، كما تمتلك الكلاب؟". لم تجبني، ومسحت كفها، دموعا تاهت في صحرائي الجوانية. وبعد هنيهة، شعّت فتنة ذات نكهة أفريقية، من عينها، قرأت في أساها: كانت جداتنا القديمات، يقمن، في وقت واحد، بطاعة السادة، في النهار، والانصياع لرغباتهم، في النهار وفي الليل".
قالت حليمة باقتضاب: "كان الخيار واحداً فقط".ثم سألت سماح: "هل تختلف الحفيدات عن جداتهن؟!".
وثابر سامي، على محاولاته، لاقتحام عالم حليمة الخاص. سألها مرة: "لماذا تتخلفين عن حضور الدروس الجامعية؟". كانت تصمت. وكانت سماح تنهره.
حضر سامي لزيارتهما، ذات مرة. كانت حليمة تشعل سيجارة، وتلف جسدها العاري ببشكير كبير، بعد خروجها من الحمام، الذي قضت فيه، ما لا يقل عن ساعتين.
ضجت دقات قلبه، وتجمدت عيناه، بين نهديها الممتلئتين بأنوثة تمتلك كبرياءها الفريد. انحسر البشكير عن فخديها. اضطرب سامي. أصابه زلزال الشهوة القديم، الصاعد من عنفوان الغابة الأولى. قال بنبرة ضالة: "لماذا خرج أبوانا من الجنة؟!".
قالت حليمة، وهي ترمي ظهرها، على السرير: "للأحفاد حق العودة!".
توهم سامي أنه كسب الجولة، قال بنبرة رقيقة ولْهانة: "هل أنت تؤمنين بذلك، حقا؟!".
لاذت حليمة بالصمت. وقفت. لم تأبه لسقوط البشكير عنها. استدارت بهدوء نحو النافذة المزججة للحجرة التي جمعت الفتاتين مع سامي. انطلق خيالها في الأفق الحر المترامي في سماء البحر الأبيض المتوسط…
بحلق سامي في مؤخرة حليمة المندفعة فوق فخذيها الأسودين المكتنزين بنداء الشهوة المعتقة. انتفض. راودته نفسه أن يهجم عليها، كما يفعل النمر عندما يباغت الفريسة من خلفها. التفت إلى سماح. وقف بنزق. شق الهواء بصيحة معذبة. اتجه إلى الباب الخارجي للشقة. فتحه بعصبية. التفت إلى حليمة التي كانت قد استدارت في وقفتها. توسلت عيناه الخانعتان إليها. لم تنتبه إليه. جاح مثل كلب ينهشه الظمأ. مضى يتلوى… ويتوعد…





4
صفع سامي باب سيارته، الفاخرة، ضغطت رجله دواسة البنزين دفعة واحدة. وبعد دقائق معدودة، صفع باب مكتبه، الخاص. أشعل سيجارة، أطفأها بين أصابعه. أشعل سيجارة أخرى. دخلت عليه هند، سكرتيرته، وَجِلة، وما كاد فنجان القهوة الذي حملته أن يستقر على المكتب أمامه، حتى انتفض سامي، انتصب. أمسك ذراع هند بوحشية ثور هائج. أدارها. حل حزامه. فك أزرار بنطاله. أذهلت المفاجأة هند. أغمضت عينيها. دفع رأسها إلى أسفل. أحنت ظهرها. تفجرت فيها شهوة مذعورة. رفع جلبابها الطويل. حسر اللباس عن مؤخرتها. جذبها. صاحت بأنين لم تخبره من قبل: "ليس هنا".صححت وضعها. أطلقت صرخة أنثوية متمردة. استدارت نحوه. وقبل أن ترفع عينيها إليه، كان يجمع بصاقه، وفيما هي منخرطة في البكاء، قذفها باحتقار، ببصاق غطى وجهها كله.
النار بدأت تشتعل في أنوثة هند المهانة. صفعها. دفعها عنه. أغلق الباب خلفها. وارتمى على كرسيه، يحدق في صورة أمه، داخل برواز مذهب، كان يتكئ أمامه. وبكى مثل رضيع مذعور جائع.
كانت هند أنوثة مهملة. لم تستخدم، فيما مضى، مساحيق التجميل. ويحمل وجهها بقايا بثور. وجاوزت الثلاثين، وتعكس طلعتها أسى مدمر، لم تكن تتحدث عنه. وهي، في مجملها، لا تمتلك من المزايا النسائية، ما يثير رجلاً متوازناً. ولم تختبر، حتى اللحظة، أية درجة، من العلاقات المتبادلة بين الذكر والأنثى. ولم يكن الحظ يحالفها، كلما بدأت العمل، في المكاتب، التي تفضل، في العادة، فتيات يمتلكن الجاذبية، ويستجبن لنزوات المدير. وتقلبت كثيراً، بين وجوه أصحاب العمل الذين كانوا يرفضون تشغيلها رغم كفاءتها العملية وأمانتها وطاعتها والتزامها الدقيق بمتطلبات الوظيفة المهنية. وقبول سامي بعمل هند في مكتبه، يعود إلى أن صاحب القرار، بشؤون المكتب هو أبوه، الذي لا يعنيه، توفر شروط الكفاءة الأنثوية في سكرتيرة ابنه. والابن يتغاضى عن هذا الجانب، بسبب ما يتمتع به من حظوظ يكسبها من خلال علاقات عديدة، يقيمها مع نساء كثيرات، داخل المكتب، وبعلم هند، التي أثبتت، أنها تمتلك قدرة فائقة، على التكتم على أسراره. والنقطة الأخيرة، تدعم، لدى سامي، الموافقة على استمرار هند، في العمل إلى جانبه.
كانت هند تخاف من الاقتراب من الرجال. وعندما كان سامي يختلي بإحدى زائراته، في الاستراحة المرفقة بالمكتب، كانت رغبتها المكبوتة، في الذكورة، والغيرة من الأخريات، تفتكان بها، على أرض حلبة، تتمثل فيها، هند، حادثة ذبح شقيقتها الكبرى، قبل سبعة وعشرين عاما.
وفي ذعر متوحش، تمازجه بداية ولادة إرادة التحدي الأنثوي، استعادت هند، صورة ما وقع بينها وبين سامي. قالت في سريرتها، وهي تحدق في شاشة جهاز الكمبيوتر، الذي تستخدمه في عملها. "لن أكون الذبيحة الثانية في عائلتي".
قامت. جففت دموعها، ودماءها المختلطة بماء ذكري. دخلت استراحة المكتب.
وقفت أمام مرآته. خلعت وشاح رأسها القاتم. أطلقت الحرية لشعرها الطويل الناعم، الذي تسلل في سواده، قليل من البياض. تزينت بمكياج كان سامي يحتفظ به لزائراته.
صاحت في غنج أنثوي. تأوهت. تنهدت. نادت بصوت شبق: "سامي!". نهض. كانت غرفة المكتب التي لا زال يجلس سامي فيها، قد غدت، غيمه قاتمة، خانقة، من دخان السجائر. وقف على باب الاستراحة. هند عارية، تستلقي على بطنها. رفعت رأسها نحوه. توسلت عيناها إلى ذكورته. أرسل قذيفة من بصاقه في الهواء بينهما. أغلق باب الاستراحة بعصبية قرفان، كال أرذل الشتائم، لها وللنساء كافة. غادر مكتبه. صفع الباب الخارجي بعصبية أعنف… مضى...
شردت عيناها في الأفق. سكنتها طمأنينة لم تعرفها منذ فطامها عن الرضاعة. حملتها ملائكة النوم على أجنحة من موسيقى نورانية…
" قفي". قال صوت وقور حنون أيقظها بلطف.
فتحت عينيها. رجل بلحية بيضاء ناعمة طويلة، يقف عاريا عند قدميها. يحملق في تفاصيل أنوثتها. مد يديه. نهضت. احتضنته بعنفوان شهوة منفلتة. ضمها بقوة الرجولة البكر. استسلمت ببهجة طفلة وجدت أمنها الدافئ. لثم فمها إلى أن ذابا معا، في صلاة لم تقرأ عنها في الكتب. استلقى الجسد المتوحد في الحرية، بجوارها. دفنت رأسها في صدره. رقصت أضلاعها على لحنه. لثمت يديه، وعانقته كما تفعل بنت فجعها موت أبيها قبل أن يسترد الحياة من جديد. دفن الأشيب رأسه في عتبة باب المجيء البكر. شفط، بمنخاره العالي، أريج الرب. ضغطت كفاه على نهديها المجدولين بالظمأ المعتّق. أطلقت أنيناً قمعته السنون. صار الأنين صراخاً زلزل الفراش. انتفضت. أفلتت من آخر قيود كانت تحوم في الغرفة. هاجت، مثل ثور في حلبة مصارعة. انقضَّت على الرجل الموغل في الزمن. ضغطت يداها، المتصلبتان على عنقه الطويل. لثمت شفتيه بوحشية الغابة. ارتخت كفّاها. دفنت رأسها في صدره. احتضنته بشوق. جذبته فوقها. نشرت فخذيها. ضغطت جذعه بساعديها. ارتخت. أغلقت عينيها. لثمت فمه. وضعته تحتها. غرست أنيابها في ذكره المرتخي. صرخ. استلقى جوارها. دفن رأسه بين ثدييها. تسللت أصابعه في طراوتها. اهتزت. صرخت. هدأت. لثم الرجل حلمتيها معاً. ضمها بقوة وحنان. تلاشى…
تأخرت هند، عن العودة إلى بيت أسرتها، في الموعد المحدد لذلك. قابلها أبوها، على أول الطريق الضيق، الممتد عشرات الأمتار، المؤدي إلى البيت، باستياء ظاهر: "لن أسمح لك، بالخروج إلى العمل، إذا فعلت ذلك مرة أخرى". قال. كان الليل قد بدأ يلف المخيم الذي تقيم فيه أسرة هند، بالظلام الصامت. قالت، بنبرة خجولة: "اضطررت إلى ذلك، لأسباب تتعلق بـ…". كانت تنوي أن تضيف:"العمل"، ولكنها تلعثمت، وطأطأت رأسها، واندفعت، بشيء من فقدان الوعي، في الممر المترب، الذي تتراصُّ، على حافتيه أبواب متهالكة، يتسلل من شقوقها، أضواء كسولة.
وعندما عاود أبوها التنبيه عليها، وهما في المنزل، أن تحرص على العودة قبل الغروب، ردت بنبرة واثقة: "ماذا يقلقك. أنا تجاوزت الثلاثين". أضافت في سريرتها: "وتجاوزت حدود الخوف".
وسألت أباها: "هل تستطيع، وأنت الحائز على مؤهل جامعي في التاريخ، أن تفسر لي، خروجنا القديم من الجنة؟".
اعتذر إليها، بالقول: "لا ترهقي نفسك بإلقاء أسئلة فارغة من الجدوى". أكمل في ضميره: "منذ سبعة وعشرين عاماً، فقدت رغبتي في الفهم، وفي الحياة برمتها".
لاذت هند بصمت يزلزله الماضي، تساءلت في سريرتها: "لماذا لم أواصل تعليمي؟".
كان الناس، أيام الانتفاضة، لا يغامرون بالسماح لبناتهم، بالخروج من البيوت.
"يجب أن أستأنف دراستي، وأن أحقق حلمي القديم، بالالتحاق بالجامعة، وتعلم الفلسفة". هكذا قررت هند. لكنها استدركت: "جامعات غزة، لا تعلم الفلسفة". وتذكرت، أن مفكراً، قال في ندوة: "الفلسفة علم الحرية". أضافت، وهى تواصل التحدث في سريرتها: "لم نقرر هنا، بعد، أن نبدأ الحرية".
هند، شغوفة بدراسة الفلسفة، وتقرأ كل ما تصل يداها إليه، في هذا المجال. وأمدّها العمل، في مكتب سامي، بفرصة مناسبة، لتغذية توجهها الفلسفي… سامي، هو الآخر، كما أبوه، يهوى مطالعة كتب الفلسفة…
قامت لتنام، في فراش يضم معها، شقيقتها الصغرى، في حجرة، واطية السقف، تنهش الرطوبة جدرانها الخشنة، وتتقافز الفئران، بين محتوياتها الرثة، التي تزاحم، إناث الأسرة، الأم، والشقيقات الأربع، اللواتي ينمن، على أرض شبه عارية، في برد الشتاء الذي لا يسمح للبؤساء، بنوم عمّيق.
في حجرة ثانية، يضاجع الذكور إحباطهم المزمن. وفي الحجرة الثالثة، يعبث وليد جديد، بأحلام الابن الأكبر وزوجته.
"ما أجملها!"؛ همست هند، في أذن شقيقتها، التي كانت تصارع سهادها. "ما هي؟" سألت الشقيقة الصغرى. "الحرية"، أجابت هند، قبل أن تطبع قبلة شهوانية على شفتي شقيقتها، المتكورة في حضن هند.
لم يدم شعور هند بجمالية الحرية، طويلا.. ودون مقدمات، سقط وجدانها إلى قاع حفرة، ظلت فيها، وإلى نهاية ليلتها، فريسة صراع يطحنها بين الرهبة والرغبة. وطاردتها أشباح، تخيفها، وتبهجها، وهي تقذفها، بأجسام لحمية صلبة، لها شكل مئذنة مسجد، كانت تخترقها، وتدميها، وكانت تقبض عليها، بكلتي يدها، وتجمعها في حجرها، وتلهو بها، ثم تقذفها في بحر الظلمات؛ ثم تتمثل لها ساطوراً يهوي على رأس أنثى، حامل؛ وتتمثل نساءً، عاريات، ينطلقن في مرح، ورجالاً يتقاتلون، وطوفاناً يهجم وينحسر عن أرض مزروعة بالورود…
وفي المساحة التي تجمع النوم والصحو معاً، التي فيها، تنفتح مناطق "الأنا والهو والأنا الأعلى" التي ميزها فرويد، تلاطمت في بيداء هند، مشاهد من صخب فوضوي، يرقص على ألحان غجرية، تهتز بها، بنايات غزة الشاهقة، في حلقة جذب صوفي، تشارك فيها، حيتان البحر، وضواري البر والغابة، ورجال تجارة وسياسة، وأطفال وصبايا، ترفرف في سمائهم، طيور تغني، تقفز بين أشجار نبتت قبل البداية الإنسانية والحيوانية أيضا… وسحاب داكن يلف المسرح المتلاطم، ومطر في لون أشعة القمر، ينهمر ويجري أودية… عرائس عاريات يتدافعن في شبق، في طرقات الرجال... النهود ثائرة، والأرداف تغنج، وغلمان يطوفون بأباريق بلِّورية... وأجيج النار يغزو بهجة الحلم…"قومي، تقدمي"؛ شق صوت الرجل ذو اللحية البيضاء، خيال هند…
انفجر، في سكون الليل الضبابي، شخير ذكرى، آت من الحجرة الشرقية في البيت الجاثم في عذاب لا زال يتفاقم، منذ عشرات السنين، بعد أن غادر والد هند، قريته في فلسطين. هبّت الشقيقتان مذعورتين. أنفكَّ التصاقهما اللحمي. وأعادتا ترتيب ملابسهما الداخلية. وطبعت هند، قبلة أم، على شفتي شقيقتها الصغرى. وعادت إلى استلقائها السابق، على ظهرها.
حملقت في السقف القرفان من تاريخه وحاضره. رأت هالة من نور، ترتدي الرجل ذا اللحية البيضاء. هبط. كشف عنها الغطاء. خلعت ملابسها. دثرها الدفء الذكري. تأوهت. همست بصوت سمعته الشقيقة الصغرى: "ما أجمل البياض". واستسلمت إلى لذة النوم، على نغم يردده مؤذنو صلاة الفجر…
استيقظت على سؤال مقلق: "هل بدأتُ مشوار الحمل؟".
وبينما كانت تراقب إبريق الشاي، فوق وابور الكاز الكالح، المشتعل، وبنصف انتباه، كان القلق يواصل اضطهادها:
"هل يعترف سامي بأبوته لطفلي؟ هل هو أبوه، أم أبوه هو الرجل الكبير؛ ذو اللحية البيضاء؟ الرجل الكبير!! هل هو آدميٌّ أم جنيّ؟!".
رقصت في مخيلتها مشاهد رعب، وبهجة، رأت الرجل الكبير مرة أخرى. قالت بصوت أثار استغراب أهل البيت:"إنسان أنت أم…؟". توقفت عن إكمال السؤال. برقت عيناها، قفزت في مخيلتها فكرة رأتها رائعة: "أنا حامل من جني!!". صمتت في وجل. انفجرت منها قهقهة هستيرية، قطعها صوت يرتجف: "أنا…؟؟!! أنا…؟؟!!". أصابتها نوبة بكاء عارمة. هرول أفراد أسرتها نحوها. سقطت على الأرض، أخذتها الغيبوبة… اجتاحها طوفان بحر النور. الرجل الكبير، تراه، يجدّف في بحر بعيد قريب، يدنو منها، يلامس يدها، يلثم فمها وحلمتيها دفعة واحدة. يحملها بين ذراعيه، يطير بها... تململت. ورددت وهي كما لو كانت تعاني سكرة الموت:" ذبحوه..ذبحوه..".. تشنجت...
صرخت أمها في فزع وابتهال: "يا ساتر، يا رب، يا ساتر". فقدت العجوز تماسكها، وقالت وهي تنتحب: "أية عين حاسدة أصابتك؟. توقعتُ أن يحدث لنا مكروه، منذ استيقظت هذا الصباح، لصلاة الفجر؛ رفَّت عيني؛ ونعقت الغربان.. لا، صاحبني القلق منذ أمس.. خمَّنت أن تأخر عودتك، تطوي شرا لنا… يا رب، لا تفضحنا…"…
قال الأب الذي يكبت انفعالاته: "اطردي شيطانك أيتها الخرفانة!".
أشعل شقيق هند المتدين، المذياع، بحث عن إذاعة القرآن، وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقرأ سورتي "الفلق" و"الناس".
قال شقيق لها، تربطه بها علاقة حارة، في لهفة: "سأستدعي جارنا، لينقلها بسيارته إلى المستشفى".
"أسرِع"، صاحت الشقيقة التي تشارك هند الفراش. أضافت: "طوال الليلة الأخيرة، كانت حرارتها مرتفعة، وكان قلبها يدق بسرعة، وكانت زفراتها حارة وتطارد بعضها، وبصوت مسموع".
"يا شيخ بلاش هبل، شو ممكن يعملولها في المستشفى، ويا خوفي، اتروح ضحية الاهمال، زي كتير ماتو، وما حدا بيحاسب حدا"، قالت زوجة الشقيق الأكبر لهند؛ وبنبرة فيها ثقة، أضافت: "الموضوع بسيط يا ناس. راكبها جني. إنشاء الله يكون مسلم، وما يضرها كتير".
قال الشقيق المتدين: "الجني المسلم يتقي الله".
قالت زوجة شقيقها الأكبر: "خلي السيارة تاخذها على الشيخة فاطمة". إيدها فيها البركة. أنا بنت خالتي؛ لَخْبَطُّوني، قصدي بنت خالة جارة ستي، حصل إلها بالزبط، زي هند. خمس دقايق بس، عند الشيخة فاطمة، رجعت البُنيّة عادية. كان راكبها جني مسلم. كان بحبها. وانتو زي إخواتي، كان ينام معها، وحبلت منه. هيك اسمعت".
وفي غضون دقائق قليلة، كان صوت القرآن ، يوحد بيوت مخيم هند، الذي انطلق من أجهزة المذياع. وتناقلت النسوة بينهن: "هجمت الجن علينا". قالت إحداهن بفجور:"بدنا دكوره".
استعادت هند وعيها فجأة. قالت في سريرتها: "حسناً، أبوه جني".
طردت ذيول الخوف. وطمأنت نفسها: ما أظنّ سامي، إلا طبلا أجوف، لا خير فيه لأمرة، ترجو منه حملا! أما العاشق الشيخ فهو روح لا يأتي منها خطر!
لامست أسفل بطنها. وتأهبت للتحدي. غادرت البيت إلى مقر عملها في مكتب سامي…

5
صنعت هند، فنجانين من القهوة، ووقفت، وهى تحملهما، على صينية، أمام سامي، الذي كان قد سبقها إلى المكتب. دفعت بطنها إلى الأمام، وقالت، بمشاعر تحدٍّ مستفزٍّ، ممكيج بمكر أنثوي راغب ومذعور معا، مشيرة بيدها الخالية، بحركة نصف دائرية: "ما هو شعور رجل، ينتظر أن يصبح أباً، للمرة الأولى، بعد تسعة أشهر؟!".
رمقها سامي بغيظ مكتوم. اصطنع ابتسامة، ولم ينطق.
دنت منه. حاولت الجلوس على ركبتيه. دفعها بشراسة. صرخ: "أخرجي أيتها العاهرة".
قالت بهدوء استفزازي: "بعد خروجك أمس، قضيتُ وقتاً مثيراً، مع سيد من سادة الجن الكبار. استمتعت جدا، الجن متحرورون من عُقَد ذكورنا الجنسية. هو توّد الاستمتاع مع جنيّة فاتنة؟ أستطيع أن أرتب لك ذلك، بواسطة صديقي الجني، لن يرد لي طلبا، هو مفتون بي!".
أضافت، بغنج مفتعل: "ألا تود خوض مغامرة عاطفية من نوع مختلف، يا مديري الوسيم، وبعد أن عاشرت بنات غزة كلهن؟!".
" ماذا تقصدين أيتها العابثة؟". سألها بجدية حذرة. ردت وهي تقف خلفه، واضعة كفيها على كتفيه: "أؤكد لك، يا أبا ابننا القادم، أنني مستعدة لأن أفعل ما بوسعي، لدى سيدي، شيخ الجن العظيم، ليهديك إحدى أميرات بلاده. ثق بي، يا مهندس سامي. ممارسة الجنس مع الجن، تمنحك متعة، أستطيع أن أجزم، أنها أجمل مما ستمنحك الحوريات الخمس مائة، الموعود بها في الجنة. هبني قليلا من صبرك. أمس، بعد أن اخترقت خطي الأحمر، خط الذبح، ثم بصقت في وجهي. جاء سيدي الجني، فطهَّرني من قذارتك، وأطلقني في حرية كرامتي الأنثوية"!
"كُفِّي عن هذرك. هل أنت مزروعة هنا لحساب أعدائي؟!". قال.
ردت: " أودُّ لو أنك تتحلى بحسن النية. هدفي إسعادك. ولن تتكلف ثمناً ثقيلاً عليك. المطلوب منك، فقط، أن تضبط انفعالك، عندما أقوم بالبصق عليك. قبل أن أصفع الباب خلفي، وأغادر المكان. سيدي الجنيّ الكبير، أشترط ذلك، لتلبية رجائي إليه، بإهدائك جنية، تكرس حياتها لمنحك لذة أنثوية، لن تجدها في أية امرأة من بني الإنسان. هو الآن معنا، يحرسني من شرورك. كنا أمس، قد تداولنا أمر نزواتك، وقال إنه لن يخيب لي رجاء. تحدثت إليه، فيما أعرضه عليك، لم أستأذنك، هذا صحيح، ربما هذا مفاجئ لك، أنت لم تعتدد عليه مني. أنا الآن. منذ الأمس، لم أعد بحاجة إلى استئذان أحد. أعتقني سيد الجن، ووعدني بأنه سيحمي كرامتي وحريتي. لا تقل إنه يكذب. الجن لا يكذبون مثلنا. هل توافق؟ لا، أنا لست بحاجة لموافقتك. أنا قررت أن أطلب من مليكي الجني الآن، أن يخصص لك جنية تليق بك، أيها المستهتر البشع!".
كظم سامي غيظا مخلوطا بالذعر، يغلي في عروقه. اصطنع الهدوء. أمسك كفييّ هند التي أرختهما فوق صدره. طبع عليهما قبلة زائفة، بعد أن جمعهما معا. وقال بتذلل طفل: "سامحيني يا هند. ما حدث أمس، كان سخيفاً. دعينا نبدأ من جديد. أعاهدك بأنني لن أعود إلى ذلك. أنا لا استغني عن سكرتيرة مثلك. ومنذ اليوم، سيتضاعف مرتبك. هكذا اتفقت مع أبي. وهو يحترم أمانتك وكفاءتك".
ضغط كفيها وأضاف: "أمامنا عمل يحتاج إلى جهود مكثفة. يجب علينا التعاون معاً، للإعداد لاحتفال كبير، سيقام غداً.. هيا". استدار إليها، جذب رأسها. طبع قبلة سريعة على فمها…
وفي غضون ساعات قليلة وبمساعدة سائق، يقود سيارة، من سيارات أبي سامي، وزعت هند مئتي بطاقة دعوة، على مكاتب كبار المسئولين والتجار، والشخصيات الاجتماعية البارزة.
وقبل رجوعها إلى المكتب، ذهبت إلى بيت عائلتها، لتُطَمْئِن أهلها، الذين شيعوها، عند خروجها في الصباح، بالدعوات والقلق. وزفَّت إليهم خبر مضاعفة راتبها. وقالت لأبيها، بعد أن لثمت يده: "سأضطر إلى قضاء وقت أطول في العمل. لا تقلق. امنحني رضاك".
ردَّ أبوها، بانفعال مشوش، ومكبوت: "قلوبنا معك".
عادت بصحبة السائق إلى المكتب، وكان سامي قد أخبرها بأنه لن يعودإليه، قبل الغروب. أغلقت الباب الخارجي بالمزلاج، من الداخل. خلعت هند، والسائق أحذيتهما. ودخلت المطبخ لإعداد فنجانين من القهوة النسكافيه. لحق السائق هند إلى المطبخ. طلب كوباً من الماء. احتك بمؤخرتها، وهي تنحني لإخراج زجاجة من رف سفلي في الثلاجة الكبيرة، التي كانت تعمل بأدنى قوتها التبريدية، والتي يحتفظ فيها سامي بقناني متعددة من المشروبات المختلفة.
استدارت هند نحو السائق. رمقته بنظرة لا مبالية. أمسك يدها التي كانت تمتد إليه بكوب الماء. سحبت يدها، وهى ترمقه بنظرة فيها تحدي الإغراء. سقط الكوب الزجاجي وتهشم. تجرأ السائق وجذبها من ذراعها. تشبثت في المكان المحشور بين فرن الغاز والثلاجة. أمسك رأسها، اغتصب منها قبلة وحشية. دفعته عنها بقوة. فك حزام بنطاله. هربت هند. انطلق وراءها، وهو يكاد يترنَّح تحت ضغط شهوة فتّاكة. تعثر في بنطاله الذي كان قد سقط إلى أسفل ساقيه. صاح وهو يهم بالوقوف: "لماذا أغلقت الباب إذن؟!". سال دم من قدمه الذي انغرست فيه شظية زجاجية. رن جرس الهاتف. أبو سامي، على الطرف الآخر، يطلب ذهاب السائق إليه، في متجره، فوراً.
التفت السائق نحو هند، فيما كان يفتح باب الخروج، وقال بغيظ: "لن تفلتي مني، في مرة قادمة".
شيعته هند بغضب يغلي في عينيها، وقالت، بعد أن صفع الباب وراءه، بعصبية: "ستحرقكم ناري!". عادت إلى المطبخ، تحاشت المرور، بقدميها الحافيتين، من فوق الزجاج المهشم. أكملت صناعة القهوة. دلقت الكنكة في فنجان كبير. وقفت في شرفة المكتب المطلة على الشارع الذي يقع فيه، مبنى المجلس التشريعي، الذي تترامى، أمامه، من الناحية الشرقية، ساحة الجندي المجهول. شردت عيناها في فضاء غزة. انحدرت دموعها… وضعت فنجان القهوة، على حافة الشرفة. كان لا يزال ممتلئاً. دخلت حجرة الاستراحة. حملها النوم الرؤوم بين أجنحته…

6
في وقت مبكر، من صباح اليوم التالي، استيقظت هند، على صوت ابن شقيقها، في الخامسة من عمره: "عمتو، الزلمة عاو زك".
نهضت ملهوفة. استبدلت جلباب الخروج، بجلباب النوم. اندفعت نحو باب بيت عائلتها الخارجي، وهي تعقد طرفي غطاء الرأس حول عنقها. أطلّ سامي بوجه مبتسم، من نافذة سيارته اليمني، قال برقة: "صباح الورد يا ورد". أضاف: "أنا آسف لمجيئي المبكر، ولكنني اضطررت إلى ذلك. أمامنا اليوم مهمة كبيرة، يجب أن تعاونيني لكتابة الخطاب الذي سألقيه في الاحتفال. جئت لأصطحبك معي إلى المكتب، في هذا الوقت، ليكون أمامنا فرصة كافية. ورغبت أن أصطبح بوجهك الجميل، في هذا اليوم المهم بالنسبة لي، ولأبي"؟
ارتبكت هند، وهي تشعر بالخُيلاء، أمام جاراتها، اللواتي وقفن، على عتبات بيوتهن، بعيون مزمومة، يراقبن السيارة الفخمة، المحشورة في زقاق المخيم الجاثم في تأوهات نسوانه، وزفرات الحسرة. تركت هند، باب بيت عائلتها الخارجي، مشرّعاً إلى أقصى مداه. ركبت جوار سامي. وتذكرت، بعد انعطاف السيارة إلى شارع عمر المختار، أنها نسيت حقيبة يدها، وتذكرت أنها، غادرت بيتها دون إخطار أحد من أهلها.
قضت نساء مخيم هند، يومهن، وهن يتساءلن، في خبل وفي خبث: "هل تمنح الجن بركاتها، لمرأة يركبونها؟ هل وقع الشاب الغني الوسيم، في شباك فتاة مخيمهم الفقيرة، والخالية من الجمال؟ وهل.. وهل..؟".
دخلا المكتب عجولين… جلست هند، قبالة جهاز الكمبيوتر. فتحت ملفاً جديداً في برنامجه الطباعي. وقف سامي خلفها. وضع كفيه على كتفيها وهزهما. برفق. زحفت كفاه إلى ثدييها. ضغطهما. لفتت هند رأسها نحوه. كانت عيناه شاردتان. انتبه. طبع قبلة سريعة على شفتيها. قال وهو يكتم تأففه: "أستأذنك لأصنع فنجانين من القهوة".
قالت هند بصوت مرتفع: "ماذا تود أن تقول في خطابك؟".
سامي: "اكتبي: بسم الله الرحمن الرحيم".
هند: "فرغت من ذلك. ماذا بعد؟"
سامي: "أرجوك يا هند، ضعي بين الميم والنون، في كلمة الرحمن حرف ألف. أخاف أن أتلعثم أمام الحاضرين، وأن أنطقها بصورة غير سليمة".
فرقعت حجرة مكتب هند، بقهقهات متواصلة، أفقدتها سيطرتها على حركة أفلتت من أسفلها، بصوت دفع سامي، وهولا يزال في المطبخ، إلى الانخراط في الصخب الضاحك، وضرب كف بكف، ويقول في تقطع: "يومنا ضراط.. ضراط!".
استعاد هواء المكتب هدوءه. قالت هند: "ماذا أكتب؟ الوقت يسرقنا".
سامي: "هل تحفظين شيئاً من القرآن الكريم؟".
هند: "ما أحفظه لا يناسب المقام".
سامي: "لا تُعقِّدي الأمور يا هند. لن يتوقف أحد من الحضور أمام ما سأقوله. نحن لا نفكر فيما نسمع، فضلا عن أننا لا نسمع. قلوبنا وعقولنا مغلقة. نحن لا نرى، لا نسمع، لا نبالي".
هند: "هل أكتب: قل أعوذ برب الفلق؛ أو: قل أعوذ برب الناس..؟‍!".
سامي: "الحفلة ليست لطرد الجني الذي يتلبسك. آسف، سامحيني. أقصد: قد يبتلينا الله بمتطفل من أصحاب العقول. البلد لم يجف منهم تماماً. مازال لدينا بلهاء كثيرون يحلمون بالتصحيح!".
هند: "أقترح عليك أن نستعين بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية؛ فيها كثيرون، كما في كل وزاراتنا، لا يجدون ما يفعلوه!".
سامي: "تذكرت. هاتفي إمام المسجد الذي أنشأه أبي. على الأقل نمنحه فرصة لفعل شئ ما يبدد به ضجره في هذه الساعة من النهار، التي يُطْبِق فيها الصمت على أنفاس بيوت الله".
دخل الإمام، من باب المكتب، برجله الشِمال. استدرك الخطأ. خرج. عاد فدخل برحله اليمين. رمق هند بنظرة، قرأت فيها أغواره المتشظية. قامت لمصافحته. لم يمد نحوها يده. اعتذر إليها بأنه على وضوء. ولكن عينيه، كانت تفضحان رغبة شبقة، تستشعرها الإناث، وتسمعن فحيحها.
قال الإمام، المدعو عبد السميع: "اكتبي يا حرمة: بسم الله الرحمن الرحيم".
هند: "فرغت من ذلك يا سيدي الشيخ".
الإمام: "اكتبي: والحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد...".
"ماذا تشرب يا شيخ عبد السميع، شاياً أم قهوة؟". قال سامي بصوت مرتفع، وهو يجلس في حجرة مكتبه.
"بارك الله فيك يا باش مهندس. أنا صائم". رد عبد السميع.
سامي: "هل دخلنا شهر رمضان من جديد؟ هذا كارثة. سيفشل الحفل!".
ووقف سامي فاغراً فاهه، يقلب نظره، ما بين هند وعبد السميع.
خفت حدة نبرة عبد السميع، وهو يسأل هند: "هل كتبت ما تلوته عليك؟". فتح عينيه بشهوة لم يعد قادرا على مداراة احتراقه بها. حملق في سيقان هند المكشوفتين. تجمّد. قال مغمغما؛ وهو لا يزال يلتهم اللحم الإنثوي المتحدي: "استغفر الله، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
حسرت هند ثوبها، عن مساحة من فخديها. وزعت نظرات شرسة ما بين عبد لسميع وسامي. أغلقت الكمبيوتر، دون أن تحفظ ما دونته. وانتفضت، في نزق. وبرزت في مخيلتها، صورة شقيقتها الكبرى، وهي تصرخ في فزع: "بريئة يا أبي، بريئة".
قال عبد السميع: "أنت مستهترة، ولم يحسن أهلك تربيتك".
ردت هند: "وأنت تحمل لحية، تصلح لتنظيف الشوارع فقط".
غضب عبد السميع، وقال: "هذه المرأة، شؤم عليك وعلى أبيك يا سامي". وخرج، وهو يُزبد.
تبعته هند، إلى باب المصعد، في الطابق ذاته، الكائن فيه مكتب سامي، وقالت، وهى تظهر التراجع عن قسوتها معه: "لماذا لم تفهمني؟ أرجوك، أصفح عني!"
حدّقها بعينين شهوانيتين مغيظتين. وخطر له أن يلثم فمها. وقف المصعد أمامها. دخل إليه. حاول أن يجذبها من ذراعها، قالت بغنج: "أنت صائم، وعلى وضوء أيضا!".

7
تحولت حجرة مكتب سامي، إلى سحابة قاتمة، من دخان سجائره، التي اشتعلت بنار تضطرم داخله: "لماذا تواصل حليمة إذلالي؟!".
رفضت حليمة، توسلات سامي الحارة، لها، لحضور الحفل الذي قرر أبوه إقامته، الذي تقول بطاقة الدعوة إليه، أن مناسبته هي حصول سامي على وظيفة رفيعة المستوى في إحدى دوائر السلطة الوطنية. "هذه إهانة مقصودة منها. وإصرار على التحدي". قال سامي بصوت مسموع، وهند، تحمل إليه فنجان قهوة جديد.
إنتبه إليها، وهي تسعل، وتستدير، للخروج بسرعة من الحجرة الخانقة. سألها بنبرة محبَطة: "هل الخطاب جاهز؟".
أجابت: "كلا. وعليك أن تتدارك الأمر، قبل فوات الأوان. لكن؛ قل لي، هل من المهم أن تلقي خطاباً في الحفل؟ قد يضعك ذلك في موقف حرج، هل تحدثت إلى جمهور من قبل؟ لماذا تريد أن تكشف، علناً، أن الوظيفة المسندة إليك، أكبر من إمكاناتك؟".
أطرق سامي، وهمس بصوت لم تسمعه هند: "مغفّلة!".
تخرّج سامي، منذ وقت قصير، من جامعة، في بلد أجنبي، حصل منها، على إجازة البكالوريوس في الهندسة المدنية. ويعتمد، في تدبير شؤونه، على ثقل أبيه، الذي يتمتع بقدرة فائقة على نسج علاقات، تصب في خدمة أهدافه.
عاد سامي يوجه الكلام إلى هند: "يجب أن يكون الخطاب جاهزاً، قبل مرور نصف ساعة من الآن".
ردت هند وهي ترمقه باستهتار: "ليس عندي ما أستطيع فعله لك". صمتت لحظة. تابعت بدلال: "سامي، هل تجيد الغناء والرقص؟!".
انتفض غاضباً. قذفها بمطفأة السجائر الكبيرة المحشوة بحملها الثقيل.
ضرب سطح المكتب بقبضتيه. زفر. قذف فنجان القهوة، الممتلئ، في الهواء الداكن. تهاوى على الكرسي. أشعل سيجارة جديدة. اقتربت منه هند. حاولت تهدئته. نظر إليها، بعيون يطحنها الأسى، قال: "لماذا ترفض الزنجية القبيحة، توسلاتي إليها، لحضور حفل تتمنى، كل بنات ونساء غزة، حضوره؟".
"هند، اصنعي لي خدمة لن أنساها لك. هاتفيها. حاولي إقناعها بالعدول عن موقفها. إذا أصرت على عدم الحضور، حاولي أن تفهمي منها سبب ذلك. أريد أن اعرف: هل تحتقرني؟!". صمت، انكفأ على مكتبه.
"الطرف الثاني لا يرد". قالت هند، التي تحولت إلى جهة جلوس سامي، وألقت ذراعيها، على كتفيه، بعد أن رفع ظهره، واسنده على ظهر الكرسي.
"حاولي مرة أخري"، قال.
ضغطت على زر الإعادة في جهاز الهاتف. وهمّت بالجلوس على حجره، وهي تثبِّت سماعة الهاتف بين فمها وأذنها.
دفعها للابتعاد عنه، برفق. وسأل: "هل هناك من يرد؟".
أغلقت الهاتف، بحركة متوترة. واندفعت نحو الباب الذي يفصل بين حجرتها وحجرته في المكتب. صرخ بحنق: "اذهبي إلى الجحيم أيتها العاهرة".
"أنا يا سامي؟".
- " نعم؛ أنت. أيتها المقرفة، ووجه الشؤم!".
- "أنت حقير وساقط، تلهث وراء كوشَّية، وعبدة، تأنف الكلاب من النظر إليها".
انفجرت أنوثة هند، المجروحة، في هياج، استنزل فيضان شتائم، انفلت منها؛ حقد مكبوت، ضد الذكورة، وضد المهانة الأنثوية معاً. "أنت شرموط، وكل نسائك، شرموطات، وأمك شرموطة، وأبوك شرموط". قالت في حدِّة. وانهارت على الأرض وهي تبكى.. وتواصل: "تمارس دعارتك على عيني. وتبصق في وجهي، أيها الواطي. كلكم، أيها الرجال، صنف واطٍ، تجرون وراء نساء يحتقرنكم. أنتم حقيرون. وكل امرأة تستسلم لكم حقيرة، وتستاهل ما يلحقها من ذل، منكم. أنت عار، وابن عار أيضاً. منحتك نفسي، فعاملتني مثل قطة جرباء. أستحق ذلك، وأكبر منه أيضا. ولكنني لست سهلة. سأجعلك تندم على يوم مولدك. أيها السافل، أنظر، هنا ابنك". وحسرت جلبابها إلى ما فوق بطنها، مع إشارة من يدها تعني أنها حامل. في قرارة نفسها، تعرف هند أنها لا تملك دليلا على حملها، لكنها تتسلح بهذه الدعوى. قد تتحق، هذا ما ترغبه!
وقفت. بصقت في اتجاهه، وقالت بقرف: "عليك وعلى العالم كله". اندفعت نحو الباب الخارجي للمكتب. فتحته. استدارت، وقالت بصوت مُلحَّن: "سامي.. تلحس طيزي". صفعت الباب بقوة. مسحت دموعها، واستدعت المصعد. دخلته وهي تقول بصوت مسموع: "قريباً، ستدفع أيها المغرور، التافه، ثمناً باهظاً".
أغلق سامي باب المكتب الخارجي، من الداخل، بالمزلاج. فصل الهاتف. وأغلق جهازه الخلوي. ارتمى في فراش مكتبه، غرق في سبات أسود. صحا، بعد أن كان الحفل قد ابتدأ منذ ساعتين. وقبل أن ينهض، قال في سريرته: "ترى، هل أجدها هناك؟".
وتذكر ما كان يردده، باختيال، أمام أقرانه: "شباب ومال وكلام معسول يساوي: متهافتات أكثر من شعر الرأس"!

8
وفي الصالة، الفخمة، الواسعة، التي أقيم فيها الحفل، كان أبو سامي يغلي: "مستهتر. مازال طفلاً. كيف أفسِّر للحاضرين غيابه؟ كيف أخرج من هذا الحرج؟". قال، وهو يطلب من مساعديه، للمرة العشرين، تجديد محاولاتهم للاتصال بسامي، والبحث عنه، في كل مكان، من المحتمل أن يكون فيه. "غيابه يدمر خطتي". أضاف، بغيظ مكتوم.
إقتربت منه هند، إلى أن أن كاد جسدها يلامس كرشه. وقالت بصوت هامس، فيه نعومة أنثوية، ترقص لها قلوب الرجال، والابتسامة العذبة، تضئ وجهها، الذي يختبئ تحت طبقة سميكة من الأصباغ: "الهمّ يجعلك في عيون النساء، عجوزاً ناضب الرحيق. حافظ على اتزانك. واستعد بهجتك التي تعرفها عنك نسوة غزة. المرأة لا تحب الرجل العابس. الابتسامة هي أقصر الطرق لولوج عالم حواء. هيا.. هيا، أطرد القلق. أنت نجم الحفل، وليس سامي. وثق يا عمّي، أن أحداً من الحاضرين، لا يبالي، ولا يشعر بغيابه". نظر إلى عينيها. وجال في خاطره، شئ ما..
وبرشاقة، سحبت مقعداً، ودعت، بحنان، والد سامي، للجلوس. قال بهدوء جريح: "اسحبي مقعداً آخر، واجلسي جواري". وكاد أن يحتضن رأسها على صدره…
هند: "لماذا لا تشرفنا بالزيارة في مكتب سامي، إنه قريب من متجرك. وجميل لو أنك قضيت معنا، استراحة الظهيرة". سبّلت عيونها، ثم قالت: "هل تقبل دعوتي لتناول طعام الغداء، معاً، في مكتب سامي، غداً؟ صحيح أن إمكاناتي المالية متواضعة، ولكن السعادة ستغمرني". نظرت إليه، بتودد. وأضافت: "أرجوك، لا تحرمني من هذا الشرف!".
"هيا، ابتهج؛ تُرى، من تلك المرأة الأربعينية، الممتلئة، القصيرة، التي لم تنفك عيناها عن متابعتك؟!".
أبو سامي، يلوذ بالصمت! وهند، تكاد أن تلتصق به. والمرأة الأربعينية، تقوم، تتجه بخطوات وئيدة، نحوهما، وهي تغوص في ذاكرتها، إلى ما قبل عشرين عاماً، تقف أمام أبي سامي. تلامس ساقاها، ركبتيه. ينتبه إليها. يرتبك. يقف. يصافحها دون حرارة. يمتقع وجه هند. تحدّج المرأة الأربعينية بنظرة ارتياب. تتصنع الود. تقف. تُقبّلها. وتدعوها للجلوس إلى جانبها، غير الملاصق لمقعد أبي سامي.
همست المرأة الأربعينية، تخاطب هند: "منذ متى تزوجتما؟".
راوغت هند في كلامها. سألت المرأة الأربعينية: "هل تعتقدين أن زواج المرأة، خير لها من العنوسة؟!".
تنهدت المرأة الأربعينية. قالت: "ليس كل عنوسة!". أخرجت بطاقة، تحمل إسمها، وعنوانها، ورقم الهاتف. وأضافت إليها، رقماً آخر، وهى تحاول إخفاء ذلك عن هند. قامت. ودست البطاقة في جيب معطف أبي سامي. قالت: "أشكرك، على أنك كنت دائماً مصدرا لكل…"، توقفت. أومأت إليه برأسها. تجاهلت وجود هند. وغادرت صالة الحفل.
شب حريق في رأس هند. كتمت غيظها. قالت في سريرتها: "قريباً، أيها العرص الكبير، سيجيء لك، ولابنك، دمار يسحقكما".
ضجّ هواء الصالة، بعبق البهجة. الأطفال يرقصون على ألحان أغنية للحب. والطرب يعبث بالصبايا. يقهقهن، تتقدم بعضهن، بثياب مشدودة على صدور شقت نصف الطريق إلى النضوج الأنثوي، يتخايلن في مشيتهن، فيما هنّ ذوات قدود لدنة، لا يخفى من تفاصيلهن خافية. يلتففن في شبه دائرة، حول أبي سامي، السارح النظرات: "عمّو، بِنْحب نِرْؤُس معاك"، قالت إحداهن بدلال، وهي تمسك يده وتشدّه بِرقّة.. قبل أن تندفع زميلاتها، فيدفعنه، إلى الحلبة التي كانت تموج بالحضور النشوان..
حاول أبو سامي التفلت من أيادي الصبايا الضاحكات. استنجدت عيناه، بهند.. لكنها قالت: "لا تجرح خاطر البنات. شاركهن فرحتهن. هذا ليس عيباً". ونزعت عنها غطاء الرأس، الذي كان شيئاً ناشزاً في معرض تصفيف الشعر، النسائي، اللواتي رسمت الحاضرات صورته، وطوقت به، ردفي أبي سامي، وصاحت، بانطلاق مبتهج، ومعها البنات، في الصالة، كلهن: " سأْفه يا شباب".
في برهة قصيرة، أدرك أبو سامي، أن الرقص وسيلة روحية ناجعة، لتبديد حالة سوداوية، كانت تنهشه. ولكنه اكتشف، فيما بعد، أنه بحاجة إلى تجربة أعمق..
تراخى حماس هند، وتوقفت عن التصفيق، فيما كانت تقول في سريرتها: "غداً موعدنا، وسأجعل أنفك، وأنف ابنك، النتنين، تحت حذائي".
اندمج أبو سامي بالرقص. كان يهرب من ذاته. استغرق في حركات عنيفة، لم تكن تنسجم مع ألحان الأغنية التي تصدح في فضاء الصالة. ودار حول نفسه، حتى فقد توازنه. سقط. حاول القيام. خانته قواه. صمت كل شئ. تقدمت هند نحوه. ساعدته على الوقوف. وضعت ذراعه حول كتفها. أخذته نحو ركن منزو في الصالة. جلست إلى جواره، على أريكة مزدوجة. ألقى برأسه إلى الوراء. أغمض غينيه. تدحرجت دموعه بين ثنايا وجهه المقبوض. ألقى رأسه على صدرها. رفعه. برقّة، أحاط كتفيها بذراعيه. توسل إليها: "امنحيني قبلة". تصنّعت الحياء: "الصبر جميل"، قالت. "رافقيني إلى البيت"، قال. "الصبر جميل"، قالت مرة أخرى، وهي تحاول الإفلات من قبضة ذراعيه، التي كانت قد اشتدت حولها.
إنفضّ الحفل. وغادر الحاضرون، دون أن يعبأ أحد، بأبي سامي، الذي أخذ يحدِّج ، في ظهورهم، وهو لا يزال في ركنه المنزوي، الذي ظل فيه، ما يزيد عن ساعة، قبل أن يتجه إلى شقة سماح.
حضر سامي، فيما كان الحاضرون يغادرون القاعة. لم يبال به أحد.
طلبت هند، من سامي، أن يحملها، بسيارته، إلى منزل عائلتها، بعد أن قالت له، بعتاب، إنه استفزها، وفقدت سيطرتها، مما اضطرها، إلى ما صدر عنها، بحقه، في النهار الأخير. حدّقت في عينيه، وهمست بتودد يفوح منه نفاقها: "لا تجرح كرامتي مرة اخرى". ولكن، ظلت عيناه، متحجرتين، في رأس مشروخ بين الغيظ والقنوط. وفي السيارة، وضعت كفها اليسرى، على فخذه الأيمن. ثم مالت نحوه. حضنت كفه اليمنى بين راحتيها. رفعتها. طبعت قبلة سريعة زائفة على ظهرها. وضعتها على بطنها السفلي. ضغطتها برقة. جذب سامي يده بحدة. وصلا بيت عائلتها. العتمة عباءة ثقيلة ترتدي مخيمها؛ همست، بنعومة وبتلذذ وتدلل وتذلل تجيده الإناث:"سامي، أنا طوع بنانك. إفعل بي ما شئت. سأقضي ما بقى من هذه الليلة، بالابتهال إلى الله، أن يمنحك السعادة. تصبح على خير".
كانت هند، قد تحدثت إلى جسد ميت الروح، أصم، وأخرس.
غابت السيارة في أزقّة المخيم الضيقة، المظلمة. تسمرت على عتبة منزل أهلها. تساءلت: "ترى، هل ناموا؛ أم، هم يتصنّعون النوم، هروبا من مواجهة هند الجديدة؟!".

9
اتجه سامي إلى مكتبه, كانت سماح تنتظره فيه. حمل معه مقداراً كبيراً من الخمور، والسجائر. خلع ملابسه واستلقى إلى جوار سماح، التي كانت تجلس القرفصاء، وهي عارية، على الفراش، الذي شعر سامي، أنه أرجوحة عادت به، إلى هيولي الوجود الأولى.
هواء الحجرة دافئ مخمور، تتلوى فيه أعمدة الدخان. استلقى سامي على ظهره. عيناه غائمتان. قلبه ينتحب. يدلق بين الحين والحين، جرعة خمر في جوف يحترق.
تحملق سماح في اللاشئ. وتلوذ بالصمت. وسامي يهذي، بنبرات تعلو وتهبط.. "تحتقرني! أستحق ذلك. الرجل الذي يلهث وراء مؤخرة قبيحة يستحق الاحتقار. لكن، لماذا تصر على إذلالي وامتهان رجولتي؟ فسِّري لي يا سماح، لماذا تجلس أمامي عارية، تتحدى ذكورتي، وترفض محاولاتي للاقتراب منها؟ العبدة! التي لا تزال ترضخ لأخلاق العبيد! هذا فظيع! تجمعنا شقتك معاً، أنا وهي، منفردين، ولكنها تتجاهل وجودي. هذا انتقام العبيد من السادة. تذبحني. شاب غني، مثلي، ووسيم، وذو مركز اجتماعي، ويحب الحياة، وتطارده اجمل البنات والنساء، لم يذق طعم الهزيمة، لا يكبو لنزواته فرس؛ تطرحه حليمة على قفاه! أنت أختي، سماح، هل يرضيك أن تواصل ازدراءها لي؟! هل أنا أجْرب، وهي وحدها التي تعاف اقترابي منها؟! أريحيني، أتوسل إليك؛ هل ترتبط مع رجال آخرين بعلاقات عاطفية، تُشبع رغباتها؟! هل تحب رجلاً ما، وهى مخلصة له وحده؟ هل هي بلهاء، هل الحب له معنى إذا لم يعلمنا أن نحب بقلب يسع الجميع؟! هل تكرهني حليمة، هل تتقزز من رائحتي، أم من لوني؟ هل تتقزز السوداوات من البيض؟! هل تشك في قدراتي الجنسية؟! هل تحدثتما معاً عن فحولتي؟! لماذا يا سماح، تتهاوى البنات والنساء تحت أقدامي؛ وحليمة، وحدها، تحرقني بنار اشتهائي لها؟! رباه، لماذا اشتهيها؟! هل أنا ضحية العداوة القديمة بين سود أفريقيا، والمستعمرين البيض؟ هل هي تخوض حرباً ضدي، نيابة عن تاريخ العبودية القديم، والمتصل؟! هل تخوض حربها ضدي، نيابة عن المرأة المقهورة؟! هل يحق للمقهور أن يقهر غيره؟! هل تنتقم مني، نيابة عن بؤساء الأرض؟! ماذا أنا؟! ضال بائس، يبحث عن أمنه، على صدر امرأة، وبين فخذيها!! حليمة، أيتها المجرمة، لا تحاولي أن تمنحي نفسك قيمة، في وجودٍ لا قيمة له. أيتها التافهة، جعلتِ من سامي، المتهتك، المستهتر، فليسوفاً. هل أنا ماجن؟! ماذا يكون الفيلسوف إذن؟! العالم ضحل، وغابة، وأنت أيتها العاهرة القبيحة، وحش يفترس الضالين مثلي! ما أغباني! ماذا تختلف هذه الكتلة من الشحم واللحم، عن غيرها؟! هل يفرز فرجها عطراً؟! فروج النساء كلها تفرز روائحها الكريهة. أف. كل النساء كريهات. فروجهن مقززة. وشريرات. ما أغبى أولئك الذين يعتقدون أن العالم سيكون اجمل لو حكمته النساء! العالم قبيح، من أوله إلى آخره. والنساء أقبح ما فيه. لماذا تركتني أمي؟ هل يحق لها أن تفعل ذلك، لأن أبي رجل يسعى وراء إشباع شهواته؟! هل أبي مخطئ؟! كلا، هذا العالم غابة. والنساء فيها تريد أن تمتلك رقاب الرجال، وتصادر حريّاتهم! قاسيات القلوب. هل الحب هو أن نصادر حرية من نحب؟! الحب شهوة، أنا أشتهيك أيتها العاهرة؟ كلا، لستِ عاهرة! العاهرات هنّ أشرف أهل الأرض! ليتك كنت عاهرة، سيكون قلبك مملوءا بالرحمة! العاهرة وردة الله في مز بلته. حليمة من مز بلته! حليمة شوكة في حلقي. القميئة تتحداني! كيف أقهرها؟! إنها تدفعني إلى الهاوية! يملؤني إحباط غليظ ومعتم. العالم أسود. أنا ابن رجل لا يوليه الناس احترامهم. يستقبله كثيرون بابتسامات زائفة، لكنهم يلعنونه، بعد أن يقضوا حاجاتهم منه، أعيش أنا وهو في عالم يمجّنا. هل تمجّني حليمة بسبب أبي؟! سماح، هل تحتقر حليمة أبى؟ هل تعرف أن أبي، تحوّل إلى قواد وعمّيل للاحتلال الإسرائيلي، بعد أن كان يعمل ماسح أحذية في مستهل حياته؟! لو حدث ذلك، فستقع كارثة. حليمة تمتلك من الجرأة، ما يكفي لفضح تاريخ الإنسانية بكامله! الفتاة التي تقابل الرجال، وتجلس إلى جوارهم، وهى عارية، ومتمنّعة عليهم، بطهارة قديسات، تستطيع أن تمزق وجه الكذب الذي يرتديه التاريخ كله، والذي يرتديه أبي. ستدفعنا حليمة، إلى عراء يكشف حقيقتنا. هل تحدثتْ معك حول ذلك؟! هذا يصيبك بطعنة في القلب أنت أيضاً يا سماح..."..
صمت سامي. انقلب على جنبه. سماح تستلقي على بطنها. وجه سامي نحو الحائط. يحملق في المدفأة الكهربائية الضخمة، التي تعزل الحجرة عن البرد القارس في الشتاء المقحل. يتحدث سامي في سريرته:
"أنا شتاء قاحل أيضاً. تُرى، هل تعرف حليمة أن سماح أختي من أبي، وأن أبي ذبح أمها، بتواطؤ مع الخادمة، التي قبلت أن تجهض حملها، من أبي مقابل مقدار كبير من المال… أمّ سماح رفضت أن تخون الله. الذبح للشرفاء. ما أغباها! الخادمة، تنافس الآن أبي في السوق. كيف علمت بأمر الحفلة؟! أنا نسيت أن أدعوها! إني اشتهيها! لكن، هل تطفئ أربعينية، ممتلئة، نار جهنم السوداء التي توقدها حليمة في أحشائي؟! هل تطرد امرأة خانت أمومتها، جنوني الذي يتحداني للإبحار في نكهة أفريقية تشتعل ببراءة الأنوثة؟!".
بقرف، قذف سامي منفضة السجائر المثقلة بحملها، إلى ما فوق طاقتها. سعل. دلق جرعة صغيرة من الخمر في حلقه. انقلب نحو سماح، قال بهمس مجروح: "هل ترغبين في العودة إلى شقتك؟ الساعة الآن الثالثة صباحاً".
قال، بعد وجوم، بينما سماح لا تزال تستلقي على بطنها: "ولكني أخاف أن تتركيني!".
انقلبت سماح، دفن سامي رأسه في صدرها. تمتم: "لماذا تركتني أمي فريسة الضياع؟!".
رفع رأسه وصوته معاً، قال: "الرجل يبحث عن أمه، في كل النساء". أضاف في سريرته: "حتى في أخته!".
"سماح، دعيني أغرق في ماء شهوتي. هلمي نسقي حياة تنمو في أحشائك". أضاف بقنوط: "أمّا في صدري المتعفن، فإن الحياة تذوي".
"سماح، هل لا يزال إيمانك بالله راسخاً؟!"، سأل كما لو كان غريقاً. تابع: "لماذا نحمل أوزار شهوة أبينا آدم وأمنا حواء؟ أخبريني، هل تزوج النبي من امرأة زنجية؟! هل قرأت في الصحف عن نبي جديد يدعو الناس إلى الدفاع عن حقهم في البهجة؟! مجنون!! قالت صديقات لي، زعمن أنهن إلتقين به، إنه مجنون، ولكنه يزعم أنه أمتلك جوهرة الحكمة. نحن أمة تؤمن بالموت، لا بالحب والحرية. قولي لي: هل تعلمتِ في الجامعة، أن الجنون شرط ضروري لكل نبي؟! لماذا لا تجيبيني؟! هل تملّكتك روح حليمة، هل غدوتِ تحتقرينني مثلها؟! دعيني أفرغ سمومي في بئرك. لماذا لا تزالين تلوذين بالصمت، منذ كنت في الحفلة، رغم أنك ثرثارة ورعناء؟! هل ألجمك غياب حليمة؟! من أين جاءنا هذا البلاء المسمّى حليمة؟! أبي هو المسئول. ما أغباه! هل نال منها شئ؟! هل تحتقره أيضاً كما تحتقرني؟!. أتوسل إليك، هل تعرفين لماذا تحتقرني؟! أصارحك، وأنا أستطيع الآن أن امتلك القدرة على المصارحة، الناس وهم عراة، أقرب للصدق، الرجل وهو في محراب مرأة، يجب أن يكون قديساً؛ أنا وأبي جديرون باحتقار حليمة لنا. سماح؛ سماح يبدو أنني غدوت نبياً، إذا كان النبي هو المجنون، فأنا أستطيع الآن أن أعلن أنني نبي. حليمة جعلت مني نبياً يطرح عنه أكاذيبه، وأكاذيب أبيه. هل قرأتِ أن الله أرسل نبية زنجية؟! دعيني أضاجعك! لماذا تهربين من تلبية طلبي في هذه اللحظة التي فيها تطحن المنون كل شيء؟! أنا أعوم على ظهر موج، يتقاذفني رعب قاهر. خذي بيدي، امنحيني نفسك في هذا الليل الموحش. هل أصبحت مثيراً لاشمئزازك؟! لا تخافي مني. لماذا تنكمشين على نفسك؟! أنا لا أهذر. أنا نبي سكران. وهذا وجهك هالة من نور. جلدك أسود، لكن قلبك أبيض. هل قرأتِ قصيدة يتغني بها مجنون بقلب أنثوي أفريقي أبيض؟! هل قرأت الكتاب الليبي الأخضر؟! زعيم الجماهيرية العظمى يتنبأ فيه، بأن المستقبل لأفريقيا؟! قيل عنه إنه مجنون. يجب أن يكون كذلك! الحالم مجنون. سأبقى أحلم بها. أرجوك، قولي لها إنني لست بشعاً إلى درجة ميئوس منها. تحت وقاحتي، لا يزال نهر الفطرة الجميل البريء يتدفق! أليس كذلك أيها الجنين المتوّج ملكاً في أحشائك يا هذا الجسد العاري، الناضج بالشهوة، في هذا الليل العقيم، أيها الجسد الملاصق لي، البعيد عني، كما حليمة؟!! أيها المجدول من شوق الإنسان القديم المتجدد، حليمة جعلتني حكيماً يطرح أسئلة كبرى. أشكرها، والمجد لها نجمة عتمتنا السحيقة. سماح؛ هل من يطرح الأسئلة الكبرى، يكون فارغاً؟! هل أمسكتُ بالحقيقة؟ هل ثمّة حقيقة؟ هل حدثتك حليمة عن وجود حقيقة في بلاد أجدادها؟!".
هوى في غفوة قلقة. فاق بعد ساعة. أشعل سيجارة. شفط نفساً عمّيقاً. جلس قريباً من سماح، التي كانت تركت مكانها في الفراش، وتربعت قبالة المدفأة. دنا منها أكثر. رمى ذراعه على كتفها. قال بهمس، وعيناه تحدقان إلى الأسفل: "طافت بي رؤى المنام، بين صحارى أفريقيا، وغاباتها". كانت عينا سماح، شاردتين مع ذبابتين تتسافدان. تساءلت في سريرتها: "هل هذا هو موسم تكاثر الذباب؟". تابعت: "هل للذباب مواسم للحب؟!". صمتت. شق طنين الذبابتين هدوء الليل العمّيق. تمتم سامي: "هباء تنفثه طاحونة الكذب الكبرى". أضاءت ذاكرة سماح، مقولة يرددها أستاذ لها:" بهجة الحب إرادة لا تقهرها القيود المرسومة أو المفروضة".
أطفأ سامي سيجارته. تمدد في الفراش. دفن رأسه تحت الوسادة. تنهد بوجع. قال: "ما أتفهنا!". جلس. خاطب سماح: "أنا أهْوَن من ذبابة". تنهدت سماح. قالت بحسرة أنثوية مطعونة: "كلنا!". اندسّا تحت الغطاء. وجدّفا، كل في بحر نومه.

10
تكوّم أبو سامي، على أريكة، منزوية، في الصالة التي شهدت إقامة الحفل. كان وحيداً. يحملق في الهواء. سحبته إغفاءة، أعلن عنها، شخير مكبوت وخشن دفع مساعدا له كان يجلس بعيداً عنه، إلى أن يخفّ إليه، ويقترح عليه الخروج، إلى مكان يرغب بالذهاب إليه.
دق أبو سامي جرس باب شقة سماح وهو نصف متهالك تحت هموم قفزت، مثل بركان، في صدره، أفقدته تماسكه المعهود.
تلكأت حليمة قبل أن تفتح الباب. وكانت منهمكة في مذاكرة دروسها. "من تُراه يكون الذي جاء إلينا في هذه الساعة المتأخرة من ليل غزة الشتوي الذي يطوي الناس هنا، مبكراً؟!". تساءلت. وفي العادة، لا يأتي زائر في مثل هذا الوقت، إلى شقة سماح، غير سامي وأبيه. وكلاهما؛ خاصة في مثل هذا الوقت، يدخلان دون حاجة إلى دق جرس الباب.فهما يحتفظان بمفاتيح خاصة بهما، باعتبارهما "أصحاب بيت".
تحت إلحاح رنين الجرس المتواصل، قامت حليمة لفتح الباب، الذي كان أبو سامي يتكئ عليه برأسه، وإحدى يديه. دخل يترنح، كان لا يزال مخمورا. كانت حليمة، مثل عادتها، عارية، ومضرجة بإغراء أفريقي لا يقوى على مقاومته رجل في الأرض.
رمى أبو سامي شيخوخته المتداعية على كتف حليمة، المكتنز بأنوثة بضّة لها رائحة عشب بري، معجون بنكهة مرأة، تغلى في كيان، تتصارع في حلبته، رغبة شبقة، وإرادة زهد، صوفيتان، في هدوء، يتراقص على موسيقى أمواج، تنتحر، على شاطئ بحر عزة، الجاثم في ظلام يغتاله احتلال عنصري حجري، وجهل وطني حجري مثله، قريباً من المبنى الذي يملكه أبو سامي، الذي تقيم فيه حليمة مع سماح.
ساعدت حليمة، أبا سامي، حتى بلغا الأريكة الكبيرة، التي تحتل الصدارة في صالة الشقة الواسعة، والسابحة في حرارة تشعها مدافئ كهربائية، أسقطت من حساباتها، التفكير في الفواتير الثقيلة التي يجب تسديدها، لسلطة الطاقة.
حاولت حليمة، التخلص من ذراع أبي سامي، التي شددت حصارها حول عنقها، الناهض من جذوره، الضاربة في نهدين، ممتلئين، كأنهما، مؤهلان لإرواء عطش أهالي المعمورة مجتمعين. لفت ذراع أبو سامي الأخرى، فخذي حليمة وجذبها بعنفوان شاب يحترق باشتهاء امرأة يعذِّبه إغراؤها له، وتمنُّعها عليه. دفن وجهه في طراوة ثنيات زاوية بطنها مع فخذين مضمومين، تنفلت منهما ، رائحة رحم أم، يهب الحياة لقانط، يخال انه على أعتاب قبره.
قال بصوت مخنوق: "أرجوك، خذيني إلى الفراش". ورفع نحوها عينين فيهما توسلات طفل فقد أهله في لجة تترامى إلى بدايات الخليقة.
جذبها إلى جوراه، فوق فراش سماح. قال بتضرع ذبيح: "ارحميني!". ردت بحنان تدفق من عينيها: "أنا ابنتك!". تحدّرت دموعهما معاً، استأذنته لإعداد فنجانين من قهوة النسكافيه، الممزوجة بالحليب، التي يحب أن يشربها، خاصة، من يدها. جذب رأسها برقة. طبع قبلة شفافة على جبهتها. ردّت عليها بقبلتين شغوفتين، على خديه.
وهي تتجه نحو المطبخ، تعلقت عينا أبي سامي برجرجة ردفيها، المندفعين خلفها، مثل قبة مشقوقة، تعلن تمردها على تاريخ يقمع حرية الإنسان. جمعت شهوة أبي سامي، بقاياها، ومن جديد، فار دمه، وحدثته نفسه أن يلحق بها، وان يباغتها بهجوم من الخلف. لكنه تردد، لظنه أنه لم يكن مع حليمة وحدهما. كان يعتقد أن سماح موجودة في الشقة. ويكره أن يكشف أمام سماح، ضعفه نحو النساء. هو رجل شرقي، تطحنه الرغبة في المرأة، وتطحنه في الوقت ذاته، رغبته في بقاء صورته، كرجل محترم اجتماعياً، خاصة في نظر ذويه، ومنهم سماح، التي لا يستطيع، بينه وبين نفسه، أن يتجاهل أنها ابنته من صلبه. وهو، أيضاً، لا يريد أن يجرح مشاعر سماح الأنثوية، بخيانتها مع صديقتها. "لكن حليمة مرأة مختلفة"، قال لنفسه التي تتحرق باشتهائها.
عادت حليمة بالقهوة، ونهداها يتنافسان في صب البنزين على نار أبي سامي التي تفاقمت، في اللحظة التي دنت فيها حليمة منه، فمدّ نحوها يديه، وضغط برقة على نهديها، ثم ضغطهما بعنف، بعد لحظات من الشرود، أيقظ في ذاكرته، حادث طلاق أمه، الذي عرف أنه تم وعمره عام واحد، والذي نجم عنه، قهره على فطام قسري عن صدرها. أرخى قبضته الثقيلة على نهدي حليمة، التي كانت تحدق إليه، بعيون أمومة مبتهجة، وقال بنبرة معجونة من حزن قديم: "نزعني أبي عن صدر أمي، الذي كنت أرضعه، وأنا بين الصحو والنوم. كان في نوبة من غضب شرس، ولسبب تافه، نشبت نار حقد جاهل، ألقى أبي في أتونها، يمين الطلاق على أمي".
وقف أبو سامي، وحضن حليمة بأبوّة، وألقى رأسه على كتفها، وهمس: "تراجع أبي فيما بعد وأصلح علاقته مع أمي، لكن ذلك لم يدمل جرحي النازف، ولم يخلصّني من تلك التجربة القاسية، التي استفحلت، من بدايتها، عندما رماني أبي، في لحظة انتزع الشيطان فيها، الرحمة من قلبه، في قاع حجرة بائسة، وباردة، زلزلها بكائي المفجوع، والمتواصل".
نهضت من ذاكرة حليمة، على التو، نظرية نفسية، تتحدث عن أن تجربة الفطام، القسرية، والتي يتم فيها، تنفير الطفل من ثديي أمه، وحليبها، مسئولة عن مشاكل نفسية، يعاني منها الكبار، ويقعون ضحايا لها، مثلما يقعون ضحايا تجربة انفصال الطفل عن أمه عند ولادته، التي تنعكس عليه، في مظاهر تتمركز في شعور فقدان الأمن، الذي كان يعيشه في الرحم، أو على صدر الأمومة. ومن مطالعاتها، تعرف أن المعالجين النفسيين الروحيين، يبحثون عن جذور مشكلات المرضى النفسانيين، في مرحلة حملهم، وفي كيفية العلاقة بين الأم، وبين ذاتها، أو بينها وبين البيئة الاجتماعية أو الطبيعة، من حولها. قال لها أحدهم: "إن لحظة جماع الرجل مع المرأة، والتي ينتج عنها حمل، هي لحظة حاسمة بالنسبة للشخص الذي يبدأ في التكون منها. وتُلوّن، المشاعر التي تكتنف، المشاركين في علاقة جنسية، مستقبل وليدهما، بصورة مماثلة، لما عايشاه، من أحاسيس، في لحظة تكوينه الأولى، التي تبدأ، مع لحظة الذروة". أضاف: "الذروة التي تتم في وقت واحد، لدى الشريكين، اللذين يصلان إليها، وهما في حالة البهجة؛ تؤسس لبناء إنسان، منسجم، مع ذاته، ومع عالمه الخارجي، ومبتهج، خاصة إذا تم دعم ذلك، بتفادي تعريض الرضيع لتجربة الفطام القسري، أو التنفيري".
كانت حليمة تتذكر ذلك، فيما كان أبو سامي، يتذكر انه وافق بسرعة، وبحماس، على إقامة حليمة مع سماح، لوقوعه الفجائي، في دائرة جاذبية صدر حليمة، له، التي تمازجت فيها، شهوته إلى الأم، وشهوته إلى المرأة الشريكة الجنسية. ويجول الآن في خاطره تساؤل: "هل تنفصل المرأة الأم، عن المرأة شريكة المضاجعة، أو عن المرأة الإبنة أو الأخت، لدى الرجل؟!".
كاد أن يُلقي تساؤله على حليمة، التي لا تزال واقفة، وديعة، بين ذراعيه الملتفتين، بحنان، حول جذعها. قال لنفسه: "تؤهلها دراستها الجامعية للإجابة عن ذلك. وهي تمتلك أيضاً، إطّلاعاً كافياً، على النظريات المتعلقة بالجوانب العمّيقة في الإنسان، ثم، وهذا هو الأهم، فإنها تمتلك قوة فائقة، على التحرر من القيود الاجتماعية التي تصادر حرية الروح الثقافية والسلوكية". ولكن، خانته الشجاعة الخجولة، ووأد تساؤله في رأسه.
جلسا في الفراش، يحتسيان القهوة، في صمت تعبث به، خواطر متناقضة، تتصارع في رأس أبي سامي…"تبدو شفتاك، كقطعتين من شيكولاتة أنتجها مصنع رباني"؛ قال بعد تردد. ثم حضن كفها براحتيه، وسرحت عوالجه، بغير هدى. وبحركة لا توجهها الإرادة، إنحنى، ولثم ظهر كفها، بشفتين مرتجفتين، وظل يلثمها. كان في غيبوبة شفافة، حملته فوق أرجوحة زمان مضطرب…
"لماذا لم تعد سماح معك يا عمّي؟". قطعت حليمة صمت الليل، بهذا السؤال البريء، والذي أطلق في صدره، عاطفته من عقالها. تساءل، في سريرته، على عجل: "لماذا انفجر شجنه الكظيم، بنبرات صوت أمومي، حنون، يسأله، عن بنت ضائعة في غياهب جريمة اقترفها"… جذبها من ذراعيها، بغلظة، قذف رأسه فوق ثديها، لثمة بأسنانه. صاحت بألم. تخلصت منه بمشقة. غادرت الحجرة. دفن رأسه في الوسادة… وأجهش ببكاء مكتوم، ثم نهض، أشعل سيجارة، وجلس القرفصاء، وألقى رأسه على ركبتيه، بعد أن أطفأ سيجارته التي لم يكن قد بدأ يدخنها. وطارده سؤال: "لماذا غاب جميع المدعوين الكبار عن الحفل؟!" وتوزعته الظنون: "ضاعت مني فرصة ثمينة. كان يمكنني أن أحقق ضربة عمري. فسدت الخطة؛ هل يعود ذلك إلى مؤامرة ضدي؟ من تُرى يقف وراءها؟ أعدائي كثيرون. والسوق غابة ذئاب. وأنا متورط بعلاقات مشبوهة. هل كان الحفل معركة تسوية حسابات؟ هل وقع خطأ فني، حال دون حضور المدعوِّين الحقيقيين؟ لم تقع عيناي على أحد من المدعوين الذين أعددت كشوفا بأسمائهم بنفسي. أنا أعرف أنه لا أحد، من معارفي، ولا من أقاربي، ولا من المشتغلين بالتجارة، وتكديس الثروات، يحتفظ بمشاعر ودٍّ واحترام نحوي. أنا موضوع بين أقواس من الشك. والحاسدون لي كثيرون. والجميع يتساءلون عن سبب غناي المفاجئ؛ يقولون: هل كنت عمّيلاً للاحتلال؟ أم، هل عثرت على كنز؟ أم أن الحظ حالفني وطلعت لي ليلة قدر… أم أنني أتاجر بالمحرمات والسموم القاتلة؟ أعرف أن العيون تراقبني وأنا أدخل المستوطنات… العيون كثيرة، ولا أستطيع أن أفلت من تقاريرهم التي يكتبونها عني، والتي تقف وراء أزمة الحبر والورق في العالم.. أنا ذكي، هذا ما يشهد به الناس لي، لكن؛ ماذا يجدي الذكاء لرجل مفضوح العورة مثلي؟! صحيح، أنا لست فريد عصري في الفضيحة، لكن، لن يتردد المتورطون في خيانة شرفهم، من إسقاط دونيتهم الأخلاقية، على الحلقة الأضعف من بينهم. هل أنا ضعيف حقاً؟! ربما! لا أحد ممن أطمئن إليهم يحتل مركزاً مرموقاً! هل هناك من أطمئن إليه؟ كلا، ولا حتى نفسي. أجل، رجل يحيا وفي قلبه تتزاحم وتتصارع ضلالاته وأكاذيبه وخداعه وفساده وتاريخه البغيض، لا يطمئن لأحد، ولا حتى إلى نفسه… حاولتُ ترويج كذبة حصول ابني سامي على وظيفة رفيعة في دوائر السلطة، لكن كذبتي تبخرت، نعم، حبل الكذب قصير؛ لا، حبله واهن! ولكنه سلعتنا الرائجة! ولطالما لجأت إليه، لكن، لماذا خذلني خبثي، هذه المرة؟!".
يرمي أبو سامي إلى "تبييض سمعته"، على طريقة ما يفعله الذين يجمعون أموالاً طائلة، من المتاجرة بمواد غير مشروعة، أو بأساليب محرّمة، عندما، يضعون، ما حازوه من مال، في حسابات مصرفية، يفتحونها، لدى مصارف، تتساهل معهم. يقول لنفسه: "شعبنا متساهل، ونحن الآن في مرحلة يختلط فيها الحابل بالنابل. وكل وشطارته!!".
وهو يسعى إلى الحصول على "براءة رسمية". ويعتقد، أن إشاعة خبر ملفّق، عن تعيين ابنه، في وظيفة رفيعة، لدى السلطة الوطنية، سيكون بمثابة "براءة"، وشهادة بالثقة فيه، هو، شخصياً. وحضور مدعويين رسميين كبار، في الحفل الذي أقامه، لهذا الغرض، ولغيره، سيمنحه "المباركة"، وسيدعم موقفه، وسيغسل وساخته، الظاهرة، أمام الناس جميعاً…"لكن الشيطان يتفرغ لمطاردتي وحدي هذه الليلة"، قال بصوت مسموع، وهو يتجه إلى خزانة الخمور في حجرة سماح…
دلق كأساً في جوفه، ونادى بصوت محبط: "لا تتركيني فريسة بين أنياب خيبتي يا حليمة؛ أينك؟!".
لم تجبه. كانت غارقة في ذاتها السحيقة: "لماذا غادر جدي الأكبر بلاده القديمة، في أفريقيا، قبل مئات السنين؟! هل فعل ذلك مكرهاً؟!. لماذا انقطعنا من جذورنا؟! لماذا لاتزال تطاردنا، نحن سود البشرة، عيون، تقول لنا: ستبقون عبيداً؟!".
وفي ذاكرتها المثقلة بالأسى، قفزت صورة الشاب، الذي ارتبطت معه، بقصة حب، من النوع الجدير بتسجيله في تاريخ الفخار الإنساني؛ كانا قد اتفقا على أن يتوجاه بإجراء رسمي، على يد مأذون. ولكن عاصفة هوجاء دمرت أحلامها النورانية: "لن تتزوج عبدة"، قال أهل حبيبها، لابنهم، مسلوب الإرادة…
ارتفع صوت أبو سامي: "ليلي موحش يا حليمة، هل نضب ما لدى الإنسانية من شفقة؟! أتوسل إليك، لا تتركيني وحدي!!"
يعبث الخمر في قنوطه. انفلت منه صوت أجش، يردد كلمات أغنية غرامية خلعت رداء الحياء.
والخمر، والعذابات التي تشرخه، ووجدانه المضطهد، وخبرة عمر شقية، وقلق من مجهول كأنه غول يكاد يداهمه في ليل بهيم يطبق عليه وحيدا، والإحباط، وليل شتوي دافئ، يتراقص فيه شيطان، بين عيني أبي سامي، وقوام امرأة شهية، كان عارياً إلى جواره، مكتنز بالشبق، وصمت يضرم أنفاسه المرتبكة، التي تضاجع نكهة أنثى، لم يمتلكها من قبل؛ كل ذلك، هزم الرجل، الذي رحل السواد من شعر رأسه، منذ دهر… قال بغيظ، وبصوت مسموع: "إنني أعلن أنني استسلمت لضعفي!".
بخفّة، أغلقت حليمة باب حجرتها، عليها، من الداخل، وقبل أن يقف أمامه، أبو سامي، الذي انفجرت ثورته، وهو يعالج اليد الخارجية لباب حجرتها، ويطرقه بعصبية، ويصيح مثل طفل، نهض من نومه مفزوعاً، حين اكتشف، أن أهله، جميعهم، نسوا إنقاذه، من حريق شب في البيت، وبدأ يلتهم فراشه: "افتحي! ارحمي شيباً تكالبت الوحوش على بقاياه!". ردت بصوت يرتجف: "لا أستطيع.. دعني وشأني، أنا عذراء، ونذرت أن أصوم عن الرجال حتى الموت!".
تفاقم هياجه. تراجع خطوات إلى الوراء، وشنّ بظهره، غارة عنيفة على الباب، الذي انهزم أمام هيجان ثور بشري، تمركز العالم لديه، بين نهدي حليمة، وفرجها. لم يملك أبو سامي، المخمور، توازنه، سقط على ظهره، اغتنمت حليمة الموقف، فرّت من الحجرة، إلى حجرة سماح؛ وقبل أن تُحكم إغلاق الباب من الداخل، بالمزلاج، ومع ارتباكها المرتعب، تمكن أبو سامي، من الوصول إليها، والقبض عليها، ودفعها نحو السرير؛ وبعد أن أطبق جسده على جسدها، وفيما كان يحاول التخلص من بنطاله ولباسه الداخلي، استجمعت حليمة قوتها، وأفلتت منه، وفرت، إلى الشرفة، التي فتحتها، وأغلقت بابها المزجج، بسرعة لا تخضع لمقاييس الزمن المتداولة. هبّ خلفها، وفي هياج أعمى، اصطدم بزجاج الباب، فتهشم، وسقط أبو سامي، على بركة دم، تدفق من جبهته، ويديه…
ضمّدت حليمة، على الفور جراحة. وحضن صدرُها رأسه. غفا. ظلت تراقب دقات قلبه.. وشقّت ضجة مؤذني صلاة الفجر سماء غزة المتدثر ببردها الأزلي!!
ودسّت حلمة ثديها بين شفتيه الهرمتين الجافتين، مثل أمٍّ ترضع طفلاً، فقد الشهية للحياة، فتمنحه حياتها..
وكان وجه أبي سامي، لوحة عليلة، ملبّدة بغيوم ثقيلة بعضها فوق بعض، ترسم تجاعيد بؤس يحكي مأساة قديمة متواصلة…
_______________________________
*يتبع: الجزء الثاني من فصل (11) إلى (15)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى