كتاب كامل حسن ميّ النوراني - مريم عارية - رواية سافرة تكشف المستور (الجزء الثاني: الفصول من 11-15)

11
حكى، وهو يهذي، في حضن حليمة، عن طفولة فقدت الأمّ، وعن أب كان يفر من سيف الإحباط، المسلط على قلبه، فيقضي نهاراته، يرعى الماشية، منصرفاً عن العناية بأسرة، وقعت ضحية زوجة ثانية، لم تنجب، فصبّت العذاب على أبناء زوجها، صباً.. كان الأب يهرب من البيت، ليستمتع بصحبة كلبة. كانت الكلبة صديقة الأب الذي يواسيه، في حياته التي اعتزل فيها الناس؛ "تطهرا من وساختهم، وزهداً في دار فانية"، كما كان يقول. ولكن عزلته، لم تكن تمنعه من المشاركة في الجهاد ضد عصابات اليهود، قبل هجرة عام 1948. يقول مجايلوه: "كان ذا شكيمة، وكان مخلصاً".
وبوجع مفزوع، قال أبو سامي: "في فوضى الرعب، ضللت عن أسرتي، خلال هجرتها، عام 1948، طلبا للنجاة، من موت كان يترصدنا". كانت عيناه، الذابلتان، في لحظة سرقها من غفوته، تتوسلان إلى حليمة، التي دافعت نعاسها، حرصاً على أن تواصل مراقبتها له، وهو، تحت غلاله شاحبة، مضطرب القلب، تمزق الحسرةُ صدرَه، يتنهد حينا، وتخنقه الحشرجاتأحيانا.
في غزة، جابه الطفل المنسلخ عن أهله، بؤساً، مهيناً، ومتشرداً. عاش بلا مأوى. وكان ينافس المطرودين من وطنهم، بمذلة الضائع، على روث بهائم، كان الجائعون يبحثون فيه، عن شئ، نجا، من طاحونة الحيوانات، مما تأكله من شعير، كان قليل من مواطني قطاع غزة، غير المهاجرين، يملك ترف القدرة على تقديمه لمواشيهم…
قال بسعادة طفل تهدهده أمه: "كانت بهجتي، تتدفق، كما هذا الحب الذي تمنحيه الآن لي، يا حليمة، كلما حالفني الحظ، بالعثور على قليل من شعير الروث!!".
تحسس ضمادة رأسه بأنامله. جلس قبالة حليمة، مسح جدول الدموع التي تذرفها.
أشرق وجهها بنورانية ملائكية. غامت عيناه بحزنه السحيق: "اغفري لي. أنا ضحية قسوة الضياع الذي تضطهدني وحوشه! أثق انك تمتلكين قلباً مجبولاً من الحب الرباني الذي لا ينضب له معين!".
ابتسمت عيناها، وشفتاها. وأطرق، وتابع، بحسرة خجولة: "ذات صباح، كانت أنياب الجوع تمضغني. وكنت أقعي، مثل كلب أجرب، بجانب حائط، كان ينذرني أنه لن يمهلني طويلاً، قبل أن يجثم على عظامي المرتعشة. وفجأة، حطت، امرأة عجوز، من إحدى قرى غزة، حملها الثقيل من الجميز، عن رأسها، التي كانت تتجه إلى بيعه، على دور، يسمح ترف أهلها، بدفع ملاليم قليلة، في كميات وافرة منه. توارت المرأة خلف الحائط المتداعي بين شقوقه، ولم تكن قد انتبهت إلى وجودي. تلصصت عليها، ببراءة طفل، لم يكن لديه ما يفعله، غير منازلة تعاسته الرابضة في جوفه الخائر، وفي ذكريات الأهل المقطوع عنهم. جلست تقضي حاجتها، ودون تحفظ. تمرد صخب الجوع في أحشائي، حركني، قصدت سلة الجميز الضخمة، وقفت في حضرتها المهيبة، مثل عابد وجل. تناولت بعضاً من ثمارها، لاكته أسنان فتية، وضمير مشوش. هل كنت حينئذ، أرتكب جريمتي الأولى؟! برزت في مخيلتي المضطربة، صورة شيخ الكتاتيب، وهو يعلمنا، أن الله، جل جلاله، أمر بقطع يد السارق! هل كنت سارقاً؟! لا أذكر أنه تحدث عن موقف الخليفة عمر من السارقين في عام المجاعة، الذي رفض أن يقطع أياديهم. فزعت، هل يقطعون يدي؟! لا أزال جائعاً؛ هل أواصل أكلي من جميز امرأة عجوز، قد يكون بؤسها، أعتى من بؤسي؟! كانت يدي ترتعش، وهى معلقة بين صدري وبين سلة الجميز. داهمني صوت المرأة، وهي تشتمني من بعيد: "يا أبن الكلب، والله لأذبحك!". دفعني الرعب منها، ومن درس شيخ الكتاتيب القديم، إلى الاصطدام بالسلة، وأنا أطلق لجسدي الواهن، حريته التي خلقه الله منها… تلقفتني شجرة قريبة من مسرح الحدث، لا أدري ما اسمها، كثيفة الأغصان، شاهقة الهامة، لفني حبها..
كانت السلة ذات الفوهة الواسعة، والقاع الضيق، المخنوقة بفقر العجوز، قد مالت وكما لو كانت تفعل ذلك بتواطؤ مع بؤسي؛ ساح حملها على تراب، نهض هو الآخر، فخالط كل ثمرة، من ثمار عجوز، أخالها ماتت بالسكتة، وهي تتقهقر، من غزة، بخيبتها؛ ولا أزال حتى اللحظة، لا أفهم؛ ما الذي دفع المرأة، إلى أن تعجن حملها، بالتراب، وهي تدوسه بأقدام زلزلتها عصبية بركان، كان ينتظر الانفجار، منذ بدء الخليقة؛ أو: منذ صار الظلام سيد الموقف في الحياة الإنسانية؛ لماذا فعلت ذلك، وكان في مقدورها أن تنقذ من جميزها، شيئا، يقلل من خسارتها الفادحة؟!".
نظر إلى حليمة، قال بنفس مضرجة بالأسى البعيد: "دموعك أغلى من أن تذرفيها حزناً على رجل مثلي!".
وانتحب بصمت، فيما كان يتذكر تلك اللحظة، من ليل بهيم، عندما اكتشف أنه يتبع قافلة تتجه، من قريته، وسط فلسطين، إلى الجنوب، لم تكن أسرته بينها.
"هل يعني ضياع طفل، بداية مشروع خيانة؟!". سأل بصوت خفيض، وهو يطأطأ رأسه.
حظي برعاية القافلة، إلى أن وصلت غزة. "الضياع في دمي؛ هل ورثته يا حليمة؟!". استدرك:" أبي لم يكن كذلك. هل يضلّ مجاهد؟!". اغرورقت عيناه بالدموع:" هاجرت أسرتي إلى سوريا. مات والداي ولا أدري شيئاً عن مصير شقيقاتي وأشقائي. لماذا خلق الله اليهود؟!".
وعاد يتساءل: "لماذا لم يحضر مدعوون كبار إلى الحفل، لماذا لم تحضري أنت أيضا أيتها الفتاة النبيلة؟!". حدّقت فيه، فقال بنبرة فيها اعتذار: "كان حضورك سيشرفني. لكن، الحمد لله، أنك لم تفعلي ذلك؛ أنت أطهر من أن تشاركي في مثل هذا الحفل". أطرق، وتابع بمرارة: "وأبي أطهر من أن يكون أبا لضالٍّ فاسق مثلي!".
"لماذا لم أحاول زيارة أهلي، والالتقاء بهم، طوال السنوات الماضية، منذ صار في مقدوري، أن أتحرك إلى أي مكان في العالم الأجنبي، بفضل ما أملكه من ثروة؟!". قال، يخاطب حليمة، ويضغط على بطنه الممغوص بحدّة. "هل تستطعين أن تفسري لي، كيف هزمتِ شيطاني يا حليمة؟"؛ أضاف فجأة. وتابع في سريرته: "هل رفضتني لتقدمي في السن؟! كلا؛ نصف شابات غزة، يراودنني عن أنفسهن! أنا أملك المال، وأملك معه الاستهتار به؛ أملك إغراء كثيرات؛ لماذا لم أستطع إغراء حليمة، التي تقيم مجاناً، في شقتي هذه، والتي أزوِّدها، مع سماح، باحتياجاتها كلها، تقريباً، دون مقابل مادي؟!". قال لها باحترام يقدمه عابد يتضرع لإله يعبده: "أنت امرأة مقدسة! لماذا لم يخلق الله النساء كلهن مثلك، بجلد أسود وقلب من نور؟!".
خَلَد إلى الصمت برهة عمّيقة، ثم قال، محدِّثا نفسه: "كنت أرمي إلى تبييض سمعتي بإقامة الحفل، فخاب قصدي. لن أبالي؛ هذه حليمة، منحتني براءة روحية". رفع صوته: "هل بياض القلوب مُعْدٍ، وسريع الإنتشار؟!".
إحتضنها بعنفوان عاشق، ضغط رأسها فوق صدره: "يا أمي التي ضاعت مني؛ هل تتزوجينني؟!".
"أيتها الروح الخالدة، لماذا تلوذين بالصمت.. مثل بدر في صفاء الروح أشرق؛ بدِّدي ظلام نفسي؟!".
رفع عيناه إلى سقف الحجرة. خفض رأسه. راوده ملاكه على أن يلثم فمها. قمع رغبته؛ قال بعمق: "أنت أشرف النساء، والرجال أيضاً! أجل، المرأة التي انتصرت على حقارتي، هي نداء الله في أرضه!". لثم يدها؛ انبلج في محيّاها نور الله، كما الأم يرضعها وليدها، ويداعب خيالها، مستقبل تحلم له به. رقص قلبها بهجة؛ قالت بأنوثة دافئة، ريّانة: "الرجل، على صدر المرأة، طفل يستعيد أماً خذلته!".
صمتت، وتحدثت إلى نفسها: "أودّ أن أجعل صدري ملاذ رجال المعمورة كلهم! لماذا ترتكب النساء جرائم قبيحة، ضد أبنائهن، الرجال، الكبار والصغار؟!". يزخر قلبها، هذي اللحظة، بحب يسع الغادي والرائح. قالت بروحانية عالية: "بهجة الحب هي الله بيننا وفوقنا". ومالت إلى أذن طفلها الشيخ، وهمست: "فرج المرأة حوض للأوساخ!".
لثم ثديها بجوع مجنون، قال بشجاعة: "سماح ابنتي على الحقيقة لا بالتبني". خفض صوته، وغمغم: "هل الجنين الذي ينمو في أحشائها، هو ابني أيضاً؟!"
وجه حديثه إلى حليمة: "تمنحني سماح متعة جنسية، مخلوطة بمشاعر لا أعرفها، مع كل من أضاجع من النساء. لديّ رغبة في الوقوف على أسبابذلك. هل صادفت في دراستك تفسيراً لهذه الحالة؟ تجاربي الجنسية مع سماح عمّيقة، هل يعود ذلك، إلى أن الابنة العشيقة، تتغلغل في كيان الرجل إلى مستويات لا تصلها العلاقات الجنسية بينه وبين عامة النساء؟! أنا أعي، أنني انتهك، مع سماح، المحرمات؛ ولكني في هذه اللحظة، التي أراني حراً من أكاذيبنا، أعترف، ودون إحساس بالذنب، أنني أشعر، عند ممارستي الجنسية مع ابنتي، بزهو وانتصار عظيم؛ كأنني فاتح من مستوى النبي أو الاسكندر المقدوني؛ لا، أنا أكبر منهم، هذا شعوري الذي يخالجني كلما مارست العلاقة الجنسية مع سماح!".
ملأت الشمس الهادئة، أفق السماء، وقلب أبي سامي معاً. أضاءته بهجة ذابت فيها، سوداوات تراكمت في نفسه. وحملته راحة بكر، إلى نوم حريري، لم ينعم بمثله، منذ كان جنيناً في رحم أمه..
طبعت حليمة، بشغف أموميّ، قبلة على شفتيه. غامت عيناها، وهي تسترجع ذكريات نشوتها، في حضن أب خطفه موت مستهتر، في حادثة دهس، تعرض لها، في إحدى الدول العربية الخليجية، التي كان يعمل بها. ثم انتشى خيالها، بصورة حبيبها عادل؛ ولكنها عادت إلى انقباض، مر على عجل، وهى تستعيد وقوفه، جوار عروسه، يوم زفافه، الذي شاهدته، فيه للمرة الأخيرة. كانت عروس عادل، الذي عارض أهله زواجه من حليمة، صديقة لها.
استعدت للخروج إلى جامعتها. اشتعلت نفسها بالشوق إلى أمها، التي تقيم في الدولة التي قضى أبوها نحبه فيها. هاتفتها. "أود أن أطوي المسافة بيننا، في رمشة عين، وأن أدفن رأسي فوق صدرك يا أمي"؛ قالت حليمة، بنبرة يمتزج فيها الحزن مع الفرح، بينما كانت عيناها شاردتين فوق البحر المترامي أمام نافذتها…
جلست على حافة كرسي مكتب مذاكرتها. دونت: "كانت ليلتي الأخيرة، خضراء". أغلقت دفتر خواطرها. عادت ففتحته برشاقة، كتبت: "فروج النساء الطاهرات، مزروعة في صدورهن". وبعد لحظة تأمل، أضافت: "قلوبنا حرية نبدأ منها، ولا تنتهي بنا".
تسللت بهدوء إلى حجرة سماح، التي كان الرجل يرقد فيها. انحنت لتلثم يد أبي سامي. ابتسم برقة. وقال بحنان أبوي ناعس: "محفظة نقودي في المعطف، خذي منها ما شئت". وعاد إلى نومه.
دخلت مكتبة الجامعة . طلبت من المشرف عليها أن يساعدها في الوصول إلى كتاب يحمل عنوان: "الحب حريتنا الخضراء"؛ الذي قرأت عنه، في إحدى الصحف، عند صدوره، قبل وقت ليس قصيراً.
اعتذر المشرف، وهو يبتسم لها؛ قال بخجل: "هل نسيت أين نحن؟! ثمّ… هذا اليوم، غير مخصص للطالبات، وغير مسموح لهنّ بدخول المكتبة!". قالت بصمت: "هذا يوم ذكريّ؛ كلا، كل أيامنا ذكرية!". تابع المشرف: "الحرية الخضراء، تمارسها المواشي في صحارينا القاحلة، فقط!".
12
نهضت هند، من فراشها، في وقت مبكر من صباح اليوم التالي لليلة الحفل، بعد سهاد طويل، ومضجر، حرمها النوم.
"اليوم موعدنا، يا سامي، ويا أباه."؛ قالت بدون صوت، وهي ترتب سراويلها، بعد فروغها من قضاء حاجتها. رشقت وجهها بالماء البارد، على عجل. دخلت في جلبابها الأسود الفضفاض. غطّت رأسها بمنديل أبيض. أعدّت قهوة الصباح لأبيها. لثمت يده، وهي نصف شاردة.
أخذت نساء المخيم مواقعها، يسندن ظهورهن إلى جدران منازلهن، في عادة تبدأ من ساعة اليوم الأولى، مع إشراقة الشمس، وذهاب التلاميذ إلى مدارسهم. وبعدما يكون الرجال، قطعوا الرحلة اليومية، التي يعبرون فيها الحدود الفاصلة بين قطاع غزة، وأراضي فلسطين المحتلة عام 1948… رحلة العمل، رحلة الذلّ والهوان…
وهذا الصباح، كان لدى النسوة، مادة كلامية، مثيرة، ومقلقة: "في الهزيع الأخير من الليلة الماضية، طاردت حارة هند، شاباً تجرأ وقفز من فوق سور، طوله ضامر، يفصل بيته، عن بيت جار له، يخرج قبل الفجر، للعمل في المناطق التي تقوم فيها دولة إسرائيل. قال الشاب لمحقق الشرطة: "أسمع كل ليلة، غنج المرأة جارتي، وأنا عازب، لم أستطع المقاومة إلى الأبد، وليس زوجها وحده هو الرجل!".
نساء المخيم، كل من مكانها، شكَّلن هيئة محكمة مفتوحة؛ قالت بعضهن: "معذور"؛ وقالت أخريات: "البنات مثل شعر الرأس، لماذا لا يتزوج؟!".
قال الشاب للمحقق: "أنا ممنوع من العمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948؛ ولا واسطة لي، تساعدني للعمل في السلطة".
لفت نظر هند، خلال سهادها، الليلة الماضية، أن مؤذن المسجد القريب لبيتها، لم يرفع آذان الفجر. كان يطارد الشاب العاطل، الذي أعماه غنج جارته، لزوجها، عن مراعاة حق الجيرة: "هذه تقاليد تلاشت"؛ قال الشاب، للضابط المحقق، الذي صفعه، وشتمه أيضاً: "أنت وقح!".
لم يفاجئ هند وجود سامي وسماح، النائمين، عند دخولها، إلى استراحة، المكتب الذي تعمل فيه. كانا، لا يزالان عاريين. سامي نائم على ظهره، وسماح على بطنها. قالت هند، في سريرتها، بخبث: "أفطر بسامي، وأتغدَّى بأبيه!". أضافت، وهي تطرح عنها، غطاء الرأس: "أحتاج إلى وجبة ثالثة!". تذكرت إمام مسجد أبي سامي؛ سرح خيالها، في مغامرة، مع الرجل الملتحي، الذي أثار شهيتها، بحضوره المختلف، في الحفل، فرمقته بنظرة حولاء، فالتقط الشيخ الستيني، الرسالة بكفاءة. تساءلت هند: "كيف أَجرّه من ذيله؛ هذا الكلب المسعور؟!". وللتو، التفتت نحو السرير الذي يرقد عليه سامي مع سماح، وقالت، كما لو كانت أنثى أسد، تتربص بالفريسة: "ها أنت قد وقعت في المصيدة أيها القحب. أبوك قحب أيضاً. أنتما تتقاسمان التهام وليمة من فتاتين سوداويتين؛ أنا اللعنة التي صبها الله فوق رأسيكما الشريرين!".
واستهواها، أن تعرف، لماذا يرغب الرجال في النساء السوداوات؟ قالت في سريرتها: "حتى أبي، الزاهد في الأنوثة، لا يتردد عن إبداء إعجابه بمرأة سوداء، تقيم في حارتنا! ربّاه؛ لماذا لا تأتي هذه المرأة لزيارتنا، إلا عندما تخرج أمي من البيت؟! هل يمارس أبي أيضاً، نفاق الذكورة؟! وهل يعود عشق الرجال البيض البشرة، للنساء السود، إلى ما يربض في أعماق رجالنا، من شعور بالعبودية، يجمعهم، دون وعي، مع النساء السود، اللواتي يعود وجودهن هنا، إلى مرحلة تاريخية، كان فيها السود ضحايا تجارة الرقيق… رجال عبيد، مع نساء عبيد، هكذا تصبح المسألة واضحة... الرجال يسقطون عبوديتهم على نساء كان أسلافهن، إلى وقت قريب، عبيداً!!".
خلعت حذاءها، وصفعت به باب الحجرة بعصبية. استدارت نحو السرير، وقالت بثقة محارب يعتقد أن النصر معقود له، لا محالة: "أيها الوغد الراقد في خمورك وفي شهواتك السوداء؛ سأجفف هذا الصباح خصيتك، لكي لا تفكر، بعد ذلك، في امرأة أخرى!".
تململت سماح لدى شعورها بوجود شخص ثالث في الحجرة. رفعت رأسها المثقل بالنعاس، تصادمت عيناها، مع عيني هند. ابتسمتا معاً، سماح ببراءة؛ وهند، بحقد أنشب أنيابه في صدرها.
نهضت سماح على عجل، وفي وقت قصير، تهيأت للخروج: "يومك سعيد يا هند"؛ قالت ومضت، بعد عناق أنثوي فاتر.
حملقت هند، بشهوة، وبرغبة الانتقام، في قضيب سامي، الذي كان منتصباً، تحت ضغط السوائل، التي تكتظ بها مثانته، مثل صاروخ، يتأهب للانطلاق. راودت هند، فكرة شيطانية: "أرغب في قطعه! ترى، ماذا يساوي، لو فقد قضيبه؟! هل يزيد الرجل عن المرأة، بشيء أكبر من قضيبه؟! هل الرجل يزيد عن المرأة فعلاً؟! أكذوبة سأبددها الآن!".
خلعت ملابسها. تمددت جوار سامي الذي يغط في نوم كثيف. داعبته بقبلة خفيفة على فمه الفاغر. لم يحس بها، قالت بنعومة مصطنعة: "ما طعم الرز بالحليب الذي تأكله مع الملائكة؟! هل هو ألذ مما تصنعه نساء المخيم لأطفالها؟! تُرى، هل للملائكة أطفال تتبارى في لحس قاع طناجر الرز بالحليب كما يفعل أطفال مخيمنا البائسين؟!".
لفّت كفها قضيبه، الذي لا زال منتصباً، وهمست: "أفهم الآن، لماذا تحملق نساؤنا في مئذنة المسجد؛ معذورات! الكحول، وغذاء ملكات النحل، والدجاج المشوي، والكافيار، أشياء يسمع عنها رجالهن، ولم يعرفوا مذاقاتها؟! ما أسعدني! هاأنذا، مع رجل من صنف ذكري له قضيب نافر!". يطوف النعاس برأسها: "لديَّ متسع لذلك، في برودة حجرتي. هذا الوقت للبهجة مع شاب وسيم!"؛ قالت، تخاطب نفسها. أضافت، بصوت ذي نغم ذكريّ: "كلا، اليوم يوم الملحمة!!".
تتكئ بساعدها على صدره؛ يتململ؛ تهمس بغنج: "ما لدى الملائكة من حليب نفد؛ لن يكون لديها منه اكثر مما لدى هيئات المساعدات الدولية التي تمدنا به… الذي يشتريه أبوك، بثمن بخس ويبيعه، بأضعاف ما يشتريه.. ما رأيك، هل أعدّ لك طبقاً من الرز والحليب، باستخدام حليبك الطازج؟! والرز؟! أتصل بأبيك ليرسل لي شوالا منه؛ أو: أحلبك، من الآن، وحتى يأتي أبوك، عند الظهر، ويُحضر الرز معه؟ ها..ها..ها..؛ هل تسمح لي أن أبدأ؟! كلا؛ لست بحاجة إلى طلب الإذن منك. أنا تحررت من حاجتي إلى الاستئذان من رجل، لأداء عمل ما، منذ أن فضضتَ بكارتي، بوحشية مستهتر ومتعجرف. حتى أبي، لم أعد أستأذنه، عند خروجي من البيت… رباه؛ اغفر لي، نسيت أن أترك لأبي نقوداً ليقضي بها حاجة البيت لهذا اليوم! أنت المسئول عن ذلك، أيها الوغد الراقد في حضن امرأة تجتاحها رغبة شرسة، لذبحك". تمددت فوقه. تململ قليلاً؛ قال وعيناه مغمضتان: "صباح الخير يا سماح".
طبعت على عجل، قبلة خفيفة على شفتيه. ضغطت صدرها على صدره. دست ذكره بين فخذيها. أحاطت ذراعاه خصرها، قال بنبرة نعسانة: "أشعر أن بطنك قد ألقت حملها. هل ولدت قبل الأوان؟!".
"لا يزال الجنين في أيامه الأولى. لا خوف عليه"؛ قالت هند في سريرتها. همست: "جنين؟! هل يغرس هذا المستهتر الشرِّير زرعا مثمرا؟! هل أبقت عربدته النسائية المتواصلة، شيئا من ماء الخصب لديه؟!". تنهدّت، قالت في سريرتها: "النساء في مثل عمري، ولَدْن دزينة من البنات والبنين". ضغطت بطنها فوق بطنه. مازال يغمض عينيه. قال باستسلام: "افعلي ما شئت"، وعاد يجدّف في نومه…
راودت هند الرغبة في لثم فمه. دنت منه. تراجعت وهى تقول بتأفف: " نتن!". لثمت عنقه، غرست أنيابها فيه. صرخ: "آخ"؛ لم يفتح عينيه، دفع رأسها عنه، بإحدى يديه، وبالأخرى، جذب وسادة، دفن رأسه تحتها. غرست أنيابها في صدره بشراسة. أطلق صيحة تَوَجّع مكتومة من تحت الوسادة. قال بنزق نائم مغيظ: "ماذا دهاك يا سماح، لم اعهد ذلك منك، من قبل؟!". انفجر شيطان الغيرة فيها، غرست أنيابها بقسوة أشدّ شراسة في بطنه. وبحركة سريعة، دسّت قضيبه في فرجها؛ فكتم صيحة انطلقت منه. كانت بركاناً يقذف حممه، أحاطت عنقه بكفيها، فيما كان هو يضغط الوسادة فوق وجهه. ضغطت على عنقه؛ راودتها الرغبة في خنقه. أرخت كفيها. واصلت معركتها في المنطقة الوسطى. سال ماء غزير منها. دفع يده بكسل إلى ثدييها، قال بضجر: "إنهما أصغر مما كانا قبل!". قالت في سريرتها، بحنق:"لا تزال تواصل إهانتي أيها الوغد!". عادت إلى عنفها. قبضت كفُّها قضيبَه بقسوة، أخذت تعلو وتهبط، بحركات مجنونة؛ فلتت من وعيها. أخذ يئن، قال: "لم تكن عانتك خشنة وقصيرة؛ ذبحتيني، ارحميني برب السماء!". ونهض دفعة واحدة: "أيتها العاهرة"؛ قال باشمئزاز، أضاف: "قحبة وتستطيعين أن تفتكي بمائة رجل في الفراش". صفعها. هجمت على خصيته، صرخت: "لن تفلت مني أيها الحقير، يا سليل الدعارة". غرزت أنيابها في قضيبه. صاح بألم. ضغطت كفاه على عنقها. ضغطت كفاها على خصيته. علا صياحه. قال بتوسل:"أنا تحت أمرك!". "استلق على ظهرك"؛ قالت بحدة آمرة. دلكت قضيبه الذي كان قد ارتخى بقسوة، وعندما استعاد نصف انتصابه، جلست فوقه، ودسته في فرجها، وهي تقبض عليه بعصبية. كان يتلوى من الوجع، ومن الإحساس بمهانة رجل تغتصبه امرأة. نفدت قدرته على الاحتمال. استجمع بقايا ذكورته؛ صفعها بقسوة، دفعها عنه، جلس، لم يترك الفراش. دارت رأسه، هوى مستلقيا من جديد. سامي مهدود الحيل؛ قامت، جلست فوق رأسه، وضعت مؤخرتها فوق أنفه، ثمّ هوت بوجهها فوق قضيبه، وأخذت تمصّه بشبق وحشي ومنتقم. أطلق صيحة استغاثة، وبنبرة محبطة، قال: "رحماك يا حليمة!". استشاط غضبها. غرزت أنيابها في قضيبه، التفتت إليه بازدراء، وقالت بغيظ حقود: "العبدة القبيحة، قضت ليلة حمراء في حضن أبيك الكلب مثلك". جذبها من شعرها، وصرخ: "حليمة أطهر منك أيتها الزانية، وابنة الزانية". ردت: "أنت معتوه. كنت معهما، ولم يخجلا أن يتضاجعا أمامي، طوال الليل!". قال: "خسئت؛ ما أكذبك!". أضاف في سريرته: "إذا كانت حليمة ترفضني، فهل تقبل مضاجعة رجل أكبر من أبيها؛ ترى، هل تحبه؟!". حاول النهوض مرة أخرى. حضنته بذراعين قويين؛ ألقته على ظهره: "لن أدعك تفلت مني، قبل أن ترد لي اعتباري، أو أقتلك من خصيتيك"، قالت بهياج امرأة مذبوحة الكرامة. توسّل إليها أن ترحمه: "ليس بمقدوري أن أفعل شئ، أعدك، أن أمنحك ما تريدين، في وقت لاحق!". قبضت كفاها، بتصلب ، على قضيبه المرتخي، ضغطت عليه بقسوة، وجذبته، وهى تصيح: "سأقطعه!". استجمع احتياطي قواه، التي تدّخره قوة الحياة في حساباتنا لديها، فتمنحنا إياه حينما يداهمنا الخطر الشديد؛ دفعها، سقطت عن السرير، نهض بسرعة البرق. لكنه فشل في الإفلات من قبضة كفيها على أسفل ساقه. إرادة الانتقام لدي هند، أسرع من حركة هروب سامي من الحجرة. هوى. سقط فوق المدفأة التي كانت لا تزال مشتعلة. صاح بذعر. أنكمشت من الذعر. انفجرت في نوبة من البكاء والضحك، في حالة من الهستيريا.. وعندما استعادت سيطرتها على نفسها، وكان سامي قد فرّ من المكتب، قالت بصوت منهوك: "ما أجملك يا بهجة الانتقام!" تابعت بنبرة استهزاء: "الغبي؛ نبي الزمن القاحل، يزعم أن للبهجة مصدر واحد، هو الحب! خزعبلات؛ ولو أن الله يهديه، فسيكون أحد أتباعي.. هه،هه.. سأصلي له، عسى ربّتي أن تفتح باب التوبة له، وتقبله في حياضها". وفيما كانت تدافع هجمة نوم تشتهيه، تذكرت أنها قرأت عن نبي جديد، يتحدث عن العلاقة الجنسية بين الرجل المرأة، حديثة عن التصوف. وقبل أن تهوي إلى قاع النوم، قالت: "إذن، أنا من أتباعك أيها المجدّف في بحر ظلامنا!".
13
بعد ساعتين من نوم حريري، ظلت محرومة منه، منذ جرى ذبح شقيقتها، قامت هند، بتثاقل؛ لكن، بنفس تخففت من عبء كان يضطهدها ويرهقها. قضت وقتاً ممتعاً، وطويلاً، في بانيو الحمام، بعد أن ملأته بماء دافئ. ثم ارتدت ملابسها كاملة. تزينت بوقار لم يخلُ من إثارة هادئة. كانت تستعد لمجيء أبي سامي، الذي قالت عنه في سريرتها: "إنه دسم، وصيده سهل!".
يعيش أبو سامي بلا زوجة، منذ انفصل عن أم سامي، بعدما اكتشفت علاقاته مع كل من أم سماح، والخادمة التي كانت تعمل في بيتهما. الأخيرة هي الأربعينية الممتلئة، التي حضرت الحفل، والتي شعرت هند، تجاها، بنفور، من النوع الذي ينشأ بين نساء، يخضن حرباً، للفوز برجل يتنافسن عليه.
منذ لحظة دخول المرأة الأربعينية، الصالة التي أقيم فيها الاحتفال، وهند، تحاول مداراة غيظ، استبدّ بها، تجاه هذه المرأة، التي شغلت بال هند، بقلق، والتي كانت موضع شك، لها، تفاقم لديها، إلى درجة دفعتها لسؤال أبي سامي، عن مغزى نظرات، كانت -الأربعينية الممتلئة والمتبرجة- ترسلها نحوه، بعيون، فيها شبق قديم. وعندما أعرض أبو سامي، عن تلبية رغبة هند، التي أعربت عنها، برعونة، كانت تحاول، أن تلفها بتصنّع عدم المبالاة؛ قالت هند، في سريرتها: "ماذا سيكون غرضها غير الإيقاع به، فريسة في بيت الزوجية؟! فماذا تريد امرأة من رجل في مثل سنه، وله مثل ثروته؟!". وبإصرار، أضافت: "لن يكون لامرأة سواي! يجب أن أتزوج منه، ليصبح الانتقام من سامي، في مقدوري.. سأجعل من ذاك المستهتر أمثولة يتّعظ بها كل الرجال… تفضّ بكارتي مثل متوحش، وتبصق في وجهي؛ سأذيقك المر أنت وأبيك معاً، أيها الزنديقان اللذان يلوك الناس سيرتكم، بقرف. ولكنني لن أكون مبتذلة، مع أبي سامي، عندما يأتي اليوم. سأجعله يقع في إغرائي، كفتاة محافظة. المستهترون لا يُقدمون على الزواج من نساء مستهترات مثلهم. الرجل العربي، يمنح نفسه الحق في أن يمارس دعارته، مع نساء الأرض كلهن، ولكنه يبحث عن المرأة، التي لم يشمّها أحد! أوغاد، كل الرجال أوغاد! ومغفلون أيضاً! يعيشون على الوهم، وعلى النفاق؛ إنهم واهنون؛ ولن يصمد أقواهم، أمام امرأة. هذا الصباح، مرّغت أنف سامي في وحل كبريائه الزائف! هذا اليوم، سأسحب أباه، من أنفه، ورائي! ومثلما أطلقت ريحي الكريه في وجه ابنه، سأجعل هذا الريح، هواءهما وشرابهما وخبزهما! ستركع أيها العجوز تحت أقدامي؛ ويا ويلك يا سامي، من زوجة أبيك، ستجعل من إذلالك المتواصل، رسالة مقدسة لها! سأستولي على ثروة أبيك كلها، سأطردك من عالمه؛ يليق بك أن تحيا مشرّداً، وأن تعود إلى النقطة التي بدأ أبوك منها، يا سليل الضياع! أبوك، سيدفع كل ما يملك، لإمرأة تملك لساناً رطباً، وقلباً مخادعاً في صدر امرأة تُتقن تمثيل الأدوار! الله أعطى الرجال قساوة النفس، وأعطى المرأة طراوة الصدر. أبو سامي يحتاج إلى طراوة الصدر؛ أما أنت أيها الحقير، فإنك تحتاج كراهيتي، ونار انتقامي".
تُضمر هند المفجوعة بذبح شقيقتها البريئة، تحدياً عميقا للذكورة. تساءلت في خاطرها: "لماذا يزغرد قلب أبي عندما يتحدث الناس معه، عن غرامياتهم، وعن صولات أبنائه مع الفتيات؟!".
وتنهض في ذاكرتها المغدورة، الصورة التي لم تفارقها: "أبوها، وأبناؤه، يذبحون شقيقتها"."لم تكن تُخفي سراً عني!". تذبحها ذكرى الواقعة، كلما خطرت ببالها، كما لو أنها تقع الآن: "شقيقتي ضحية ثرثرة غير مسئولة، لاكتها ألسنة نساء المخيم!".
تتذكر هند، بفجيعة، أن شقيقتها المذبوحة، تحدثت معها، عن إعجاب بريئ، بشاب، كانت تسمع عنه، من كلام أشقائها فيما بينهم؛ لكنها لم تكن قد رأته مطلقاً؛ "ألسنة الحارة المتعفنة، نسجت، من خيالها المريض، ومن شهوتها المكبوتة المظلمة، قصة علاقة بين شاب آخر، وبين شقيقتي. لم يكن هذا الآخر، موضوع اهتمام لأية واحدة منا نحن الشقيقات... لكن القصة المزعومة، انتشرت، مثل النار في الهشيم، بعد شجار بين أمي وإحدى قريباتها، لسبب تافه، كانت نتيجته، جريمة بشعة، ارتكبها أبي، بجهل وعنجهية، وذكورة عمّياء ومستبدة"؛ قالت هند في سريرتها أيضاً: "أبي ذبحنا جميعاً، نحن أفراد عائلته. وذبح نفسه. دمه ينزف كل يوم. يمضي نهاره وهو ذاهل عما حوله. منكمش في ذاته، يتحدث باقتضاب، وجفّت شهوة الحياة في عروقه".
يعتزل أبوها الناس. يأوي إلى فراشه بعد أداء صلاة العشاء، مباشرة، ويقضي ليله متقلباً، في نار حطبها من شعوره بجرح عمّيق، يتغذى باستمرار، من غمز، يطعن كرامته، ومن حزن أب، يختلط فيه ندم مقموع، مع قلق لا يبرحه.
لملمت هند نفسها، ووقفت أمام المرآة الكبيرة في حجرة استراحة المكتب، وحدقت في صورتها الشاحبة، قالت بنبرة واهنة، ولكنها واثقة: "سأنتقم من الذكور؛ سأذلّك يا سامي، ولن يفلت مني أبوك. وسيكون لفضيلة الإمام نصيبه؛ سأنتقم لروحك الطاهرة، أيتها الذبيحة، يا ضحية تاريخنا الأسود المقرف النكد!".
توجّه أبو سامي من شقة سماح، إلى مكتب ابنه، مباشرة، فلم يمرّ بمتجره. جلس على الأريكة الكبيرة، في حجرة مكتب سامي، بعد أن استقبلته هند، بحفاوة، وبابتسامة فرشت محيّاها، تقلصت على عجل، لتطوف سحابة قلق، في عينيها، وهى تنظر بثبات، لضيفها، الذي بدا شاحباً، ومهموماً… قالت بنبرة أم ودودة: "سأعد لك كوباً من عصير البرتقال الطازج حالاً". هرولت إلى المطبخ، ومنه، ارتفع صوتها، بحنان أنثوي: "هل تفضل الليمونادة؟ لدينا أيضاً حليب ونسكافيه، مشروبك المفضل يا عمّي!". رد بوهن مبتهج: "لم أشرب قهوة الصباح بعد!".
صنعت فنجانين من القهوة، وقالت وهي تجلس على الطرف الآخر من الأريكة، التي انزاح أبو سامي، إلى طرفها، ليترك مسافة بينهما: "يبدو عليك الإرهاق؛ لم أعهد هذا منك، عساك بخير!". وأطبقت جفونها، على لحن تنهيدة رقيقة، مغرية بدعوة شفافة، لدى أسيان، بعوالج تبحث عن صدر طري يرقد عليه رأس، أشقاه الدهر طويلاً… تنهد أبو سامي، قبل أن يرتشف قهوته؛ وفي وقت واحد، انفلتت دموع عيونهما قبل أن تبادر هند، إلى استعادة وجه مبتسم، وقور، ودود؛ قالت، بخبث أنثوي ناعم: "حدِّثني عن ليلتك الأخيرة؛ أطردْ همومك، ابتهج، أنت سيد من سادات البهجة، لك قلب شاب تحت هذا التاج الأبيض، الذي يزين رأسك. أحب أن أطمئن. هل قضيت ليلة دافئة؟ هل منحتك حليمة عاطفة حارة؟!".
افتعلت ابتسامة عريضة، أظهرت أسنانا مصفوفة بأناقة، على فكين، يدفعان شفتيها، إلى الإعلان المتواصل، عن تأهبهما، للاشتباك، بشبق، مع شفاه ذكرية، جوعي للهيب أنثوي خالد.. وكتمت غيظها، بمهارة محارب، يصمم على تحقيق النصر، في معركة، قررت هند أن تخوضها، بدهاء امرأة، طحنها القهر، والحرمان من الأمن؛ قالت بإلحاح طفولي: "ها... أمتعتك؟!".
أجاب بوقار: "أشعر أنني ولدت من جديد!".
قالت بمرح مخادع: "سامحني، ولا تعتبر أنني أتطفل عليك، لكن إخلاصي لك يجعلني أهتم بالرجل الذي منحني فرصة للعمل، وللحياة الكريمة التي تحرص عليها فتاة محافظة مثلي. سيبقى جميلك فوق رأسي؟ وأنا أفتخر بك، فأنت رجل، من قليلين، يمتلكون قلوباً ناصعة. واعترف أن من حقك أن تبتهج. أنت رجل، أنت سيد الرجال. ولماذا خلق الله المرأة؟! صحيح، أنا لا أستطيع أن امنح رجلاً، ما يشتهيه من المرأة، إذا لم تربطني به علاقة شرعية. ولكن رجلاً نبيلاً وكريماً، مثلك، سيجد كثيرات يتمنين تلبية إشارة من خنصر يده اليسرى. تحدّثْ معي بصراحة، اعتبرني صديقتك الصغيرة، أو ابنتك التي يسعدها أن تشاركك سعادتك؛ هذا إذا سمحت لي أن أنال هذا الشرف. وأنا واثقة أن شهامتك، لن تحرمني منه!".
تخلّص أبو سامي من إرهاق جواني كان يكبل نفسه. ابتسم، وحدق في عيني هند، اللتين تعكرتا بسحابة رقيقة، من حزن، مالبثت أن بددت، فيما هي تدنو من أبي سامي، قليلاً… واصلت:"البهجة حق لك، لقد أتعبتك الأيام طويلاً؛ ماذا تعني الحياة، إذا خلت من البهجة. الناس هنا، يعيشون من أجل الموت. الله خلقنا لنبتهج، الله لم يخلقنا للتعاسة، الله لم يخلقنا لنبقى طوال الحياة، رهائن لموت يداهمنا من كل صوب، الحياة حق لنا، البهجة حق لنا... أنا لا أتفلسف. هذه حكمة نتعلمها من الأطفال، هذا درس البراءة البكر، تفكيرنا المتخلف هو الذي يحرمنا من ممارسة حقنا المطلق في البهجة، ولكن…". راودتها نفسها أن تلمس يده... كبتت ما فيها. خفضت رأسها، وقالت بنبرة تعكس حرصها عليه: "ولكن، حاذر يا عمّي، أن تجعل منك طيبتُك ضحية لنساء رديئات الصنعة، يفتعلن الاحترام لك، والحب تجاهك، فيما هن يخطِّطن لاستغلالك أو الإيقاع بك. هذا زمن يجب أن نبقى فيه منتبهين لما يدور حولنا. الطيبون أمثالك، أهداف لسهام تطلقها نحوك، قلوب مريضة، يطمعون في مالك الذي جمعته بشق الأنفس. أنت لم تصل إلى وضعك الممتاز إلا بعد أن بذلت جهوداً عظيمة، أفنيت فيها عمرك. استمع إلى نصيحة ابنتك المحبة لك، بدون أغراض، لا تستسلم لإغراءات النساء المتهافتات حولك، أعرف أنك أسد؛ البهجة مع امرأة حق لك، ولكن، تدبّر أمرك جيداً، النساء ناقصات عقل ودين؛ والمرأة العربية تتحيّن الفرص للانتقام من الرجال. والنبي صلى الله عليه وسلم، قال: "المرأة تغلب الكريم ويغلبها اللئيم"، أنت كريم، حاذر أن تُسلم شراع قلبك لامرأة خبيثة. أرجو أن لا تسىء فهمي؛ حليمة مثل حيّة التبن. أنا أفهم النساء من النظرة الأولى، وإحساسي لا يخدعني؛ حليمة تخطط لاستغلال طيبتك. استمتعْ بها، لكن، لا تترك لنفسك أن تنقاد خلفها لأبعد من متعة عابرة. إنها عبدة؛ ولا تستطيع أن تتحرر من أخلاق العبيد. سيد مثلك، يحتاج إلى حرة! أعذرني؛ أنا لا أدسّ أنفي في شئونك الخاصة، هذا ليس من حقي. لكني أشعر أن وفائي لك، يلزمني بتحذيرك من عواقب بذل كرمك لامرأة لا تستحقه. النساء لا تزال تعاني من عقدة الدونية، التي هي وراء سخافاتهن، ووراء حقدهن على السادة مثلك. لماذا لا ترحمك هذه العبدة الحقيرة؟ هل نظرْت إلى وجهك في المرآة؟! هل تستحق منك امرأة لا تثير شهوة رجل، أن ترهقك، الليلَ كله؟ أعرف أن نارها لا تشبع، وأن أرْيَحيَّتك تدفعك إلى احترام إنسانيتها، لكن عليها أن تقدر نبلك، وأن لا تفلت لنفسها حبل نزواتها. إنني أفهمها، تريد أن توقع بك في حفرة إغرائها. سوداء! لديها طاقة جهنمية، وتعرف ولعك بالنساء. تخطط، لأن تمتص شبابك بمفردها، تحيطك بسياجها، هكذا تفعل النساء مع رجل يقع في شباك صيدهن. لا أريد إثارة شجونك، أعرف أنك انفصلت عن زوجتك لأنها أنانية، أرادت سجنك في قفصها المنتن الضيق. هل يمكن سجن رجل أسد مثلك؟! لو كنت زوجي، لظللت مخلصة لك، ولو ضاجعت نساء الأرض كلهن. أنت رجل، الحرية حق لك يا "سي السيد". يجب أن تتعامل الزوجات بهذا المنطق، وأن يعترفن بحقّ سادتنا الرجال بالحرية المطلقة، بما فيها الحرية الجنسية؛ استغفر الله من كل الشياطين، نحن مسلمون! هل تتزوج المرأة أكثر من رجل في وقت واحد؟! معاذ الله! هل ما يحلّ بنا من سخط الله علينا، جاء من شئ قليل؟! للرجل أن يتزوج من نساء كثيرات، هذا حق فرضه الله له. والرجل لا يشينه أن تكون له عشيقات. العرف الاجتماعي يقبل ذلك. بعض الفقهاء الكبار، جعلوا العرف أحد مصادر التشريع الديني. هذا يؤذي الزوجة، لكن عليها أن تصبر، هل تهدم بيتها وتشرد أبناءها بسبب علاقة بين زوجها وامرأة أخرى. مفكر، نصح بأن يمارس الرجال علاقات جنسية خارج إطار الزوجية، هذا نافع للزوج وللزوجة، يدفع الملل الذي يقتل الروح بينهما. هل هذا ارتكاب لفعل الزنا؟ كلا، الدين واسع ورحيم بنا. الزنا هو الفعل الذي يعاقبنا الشرع عليه إذا ثبت بأربعة شهود صادقين؛ هذا شرط لن يتوفر، هل يوجد في الدنيا أربعة شهود عدول لا يُعرف الكذب عن أي واحد منهم؟! والله لا يوجد بيننا نصف واحد لا يكذب! نحن أمة مجبولة من طينة الكذب! سامحني يا عمّي، أنا استرسلت في الكلام دون قصد، النبي تزوج ثلاث عشرة زوجة، عدا الإماء… محمد وحده من امتنا، من أول بدايتها وحتى نهايتها… هو الرجل الرجل، صلى الله عليه وسلم؛ هل يُعقل أن الزناة، سيتركون أربعة رجال لمشاهدتهم وإثبات الإيلاج بالمعاينة؟! ستقول لي: يثبت الزنا بالاعتراف! هأهأ.. هل مازال بيننا أحد يمتلك ضميراً حياً ليعترف؟ ثم.. النبي قال: إذا ابتليتم فاستتروا! ستقول لي: والخوف من الحمل لامرأة غير متزوجة أو لامرأة زوجها غائب؟! حسناً، لدينا جيش من الأطباء يطحنهم الضجر في عياداتهم، فاغري الأفواه، سيهبُّون لنجدة الحامل إذا طلبت إجهاضها، ولفتاة تخشى انكشاف فض بكارتها ليلة عرسها؛ الحمد لله لا يزال لدينا شهامة إذا كان هناك قبض مال!!".
احتسى أبو سامي القهوة ببطء شديد. وظل يقبض على الفنجان، ويحملق في رسوماته، بعد أن دلق بقاياه في الطبق الصغير الذي أمسكه بيده الأخرى. كان يمنح نصف سمعه لحديث هند. وانفلت نصف وعيه الآخر، شارداً بين التداخلات الفوضوية، في صفحته الجوانية، التي كان يحاول قراءتها، في الفنجان، فتبدو له الصور مشوشة، ومروّعة، تتناثر في انحناءاتها، أشواك وورود…"هذه حليمة"، قال له خاطره وهو يركز عينه في بقعة من القهوة الملتصقة على الفنجان من داخله.. "هل توافق على الزواج مني؟!".
لاحظت هند شروده الأسيان. قالت بشعور معجون من حنان أنثويٍّ فطريّ: "أنت بحاجة إلى الأنتعاش، ما رأيك في حمام دافئ يا عمّي؟ سيكون ذلك مفيداً جداً لك. وسيعطيك فرصة لنيل الراحة النفسية، وتستطيع أن تركن بعده للنوم. خلال ذلك، سأكون قد طلبت لك طعام الغداء من المطعم الذي تعوّدت أن تأكل فيه. ماذا تشتهي؟ أم تترك الخيار لي؟ جرِّبني!".
نظر إليها بامتنان، وبامتثال طفل، همّ بالنهوض. وفجأة، دهم إمام مسجده عليهما؛ قال بتلهف: "عساك بخير يا عمّي! راودني قلق شديد عليك لعدم حضورك إلى المتجر هذا اليوم!". أكمل عبد السميع، وهو يرمق هند، بنظرة مختلسة، وخاطفة: "خمّنت أنك هنا، جئت للاطمئنان عليك، أنت تعرف أنني احمل لك، وداً عمّيقاً!"؛
عاد عبد السميع، للنظر إلى هند، بعينين شهوانيتين فاجرتين، تفضحان رسالة اِلتياع، كما تفضحان دافعه الحقيقي وراء هذه الزيارة. قال بلحن مفخّم: "كيف حالك يا بنية؟!". رقّق لحن نبرته وأضاف: "هل سامحتني على ما بدر مني من عصبية تجاهك في زيارتي الأخيرة؟! أعدك أنني لن أفعل ذلك مرة أخرى! سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، أوصانا خيراً بالقوارير!".
وفيما كان أبو سامي، يتجه صوب الحمام، كانت عينا هند، تصفع قلب الشيخ بلهب إغراء أنثوي تأجّج، وهي تدير إليه ظهرها، وتنحني، لتندفع مؤخرتها، فتكاد يداه تنفلت من وقار كاذب مهزوز، لتقبض عليها، قبل أن تفرّ، وهى تحمل صينية القهوة إلى المطبخ، برشاقة، معجونة بالحذر الأنثوي، القابع في قاع النساء التاريخي..
غاب أبو سامي وراء باب الحمّام. وقبل أن يندفع عبد السميع، نحو المطبخ، قررت هند في خاطرها تعديل خطتها: "إذلال سامي بعد الزواج من أبيه، وإذلال أبي سامي، بالشيخ!". وابتسمت، ابتهاجا بهذا التعديل، واتسعت ابتسامتها، والشيخ يصيح: "كوباً من الماء، ليرحمنا الله يا آنسة!". وقبل أن تملأ كوباً بالماء، وهي لا تزال في المطبخ، كان عبد السميع، يقف قبالتها.. مدّ يداه فأمسك يدها، الممتدة إليه بالماء. قالت برقّة: "حضورك بركة يا مولانا!". دفع رأسه نحوها، ووضع كوب الماء، على سطح الثلاجة، وحاول لثم فمها، فلفّت عنقها، وهي تهمس: "هل أنت مجنون؟ أنا لستُ منهن!". أضافت بعيون تحدّق فيه، وترميه بغنج: "الصبر نصف الإيمان يا شيخي!". وداعبت أناملها لحيته، وهي تقول: "مثيرة!". تنهّدا معاً.. وانطلق عبد السميع، فغادر المكتب، وهو مشوّش ويحترق، ويحدث نفسه: "امرأة تجيد اللعب! ما أشهى امتلاكها!".
يعرف الناس عن عبد السميع، انه كان أشهر سارق للحُصر من مساجد غزة، قبل أن تُفرش أرضيتها بالسجاد. وكان عبد السميع، المدفوع بفقره، يُسوّغ عمله، بترديد القول الشائع: "ما يحل للبيت، يحرم على المسجد!". وذات مرة، سأل إمام مسجد: "هل باب الاجتهاد مفتوح أم مغلق؟!". أجاب الإمام: "الإسلام دين لكل الأزمان، ولذا، فإن باب الاجتهاد مفتوح"؛ فقال عبد السميع، بثقة فقيه، وهو لم يزل في أول شبابه: "تذكر يا سيدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في حديثه الشريف: الماء والعشب والكلأ، مشاع بين الناس؛ وأنا، عبد السميع، الفقير لله، أجتهد، وأضيف: وحصير المساجد أيضاً!". وأضاف، بالثقة ذاتها: "ألا تذكر يا مولانا الشيخ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يفرش مسجده بشيء، وأنه، صلوات الله وسلامه عليه، قال: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار! إذن قل لي، من أولى بحصير المساجد، أطفال المسلمين الفقراء، أم نار جهنم التي هي دار المقام للأغنياء؟".
يروي معارف عبد السميع عنه، أنه انتقل من سرقة حصير المساجد، الذي كان يوزعه على بيوت الفقراء في مخيمات اللاجئين، مجاناً، أو بشيء من الخبز، إلى سرقة الكتب الدينية، من مصاحف القرآن وغيرها، التي تحتويها مكتبات المساجد المتواضعة. وكان يفلسف ذلك بقوله: "المصلّون في المساجد، لا حاجة بهم إلى هذه الكتب، فإنهم بلغوا مستويات الإيمان التي تضمن لهم الفوز برضا الله وجنّته! ولكن الكتب، مطلوبة لأولئك الذين لا زالوا دون بلوغ درجة الإيمان العالية، التي تدفع المسلم إلى أن يترك متاع الدنيا، ويؤدي الصلوات جماعة في المساجد!". وكان عبد السميع، يوزع الكتب التي يسرقها، مجاناً أيضاً، أو يبيعها إلى تاجر كتب، بثمن بخس، بعد أن يتلقى وعداً منه، مشفوعاً بأغلظ الأيمان، أن يبيعها (التاجر) بثمن منخفض، ليمنح الفقراء، فرصة القراءة، المحرومين منها، لارتفاع أثمان الكتب، إلى مستوى لا يطيقه شعب قطاع غزة الذي تحيا أغلبيته تحت خط الفقر…
يتساءل عارفو عبد السميع: "هل أقلعَ عن فِسقه، بعد أن منحه أبو سامي وظيفة الإشراف على المسجد الذي بناه، الذي يصلى فيه عبد السميع، إماماً، لنفر قليل جداً من روّاده؟!". لا زال الغمز دائراً حوله، ولا زال يعتقد أنه "مصلح الزمان"؛ وعندما عيّرته زوجته، بقلة عدد المصلين وراءه، رد باعتزاز: "هذه شهادة لي! فإن كرام القوم قلة تتبع أكرمهم!".
سارعت هند، بالتوجه نحو باب الحمام، الذي خرج منه أبو سامي، يحمل ملابسه التي جاء بها، ويرتدي جلابية كان يحتفظ بها سامي لاستخدامها أوقات الراحة في المكتب. قالت وهي تهوي على ظهر كف يده اليمني، لتقبيلها، وبأدب، ينمّ عنه، انخفاض عينيها، قالت: "استحماماً بهيجاً لك، يا عمّي". حاول أبو سامي نزع يده من يدها، وهو يقول بنشوة: "البهجة لنا معاً!". احمرّت وجنتاها، ورفعت كفّه إلى جبهتها، وقالت: "بعد قليل، يكون الغداء جاهزاً".
تمدد أبو سامي على السرير. واسترجع ما دار في خَلَده، وهو في الرغوة الدافئة، التي استمتع بها، في بانيو الحمام: "الدنيا امرأة مطيعة، ومخلصة!". وصمت خاطره، لحظات، اجتاح خياله فيها، تاريخٌ مرتبك من علاقاته بالنساء، فبرزت، بقوة، في نفسه، حليمة في ليلته الأخيرة؛ فأغمض عينيه، وحمله النعاس، فاستغرق في نوم قصير، لكنه عميق ووصله بالمرحلة الجنينية؛ استغرقه بهدوء، إلى أن استيقظ، وصوت هند الناعم، يداعب سمعه، وأناملها، تتسلل بين أنامله، تدعوه إلى تناول الغداء…
دفعت نصف صدر دجاجة في فمه، وهي تقول بأمومة زوجة: "أنت تهمل صحتك، اسمح لي، منذ اليوم، أن أرعاك كما تفعل ابنةٌ لأب خدعته النساء، وانفضضن من حوله!". قال في خاطره: "هذا ما أحتاجه!"؛ وتساءل عما لو كان في مقدوره، أن يعترف لسماح، بأنها ابنته فعلاً، وأنه يرغب في استردادها، كإبنة، لتشغل في نفسه الفراغ والضياع الناجمين عن فقدانه لامرأة، تنقذ حياته من خراب يدمِّرها!
وفيما كاد يحسم أمره، ويتخذ قراراً بالزواج من هند، كانت الأخيرة، تبالغ في إظهار عنايتها به، بينما هي تحاول إخفاء قلق جواني ينهشها، يعود إلى ذعرها من احتمال حدوث حمل، إثر وقوع الاتصال الجنسي بينها وبين سامي. افتضاح الحمل، إذا وقع، سَيُرديها في حفرة سبقتها شقيقتها الذبيحة إلى مثلها. قالت في نفسها، وهي في زلزلة تقذف الحمم في قلبها: "سأكون الذبيحة الثانية بين شقيقاتي!". وراودتها نفسها، وهي تزدرد الطعام، بمرارة، أن تلجأ إلى طبيب للكشف عليها؛ ولكنها جفلت من هذه الفكرة، التي قد تعجِّل قتلها؛ فهي لا تثق بأن الطبيب الذي ستلجأ إليه، سيحفظ سرّها، وعلي عادة الناس في غزة، فقد يثرثر بقصتها، بين زملائه، وقد يضخم الحقيقة، فقد يقول إنها حامل بتوأمين، حتى وإن لم تكن حاملاً على الإطلاق؛ وبسرعة الضوء، ستصبح فضيحتها، خبراً يحتل الصدارة، في النشرات التي تذيعها محطات البثّ البشرية في مخيمها ، التي تعمل وفقاً لنظام الإنترنت، الذي يقدم لمستخدميه خدمات إخبارية، مجانية، لا تلتزم بمواعيد محددة؛ قالت في نفسها مستهزئة، متألمة: "نحن الأمة التي سبقت اختراعات الغرب التكنولوجية المتقدمة بقرون عديدة!". أفلتت منها ابتسامة، ورفعت رأسها الذي كان مطرقاً، وقالت وهي تقهقه بوقار: "قرأت في صحيفة اليوم أن انتخابات ستجري غداً في بلد عربي شقيق. عمّي.. هل سمعت النكتة التي تقول أن مواطناً أمريكياً، كان يفاخر بالتقدم التكنولوجي الذي أحرزته بلاده، والذي يسمح لها، بتحديد نتائج انتخابات الرئيس فيها، بعد ساعتين من إغلاق صناديق إدلاء المواطنين بأصواتهم؛ فرد عليه مواطن عربي، كان يستمع إليه، بقوله: نحن في البلاد العربية، سبقناكم بمراحل: نتائج انتخابات الرئيس عندنا، معلومة لنا، قبل إجرائها!".
ضحكا معاً. ولكن القلق استفحل بها: "إذا غابت الدورة الشهرية، فإن أمري سيفتضح؛ أمي، بتعليمات صارمة من أبي تراقب بناتها للتأكد من أن سلوكهن يلتزم بمعايير المجتمع وأعرافه ومعتقداته، وأنا منذ خرجت للعمل، أصبحتُ محلّ ريبة تطاردني؛ ألاحظ ذلك في العيون الذكورية من حولي! رباه، ماذا أفعل؟! لابد من زوج، وفي وقت قصير! أما قضية غشاء البكارة المفضوض، فيمكنني معالجتها؛ ليلة الدخلة، أستطيع إحداث جرح بإظفري، في جدار المهبل، ليسيل دمي، باعتباره دم البكارة؛ ومن السهل أن افتعل تألّمي من عملية الفضّ، وأن أضمّ فخذَيَّ، ليظهر فرجي، وكأنه ضيِّق ولم يدخله قضيب رجل من قبل! مشكلتي هي الحمل! هل سأتفادى ذلك، لو اصطنعت أنني مركوبة، وأن جني يعشقني ويضاجعني، وأنني حملت منه؟! صحيح، إن جهلنا نعمة، لكن أبي لا يؤمن بذلك، ولن يكون أمامي فسحة من الوقت، بين افتضاح أمري، وإعلان شيخ أنني وقعت ضحية لتلبس جنيّ لجسدي، وأنني حامل من الجنيّ الذي يعشقني. وما يدريني أن يقودني حظي العاثر إلى شيخ يُضمر العداء للمرأة، فيضحِّي بي، ويرفض الاعتراف بأنني ممسوسة بالجن؟!".
وقفتْ، خلف أبي سامي، الذي كان يغسل يديه، تحمل منشفة يجفف بها يديه. تناولها منها، بمشاعر اختلطت فيها ذكرياته المرّة مع زوجته السابقة، مع أحلامه المنيرة، وهو يتخيل هند، زوجة جديدة، لها مواصفات يبحث عنها. قال بحياء شاب تزايدت نبضات قلبه: "لم اكن أحيا قبل هذا اليوم!"؟
ردت: "أرجو أن لا تكون هذه مجاملة يقتضيها الموقف!".
انفتح قلبه لها، وسقط في هواها، فجأة. وقال في نفسه، وهو يراقب رشاقة حركتها، وهي تحمل الفاكهة إليه: "الحياة من غير دفء نسائي، قاحلة إلا من الضياع والعذاب!".
أسند رأسه على وسادتين أعدتهما له هند، وهو يتمدد على السرير، وقالت بحنان: "لابد أنك بحاجة إلى النوم. سأتركك، بعد أن تتناول هذه التفاحة. يقول المختصون أن تناول تفاحة في اليوم، يغني الإنسان عن زياراته للطبيب. يهمني أن تحافظ على سلامة صحتك يا…".
تمنى، في هذه اللحظة، أن تقول له: "يا زوجي". أغمض عينيه، وقرر الارتباط بها، وهو يبدأ في قضم التفاحة المقشرة، قبل أن يستسلم للنوم. ألقت غطاء زاهي الألوان عليه، وقالت بعذوبة: "نوماً بهيجاً لك"؛ وغادرت الاستراحة وأغلقت بابها بهدوء.
اغتال كابوسٌ هناءَ أبي سامي الذي نثرته، في ثنايا نفسه، نكهة الأنوثة المحبة، التي فاحت من طبخة هند. رأى شبحاً مبهماً، يطارده بفأس، وهو يلهث، فاراً منه، يكاد يختنق… نهض مفزوعا من فراشه، خلع الجلابية وارتدي ملابسه وخرج إلى حجرة مكتب سامي. تنحنح، لإشعار هند بوجوده. كانت تستلقي على الأريكة الكبيرة، تعبث بها الهواجس، وتنزف الدموع من عينيها.. هبّت واقفة، وقالت وهي تجاهد غمّها المرسوم بين حاجبيها: "حالاً، سأعد لك القهوة".
وقبل أن تغادر المكتب، وقفت أمامه، خافضة رأسها، وقالت بأدب: "هل تمنحني يا عمّي شرف القيام بتهيئة مناخ مناسب لراحتك في البيت، خلال وجودك خارجه". أضافت بخجل: "أنا لا أشكك في سمو أخلاقك، وإني واثقة أنك تتعامل معي مثل ابنتك، ولكنك تعرف أن الناس تُضمر السوء، ويهمني أن تظل سمعتك، وسمعتي بعدها، نقية كبياض قلبك الطاهر، وأن تبقى سيداً للرجال كما كنت دائماً!".
أومأ برأسه، وقال ببهجة قلب طفوليّ أستعاد حضن أمّه، بعد أن ضلّ عنها منذ عهود: "هل تمنحيني أنت شرف زيارة أهلك هذا المساء؟".
ردّت والحياء يصبغ وجنتيها بحمرته: "مجيئك إلى بيتك الصغير فخر لي، ولأسرتي".
وانطلقت وقلبها يشتعل ببهجة لم تخبرها من قبل. ناداها بصوت يتألق بالنشوة؛ استدارت، فتقدم نحوها، فاشتبكت عيونهما ورقصت روحهما على لحن الأنشودة الربانية الخالدة… كم لبثا وهما يغرِّدان بصمت؟ لا يدريان!
همست بشفتين خالهما أبو سامي قرنفلتين تنثران جمالاً نورانياً معطراً ببهجة الحب: "أمرك يا..".
دسّ في حقيبتها اليدوية رزمة من الأوراق المالية من فئة المائة شاقل إسرائيلي، وقاوم محاولتها لإعادتها إليه، فانهالت على يده تقبِّلها، وهرولت خارجة صوب السوق؛ فاشترت فستاناً سماوياً، أنيقاً وقورا، وشبشباً أحمر، وطقمين للقهوة التركية والقهوة النسكافيه، وثالث للمشروبات الباردة، ومعالق وشُوَك وصواني وأطباق، وفاكهة وحلوى، وقهوة بأنواعها، وحليبا، وتسالي، ومنفضة سجائر، وأشياء أخرى من لوازم الضيافة، وتذكّرت، قبل ركوب سيارة الأجرة التي ستنقلها إلى مخيمها، أنها نسيت شراء ورود، وفازة لها؛ فشقّت شوارع غزة، تبحث عن ورود، تليق بفرحتها، ولم تأبه بما سيكلفها ذلك من مال. تريد باقة كبيرة، محمولة في سلة بلون الذهب، من أزهار جميلة، فوّاحة العطر، لتحضن رائحتها الزكية، مخيمها بكامله... قالت لنفسها: "هذا يوم انتصاري الأكبر!". وتذكرت شقيقتها المذبوحة؛ وظلّت صورتها، تصرخ في وجدانها، حتى وصلت بيتها. حضنت أمها، بكت على صدرها، زفّت هند لأمها، خبر عزم أبي سامي، على خطبتها. بكت هند وأمها، بكاء اختلطت فيه فرحتيهما، بحزن عمّيق، وذبح لا يغادر ماء ولا هواء عائلة هند كلها. "سيأتي هذا المساء، ليطلب يدي من أبي"؛ فالت هند وهي تمسح دموع أمها.

14
بعد مغادرة هند للمكتب، انكفأ أبو سامي، على صمت انطفأت فيه بهجته. ماضيه ذكريات سوداء تنهش حاضره… غاب في الشرود. صرخت جوّاه طفلة سوداء تستغيث. استعاد وعيه المشوش. سأل نفسه: "هل قراري بالزواج من هند يعود إلى ما بذلته لي من عناية واحترام ينتشي به الرجل العربي ، كما لو كانت زوجتي المتفانية في خدمتي، وأُمي الرؤوم أيضا؟! هل قراري صائب، أم هو قرار عجول، لن يصمد أمام الحقائق، التي يخفيها الرجال والنساء، بعضهم عن بعض؛ ولكنها لا تخجل في نهاية المطاف، من الخروج من الحصار المؤقت المفروض عليها؟!".
" الخروج من الحصار؟!"؛ هذا ما يبحث عنه أبو سامي: "هل يحررني الزواج من هند، من كوابيس حياتي التي تضطهدني؟ أم سيكون هذا الزواج كابوساً جديداً، في حياتي أنا المنفلت الضائع؟ المرأة سجن يخنقنا؛ وحياتنا نصفان: نصف أول نقضيه، ونحن نسعى إلى الوقوع في شرك المعتقل الزواجي، ونصف آخر يقتلنا، ونحن نجاهد للتحرر منه! وأنا المحاصر في كل السجون، أبحث عن حريتي في سجن امرأة فلسطينية، ضيّق وعقيم؟! هل أواصل المشوار مع هند، أم أخذل بهجتها، مثلما يفعل كثيرون هنا؟ّ!،
هند، أيضا، تخشى الخذلان. سألتها إحدى شقيقاتها: "هل تعتقدين أن جادّ يا هند؟". أجابت هند وهي بين النشوة والشرود: "أظنّه كذلك. قرأت صدقه في عينيه!". الشقيقة في شكّ من الأمر: "كثيرا ما نقرأ ما نرى، بأوهامنا!". انتقلت عدوى الشكّ إلى هند. قالت في سريرتها: "العادة هنا، أن ننسى وعودنا، في اللحظةذاتها، التي ننتهي من النطق بها".
قام أبو سامي إلى المطبخ. صنع فنجانا من القهوة. شرد في ضياعه، إلى مدى موغل في إحباطه، فاق منه، على صوت عنيف، أطلقته ريح تشقّها طائرة حربية اسرائيلية، تنفّذ غارة، اغتالت صبْية كانوا يلهون. فارت القهوة وفارت نار سيئاته. طفحت القهوة فأطفأت نار الموقد؛ فقال لنفسه: "هل تطفئ هند، ناري؟! أَمْ تشحن بطارية ضياعي، فتتأجج النار التي لا تزال تحرقني منذ أوائل عمري؟! شتتني الأيام، فهل تلمّ هند أشلائي؟! أم تُبعثر رمادي بين جحور امرأة تخنق حرية الذكورة؟! أنا بحاجة إلى امرأة تحبني مثل أمي، حملت عبء وجودي، أسلمني حُبها لفضاء الحرية!". ارتشف قهوته المرّة، واصل حديثه مع نفسه: "الزوجة امرأة تُحبّك طالما أنت عجينة تعبث حريتها بها. الحبّ حرية، ولكنه في عقول نسائنا، شهوة تملّك قاتل. شعار النساء عندنا: أنتَ لي، أو: الموت لك! هل يختار العاقل موتَه؟! أأختار موتي؟! أأنا حيّ؟ هل يملك الحياة رجل يفقد الروح؟! أنا بلا روح! هل تمنحني هند الحبّ فتنفخ الروح في جسدي الخائر؟! رحماك ربي؛ اهدني!!".
هاتف أبو سامي، استشاريا نفسيا. عرض ما يجول في نفسه، ثم سأل: "اصدقني النُصح!". "أخرج من قمقم ظلامتك"؛ قال المستشار.
-"سيدي الدكتور، هل تعني أن قراري بالزواج من هند صائب؟!".
-"من حقك، ومن واجبك، أن تفكر مليّاً، وبهدوء، قبل أن تتخذ أي قرار، خاصة إذا كان بأهمية هذا القرار المتعلق بالزواج. ولكن، عندما تحدد موقفك، لا تتردد لحظة في التنفيذ؛ هكذا تخرج من أزمتك، لا يستطيع أحد، أن يخرج منها بالنيابة عنك. أنا أستطيع أن أساعدك في الوصول إلى قرار، لكنني، لن أتّخذ قرارا بشأنك. اتخاذ القرار، وتنفيذه، شأنك أنت".
-"أشعر بالتردد. وهذا يصيبني بالشلل. أنا تاجر؛ جبان في اتخاذ القرارات الهامة، وتنقسم ذاتي بين خانتيّ الربح والخسارة. ارجوك، ساعدني!".
-"القرار مغامرة، وكل قرار ينطوي على احتمالات الربح والخسارة؛ هناك خيار واحد فقط، أكبر من أن يندرج في خانة الخسارة: الحبّ النوراني. هل عرفته؟ قد يكون ما مرّ بك، قد حجب عنك هذه النعمة الكبرى. أنت بحاجة شديدة وعاجلة للتحرر من ماضيك. الماضي يسجنك في ظلاماتك. هذا داؤك. الحبّ دواؤك!".
"الحبّ!!". صمت أبو سامي. وقفز في الهواء، ثمّ دار حول نفسه، كما لو كان في حالة تشبه انجذاب المتصوفين، رددّ ما قالَته رابعة العدوية، وما غنّته المطربة أم كلثوم: "أحبّكَ حبّين، حبّ الهوى وحبّا لأنكَ أهل لذاكا".
قال الدكتور: "الحبّ يحرّرنا ويطهّرنا". صاح أبو سامي بعفويةطفولية:"أحبّكِ ياهند!". قال الدكتور: "أهنِّؤك! أنت الآن في درب الخلاص". تابع: الحبّ يمنحنا الحرية، وحرية الحبّ هي المُخلِّص. ها أنت تمحو خطاياك كلها". يعرف الدكتور تاريخ أبي سامي بتفاصيله. أضاف: " المحبّون هم الأحرار، والأحرار هم الأخيار يا صديقي! ها أنتَ ولجت المطْهر. ها أنتَ بدأتَ معراجَك نحو عرش. يا محمود سامي، بدأتَ تطَهرك، فانطلق، ربّة بهجة الحبّ تحفظك وترعاك والنّور يشعّ منك وفيك وحولك!".
يشترك أبو سامي، مع عائلة هند، في الانتماء إلى قرية واحدة في فلسطين.
وحين انتهى حديثه الهاتفي، مع مستشاره النفسي الروحي، ارتسمت في ذاكرته، بجلاء وحيوية، مأساة ضياعه، في رحلة هجرته إلى غزة، عندما انفصل، في كثافة الظلام والهلع، ونيران الحرب، عن أمه وأبيه. وفي رحلة هروبه وضياعه، ظلّ يحظى برعاية أهل قريته، الهاربين من الموت أيضا، إلى أن وصل غزة،. لكنه فقد الرعاية والحبّ والحنان والاحترام، من ناس سلبتهم ضغوط التعاسة، مشاعر اتتعاطف، بعد أن نضبت موارد الحياة الأساسية، واشتدت الضائقة على المهجَّرين رُغما عنهم.
محمود سامي، مزروع في المأساة، عانى قساوتها، وأدمى شوكُها حَلقه، كما هو حال أبناء قريته، وحال شعبه كلِّه. قال له أبو هند: "نحن ضحايا أبشع جريمة في التاريخ الإنساني. أبو هند، معلِّم تاريخ.
كان أبو سامي يعرف أن عائلة هند، من قريته. ويخمّن، أن هند سليلة أصول، كانت من بين من منحوه الرعاية، بعدما فقد أهله، خلال رحلة الضياع الهارب من الموت.
"لعلّ هذا، يفسر اندفاعك العجول، نحو الزواج من هند"؛ قال مستشاره النفسي. أضاف: "رغبتك يا أبا سامي بمصاهرة عائلة هند، تكشف حاجتك الملّحة، لاستعادة أحضان ضمّتك، في شدّة هلعك من فقدان الأهل وتهديد الموت. أنت تندفع، من لاوعيك نحو استعادة امتلاكك إلى ما فقدته من رعاية وحب وحنان واحترام".
يحثّ أبا سامي، شعور بالحاجة إلى استعادة اندماجه في حالة، انخلع منها، عندما سلك طريق الأشرار. تكبر في نفسه، الرغبة الجامحة، للتصالح مع مجتمعه.
فسَق أبو سامي عن معايير الجماعة التي منحته رعايتها في ذروة أزمة نفسية. لم يتجه فسقه، اتجاها إصلاحياً، كما يفعل فاسق روحي. وانحرف، عن خط الشرف الوطني. وتعاون مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة. ووقف وراء نجاح جهاز أمن للعدو، في إلقاء القبض على أعضاء شبكة مقاومة وطنية هامة. وهو لا يزال، حتى هذه اللحظة، يدير عمليات ترويج سلع تموينية إسرائيلية، في سوق غزة، غير صالحة للاستخدام البشري، وذلك بالتعاون مع مستوطنات اليهود التي لا تزال مقامة في قطاع غزة (وفي الضفة الغربية)، رغم قيام السلطة الوطنية فيهما. قال له مستشاره الروحي، الذي هاتفه أبو سامي، قبل توجهه إلى خطبة هند مباشرة: "تعاونك مع الأعداء، المسئولين عن ارتكاب جريمة خروجك من قريتك، وضياعك عن أهلك، وأنت طفل، مما أفقدك حقك الأساسي في الأمن، والحرية، والبهجة، وهي مسائل فطرية، حفرت في أعماق نفسك، وفي غياب رعاية روحية؛ أخاديد مظلمة، وفّرت بيئة لافتراس الشيطان لك، والذي تهاجمك كوابيسه، في صحوك ونومك", ردّ طارق أبواب التوبة: "نعم، أنياب كوابيسي تنهش قلبي!".
حكى أبو سامي، لدى زيارة قام بها لعيادة مستشاره النفسي الروحي: "اقتحم ابني، ذات مساء، خلوتي، التي آوي إليها، في مزرعة، اشتريتها، من مال جائني من سبل غير مشروعة، منها ما تقاضيته، مقابل تعاوني مع أجهزة الأمن الإسرائيلي، لتنفيذ عملية للقبض على مجاهدين، نفّذوا عملية عسكرية جريئة وناجحة، ضد اسرائيليين، في موقع قريب من قريتي التي هاجرت منها عام 1948. كنت شارداً بين أنياب رعب يفترسني. وكانت نفسي مشدودة إلى النجوم المتلألئة، في سماء ربيعية صافية. أفزع الرعبُ المحفور في وجهي، ابني سامي. خالني في خطر لا منجاة منه. صرخ في هلع: أبي، ما بك! انتفضتُ في ذعر مجنون. انقضضت على ابني؛ تفلَّت مني، نزفت من عينيّ، ومن قلبي معاً، دموعاً حارقة، حملتني إلى بطن إغماءة، صحوت منها، على صوت مؤذن صلاة الفجر، الذي تسلل إلى عزلتي، من مسجد، أظن أنه مسجد مخيم، شبيه بالمخيم الذي تقيم عائلة هند فيه!".
"استنهضتكَ الروح فلا تخذلها، أيها الصالح في قلبك!". قال المعالج، وهو يضغط بحنو على كف أبي سامي، وبحبٍّ مبتهج يسري من يده، ويضئ في عينيه…

15
تعاني عائلة هند، من ضراوة الفقر، منذ أن دفعت ثمناً باهظاً، لإيمان الأب، بما كان يلقنه لتلاميذه، من أن اليهود، الذين احتلوا فلسطين، هم أفْجر وأجهل وأظلم وأضّ وأفسد مجرمي التاريخ الإنساني كله.
ولم تحظ عائلة هند، بحياة باذخة، طوال عمرها، مثل تلك التي يحياها أبو سامي، منذ حدوث الانقلاب الفجائي له، بعد أن ترك مهنة مسح الأحذية التي كان يعتاش منها. ولم يسعف المرتب، الذي كان يتقاضاه، أبو هند، على توفير الرفاهية لأسرة يكتظ بها هواء بيتها الضيق. ولكن مرتب العائل كان كافياً لتوفير معاش الأسرة، المحاذي لخط الفقر، وفقاً لمستوى الدخل العام المنخفض في قطاع غزة، البائس.
تآمرت السلطات الإسرائيلية المحتلة في قطاع غزة، على مدرس التاريخ، في مدرسة لوكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين. لم تواجهه باتهام مباشر، مسبب بما يدافع عنه من معتقدات وطنية، بوسيلة التعبير عن الرأي، الذي تضمن التشريعات العالمية، حق الناس في اللجوء إليها. فالإسرائيليون، كان أبو هند، يقول لتلامذته: "يزعمون أنهم واحة الديمقراطية في غابة الدكتاتورية العربية، ولكنهم في الواقع، أعداء شرسون لحرية الإنسان!". قال أيضاً: "الديمقراطية عقيدة سياسية ترتكز إلى الأخلاق المؤمنة، بحق الإنسان، كل إنسان، في الكرامة والأمن والبهجة. والإسرائيليون، يعتدون على هذه الأخلاق منذ حرب الإبادة الجماعية، التي مارسوها ضد مواطني فلسطين، التي أرغمت الأهالي الشرعيين، للأرض الفلسطينية (التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني، حتى قيام دولة إسرائيل) على الفرار من ديارهم، والعيش في ظروف لاإنسانية. ستبقى إسرائيل وصمة عار في جبين تاريخ الأخلاق الإنسانية، تمارس هجمتها ضد الحقوق الفطرية للإنسان: حق الحرية والأمن والكرامة والحب والبهجة في وطنه التاريخي المستقل من أي احتلال أجنبي مغتصب لأية ذرة من ترابه".
أبو هند، ردد الفقرة الأخيرة بثقة أغاظت الحاضرين، بما فيهم محامي الدفاع الإسرائيلي عنه، في محاكمته التي عقدها الاحتلال له، بعد القبض عليه بتهمة حيازة مواد ناسفة في بيته؛ كان عملاء للاحتلال، قد أسقطوها، في الظلام الدامس، من فوق الجدار المنخفض للبيت، قبل أن يداهمه المحتلون، ويقتادوا أبا هند، الذي كان يصرخ في وجوههم، وهم يكبلون يديه: "هذه مكيدة حقيرة، مثل حقارتكم، أيها الأنجاس!".
انزنقت سيارة أبي سامي، في الشارع الذي إنزنقت فيه قبل سنوات، سيارة المحتلين الإسرائيليين، التي حملت أبا هند، إلى معتقل قضى فيه فترة طويلة، والذي خرج منه، أشد صلابة، في موقفه، تجاه إسرائيل؛ الذي يصفه، بأنه موقف أخلاقي، والذي يدعمه، برأي شيخ المؤرخين، وفيلسوفهم، أرنولد توينبي، البريطاني، صاحب الكتاب الشهير: "دراسة في التاريخ"، والذي يذهب توينبي فيه، إلى أن دولة إسرائيل، ظاهرة مضادة لمنطق التاريخ، وان مصيرها إلى الزوال. ويؤمن أبو هند، أيضاً، بتفسير فلسفي، يقول إن إسرائيل، تجسيد لعقيدة الغيتو، التي هيمنت على الوجدان التاريخي لليهود، والتي تعكس إنغلاقاً نفسياً، يترجموه، بعداء مضمر للإنسانية، يمارسوه بالفعل، ضد شعب فلسطين الأعزل. ولازال أبو هند، يعلن إيمانه بمعتقداته؛ ويقول: إن إبرام اتفاقيات فلسطينية إسرائيلية للتمهيد لإحلال سلام، على قاعدة الاعتراف بحق إسرائيل الشرعي في الوجود، والأمن، لا تلزمه بالتراجع عما يرى أنه موقف عقلاني إنساني منفتح، يرفض الاعتراف بشرعية عدوان على حق التاريخ في التقدم الأخلاقي، والتحرر من فكر منغلق وأسود ورجعي، مثل الفكر الذي تبنته الحركة الصهيونية، ولا تزال تتبناه، في الجوهر، دولة إسرائيل.
لم يسمح ضيق شارع بيت عائلة هند، لأبي سامي، أن يفتح باب سيارته للنزول منها. ولتفادي ذلك، أوقف السيارة، بحيث يوازي بابها، الأمامي، الأيسر، باب بيت عائلة هند، المفتوح، لاستخدام فضاء الحوش الداخلي للبيت، مجالاً لحركة باب السيارة، التي أثار مجيئها، دهشة أهالي حارة هند، خاصة النسوة، اللواتي تهامسن، من فوق الأسوار المشتركة لبيوتهن، يتساءلن، عن معنى حضور رجل، إلى بيت أبي هند بهذه السيارة التي تشي بثرائه، والذي هبط، بحياء، يحمل باقة ورد، كبيرة،وعدداً من أكياس، وصناديق، وددن لو يعرفن ما بها.
قال أبو سامي، وهو يصافح والد هند: "لماذا شارعكم ضيق لهذا الحد؟!". رد أبو هند، وهو يرحب بضيفه: "الواقع أن سيارتك لم تصنع لدخول مثل شارعنا الذي يعد واسعاً بالقياس إلى شوارع أخرى كثيرة في المخيم، ضيقة إلى درجة لا تسمع بعبور إثنين، يسيران جنباً إلى جنب، فيها. الحمد لله، نحن محظوظون. أهلاً وسهلاً. تفضل، أنت في بيتك، وبين أهلك!!".
مجاملاً ضيفه، وهو يدعوه للجلوس، اعتذر أبو هند، عن تواضع بيته، وتواضع أثاثه. وقال بافتخار جاهد أن لا يظهر في نبرة صوته: "أنا أحد أهالي هذه الحارة التي لا تزال تحتفظ بالطابع القديم للمخيمات. صحيح، إن كثيرين من سكانها، يستطيعون هدم بيوتهم القديمة. وبناء أخرى، بالحديد المسلح،خاصة أولئك الذي يعملون في المناطق المحتلة عام 1948، أو في المستوطنات الإسرائيلية في المناطق المحتلة عام 1967، ولكنهم، لسبب ما، لم يتخلوا عن بيوتهم التعيسة؛ قد يكون ذلك، من باب الوفاء للمرارة، وقد يكون من باب الوفاء للأمل، الذي راودنا بالرجوع إلى الديار التي هاجرنا منها عام 1948".
واصل والد هند، حديثه، وأبو سامي يصغي له بشرود: "أما أنا، فإن وضعي المالي لا يسمح لي، بالتفكير في الخروج مما أنا فيه. إسرائيل لن تمنحني إذنا للعمل في المناطق التي احتلتها عام 1948، ولن تمنح أحداً من أبنائي أيضاً، هذا إذا قررت، أن أتراجع عن موقفي الذي يرفض مبدأ العمل بهذا التصريح. كيف أعمل على تقوية اقتصاد عدوي أو أشارك في بناء مستوطناته؟! كيف أعمل مثل عبد، لدى محتل لأرضي. ولن أضع نفسي في موقف مهين، ويومياً، وأنا اعبر من معبر بيت حانون (إيريز)، أو، من بوابات المستوطنات. الجوع كافر!؛ أوافق؛ ولكن خيانة المبدأ، كفر أشد. الحمد لله، الله ساترها معنا، والذي يرضى بالقليل، يبارك له الله فيه!".
كانت كلمات والد هند، خنجراً يذبح شرايين ضيفه، جملة واحدة. "مصاهرتي له تطهرني. إنه رجل شريف. ما يقوله قاس، لكن الله جعل عذابه قاسياً ليطهر التائبين في الدنيا، وجعله أقسى في الآخرة، ليطهر المسلمين الذين يموتون وهم على فسقهم. الحمد لله، الذي منحنني فرصة للتوبة على يدي والد هند"؛ قال أبو سامي في داخله.
أطرق الرجلان، في لحظة مشتركة. تجدد في نفس والد هند، شقاؤها. الذي لم يبرحها، منذ ذبح ابنته الكبرى. ولدى أبي سامي، فإن هذا العمل، يضيف إلى رصيد الاحترام، الذي خطيت به عائلة المذبوحة، مقداراً كبيراً، يفي، بالحاجة النفسية، التي يؤرق فقدانها، مشاعره:"الزواج من فتاة، هو زواج من رصيد عائلتها"؛ قال في خاطره؛ وأضاف: "سيخفف هذا عني عذاب الضمير الذي لازمني منذ ذبح والدة سماح؛ فالشرفاء مثل والد هند، يذبحون النساء أيضاً، على خلفية شرف العائلة". وابتسم، لكنه تنهد واغمض عينيه، وهو يستعيد صورة والدة سماح، في ليلة اجتماعه بها للمرة الأولى:
"استسلمت لنزوتي دون مقاومة. منحتني إحساساً برجولة كانت تخذلني وأنا أختبئ من مطاردة ملثمين لي، كانوا يلاحقونني للثأر مني عن سلوك مشبوه لي.. اقتحمت سياج مزرعة نائية، كانت عائلة أم سماح تقيم فيها. كان البرد قاسيا والليل مهجورا من الطمأنينة، في زريبة مواش لا تغلفها الأكاذيب، التي لا يرتكب إثم الإصرار عليها، من الأحياء أحد غير نبي البشر. كانت الزريبة تعج بنكهة الطبيعة الجنسية، التي تخلص الحيوانات لبراءتها. اقتربت أم سماح، مني، ارتعدتُ من الهلع، وهي تلمس ظهري من خلفي. استدرت إليها بعد الاطمئنان إلى رقة صوتها، ودفئه. ارتميت عليها بدافع لم أتبينه، شممت رائحة أيقظت في ضياعي فجر طفولتي. حضنتها بعنف رجل يتشبث بالحياة، في لحظات خال أنها الأخيرة من عمره المهدر. سقطت على الأرض، وانتثر الطعام الذي كانت تحمله لي، في شقوق الظلام الدامس، الذي لم أتبين منه غير أسنانها البيضاء. وقعت على فمها مثل صاعقة. كان جسدها طرياً ومشتعلا، وكان لهاثها تحت قبضة شفتيّ الحديدية، ناراً زادت حريقي، الذي هدأ، بعد دفق خالط الدم النازف من بكارتها.. بكت بصوت كانت تخنقه، واستلقيت أنا على ظهري، تشملني بهجة ربانية لم أذق طعمها، لا من قبل ولا من بعد!".
وفي الطريق من عيادة الدكتور الروحي إلى بيت عائلة هند، استفحل لدى أبي سامي، الشعور بعذاب الضمير، وساءل نفسه: "هل تنقذني هند من شقائي المزمن؟ هل تنقذني من اضطهاد الشياطين لي؟ هل ترأف بي، وتعفو عني أنا القاتل، وهل تعفو عن أبيها؟ هل يسع صدرها جرائمي كلها؟ فإذا كان ما مضى مني، شيئاً يمكن نسيانه، فكيف تنسى لي، جريمة تحمل اسم سماح، لا زالت دماؤها تغلى على سكين تذبحني وتذبح معي ابنتي التي لا أجرؤ على الاعتراف لها بذلك؟! هل أستطيع أن أواجه سماح، باعترافي بحقيقة علاقتي بها، وبحقيقة مؤامرتي على أمها، التي شاركتني فيها خادمتي، التي أجهضت، بدورها، حملاً من علاقتها معي؟! هل أستطيع أن أواجه هند بحقيقة سماح، التي يفضحها بطنها، وأن أقول، إن والد جنينها هو أنا؟ هل تحررني مصاهرة والد هند، الشريف بفقره، وبمعتقداته، وبسلوكه، من العار الذي يلفني ويحشوني؟! هل تكفي مياه المعمورة كلها لتنظيفي من دمي النجس؟! هل كنت سأتطهر، لو أن أطفال الانتفاضة رجموني، بكل حجارة فلسطين؟! هل يطهرني حبك يا هند، يا وطني المفقود؟!".
وقف، يواجه البحر المضطرم، ومضى يحدث نفسه: "ما أوقحني! أحمل خطايا أهل الأرض على كاهلي، واذهب لأمد يد قاتل غادر نجس، لتصافح رجلاً طاهراً وصادقاً، واطلب مصاهرته! أنا أستحق أن أُلقي بنفسي في بطون حيتانك يا بحر غزة، لعل رحمة الله الواسعة، تنقي روحي من دمي النتن، المتخثر في قلبي الفاسد؟! ألا تخجل أيها المنافق الكاذب الخائن المارق، الملعون على كل لسان، أن تطرق أبواب الشرفاء وأن تدخل بيوتهم الكريمة؟! أأعود؟! أريد أن أتطهر! والد هند كريم لن يغلق في وجهي طريق الله، الكريم الأعظم، الذي لا يرد تائباً، وقف ببابه! اغفر لي، يا رب! أريد أن أبدأ من جديد، لا تخذلني، يا ذا الرحمة الواسعة!! وانقذني من رداءة سمعتي التي تجعل حياتي علقماً؛ فهل يا هند، أنت خلاصي؟!".
الترحاب العفوي، الذي حظي به أبو سامي، في منزل عائلة هند، أطلق لديه، مشاعر متحررة، مبتهجة، أضاءت داخله،وتساءل بتفاؤل: "هل وجدت أهلاً؟!".
جلس دون تحفظ، على الفراش المتواضع، المطروح بنظام مريح، فوق حصيرة، تشي بأنها تعود إلى سنوات قديمة، وأسند ظهره، إلى الحائط الذي يبكي بصمت، من رطوبة برد تنهش مساحات كبيرة منه. صافح أشقاء هند، الذين جاءوا للترحيب به، بحماس شباب، والذين أصروا على أن لا يقوم لهم، لمصافحتهم. رددوا كلمات احترام وود.
بحلق، في لحظة شرود طارئة، في سقف ينذر، بأن الضجر استفحل به، وأنه على وشك الانتحار؛ فارتد إلى شروخه، وغاص في ذكرى قديمة، انتشلته هند منها، وهي تلقي التحية، وتحمل، بحياء، صينية القهوة. اتجهت نحوه. حدق كل منهما إلى عيني الآخر، والأب والأشقاء، خافضي الرؤوس، صامتين. قالت بما يشبه الهمس: "أهلا بك"، وخرجت مسرعة، بوجه طافت به حمرة الخجل.
وبدافع الرغبة، الكامن، في الاعتذار عن سوء أحوال عائلته المعيشية، قال أبو هند، إن المحنة التي لحقت باللاجئين الفلسطينيين، لا تزال تضطهد إنسانيتهم، وحقوقهم في الحياة الكريمة. أضاف بحدة: "مجرمون، ولن يفلتوا من عقاب التاريخ الصارم!".
قال شقيق هند، الملتحي، وبنبرة حاسمة: "ستنتهي دولة إسرائيل بعد 25عاماً. هذا حكم الله، جل جلاله. هكذا قال زعيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشيخ المجاهد احمد ياسين".
شارك في الحديث شقيق ثان لهند: "رئيس حزب الله اللبناني الشيخ حن نصر الله، فال نهاية إسرائيل ستكون بعد عشر سنوات".
اندفع شقيق ثالث، فقال: "لماذا نتفاوض معهم للتوصل إلى حل سلمي إذن؟!".
انكمش أبو سامي، والعيون تتجه نحوه. هز رأسه، وبحلق في الباب الذي يكشف، من جهته الأخرى، عن فضاء شبه معتم، يرقد في قاعه، أثاث متقادم.
"ستزول إسرائيل لأنها لا تستند إلى الحقائق التاريخية؛ عالم أثار من علمائها دحض ادعاءات اليهود بأن فلسطين كانت وطنهم القديم. وقال لا صحة للأخبار التوراتية عن قيادة النبي موسى للإسرائيليين القدماء في رحلة الهروب من فرعون مصر، والتوجه إلى فلسطين، الوطن الموعود لهم، من الله، كما يزعمون. والتوراة تشهد بأنهم غزاة. فلسطين كانت مأهولة بقبائل عربية. وداوود وسليمان، كما قال عالم الآثار الإسرائيلي، أقاما مملكتين هزيلتين، وفي مساحة صغيرة جداً، من فلسطين، ولوقت قصير!!"، قال أستاذ التاريخ، والد هند.
أضاف شقيقها المتدين: "فلسطين أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عنها. والوعد الإلهي لسيدنا إبراهيم، بأن تكون فلسطين لأبنائه، انتقل إلى المسلمين.لم. يعد شعب إسرائيل هو شعب الله المختار، نحن المسلمين خير أمة أخرجت للناس. والله يورث الأرض للصالحين، وليس للفسقة قاتلي الأنبياء!".
اخترقت السهام قلب أبي سامي، وخطر له أن يستأذن بالانصراف، لولا أن صوتاً أنثوياً متهدجاً، لكنه حنون، انطلق: "أهلا وسهلاً بريحة البلاد، والجيران القدماء"؛ رد ببهجة من استأنف الحياة الآمنة: "أهلاً بك يا ستي الحاجة"، ونهض بخفة، ليصافح والدة هند، ويضغط على يدها، ويدعوها للجلوس بنيه وبين زوجها. وفي سريرته، قال: "الرجال يذبحون النساء، لكنهن، دائماً، تنقذنهم في الأوقات الحرجة!".
راودت الرغبة والد هند، لاستئناف الحديث في موضوع شرعية إسرائيل، وكان يعتزم القول أن إسرائيل فرضت وجودها بالقوة الهمجية، التي انتزعت من العرب اعترافاً بها، ولكنه اعتراف لن يصمد في المستقبل. وعندما نطق أبو هند، بالحروف الأولى، مما كان ينوي التحدث به، ارتفع آذان العشاء، فأسدل الستار على أفق الجلسة، ولاذ الجميع بالصمت، الذي يقطعه، ترديد الآذان، من خلف صوت الميكرفون، الذي شق، أمام أبي سامي، درباً صاعدا لله، لمناجاته، والتوبة إليه…
لدى انتهاء الآذان، توجه الشاب الملتحي إلى أبي سامي بالسؤال: "هل نذهب للصلاة في المسجد، إنه ليس بعيداً؟!".
تدخل الأب بسرعة: "صلوا هنا!". والتفت نحو أبي سامي: " تفضل للتوضؤ!". رد الأخير: "لست بحاجة، إذا كانت الحاجة أم هند، قد قررت أن تشرفني بأن تكون حماتي؟!". قالت والدة هند التي كانت تهم بالقيام، بعفوية: "ربما لعبنا معاً في طفولتنا، في قريتنا التي هاجرنا منها عام 1948؛ أنت هنا في بيت أهلك!".
أقيم للصلاة. دفع أشقاء هند أبا سامي ليئمهم. جاهد للإفلات من إصرارهم، فإن حصيلته من القرآن، لا تؤهله للإمامة في صلاة يجب أن يقرأ القرآن فيها جهراً. ومع ندرة ما يحفظ من آيات، فإنه لا يحسن قراءة القرآن على حسب ما تقتضيه قواعد التجويد. والأهم من ذلك، لديه، هو أنه لم يأت إلى هذا البيت لإمامة أهله؛ "جئت إلى هنا للتطهر"؛ قال لنفسه، وهو يقاوم محاولات الشباب لتقديمه عليهم؛فجدد الاعتذار وهو يتلعثم في كلام يحاول أن يجمعه في رد حاسم، ليفلت من إصرارهم على أن يقوم بإمامتهم؛ فأنقذ صوت هند، قادماً من الحجرة البعيدة في البيت، موقفه، وهي تقول: "لا يؤم الرجل في بيته".
وعندما أخذ أشقاء هند، وأبو سامي، مواقعهم للصلاة، اتجه والد هند، إلى نساء بيته، فوبخهن على أنهن استعجلن تقديم القهوة. وأمر. بإعداد العشاء.
لا يميل أبو هند، إلى التقيد بالتقاليد المرعية لدى الفلسطينيين، في مناسبات الخطبة، ولا إلى غير ذلك من تقاليد كثيرة، يقول عنها إنها تكبل حرية الروح، وتنتمي إلى تاريخ تجاوزه التقدم الإنساني. ولم يتفق مع زوجته التي انتقدت مجيء أبو سامي لخطبة ابنتها، دون أن يوفد قبل ذلك، بعثة نسائية للتمهيد للخطبة، كما جرت العادة؛ ورد عليها بحزم، أن موافقة هند، هي المطلوبة أولاً وأخيراً، وخاطب زوجته: "أفيقي أيتها الجاهلة، نحن في عصر الإنترنت!".
فغرت فمها، وانضمت إلى الفرقة العاملة في المطبخ، لإعداد العشاء، فيما نزيف الذكريات الأليمة المتجدد، يصرخ في أعماقها المحروقة، ويتساءل: "لماذا ذبحت كبرى بناتي إذن؟!".
جلس أبو سامي وقد ثنى ركبتيه، وسط حلقة، صنعها مع مضيفيه الذكور، حول مائدة العشاء، المفرودة أمامهم، وانهمك، منطلقاً على سجيته، يلتهم طعاماً، كان يشتهيه منذ دهور: سفرة من مقالي البطاطس والباذنجان والبيض والطماطم والفلفل؛ وطبق فول مهروس بالفلفل الحار والثوم اللاذع، يغمره زيت الزيتون المعتم قليلاً؛ وسلاطة غزية من البصل المدقوق مع قليل من الطماطم وكثير من الفلفل الحار الأخضر، إلى جانب طبق من الفلفل الحار الأحمر المخروط، والفلفل المكبوس، والفلفل الأخضر الحارق، والفلفل الأخضر البارد، ورؤوس البصل المدقوقة بقبضات الرجال، والليمون المغمور بالفلفل الأحمر المخروط، وزيتون مكبوس صغير الحب، ومخللات الخيار والباذنجان؛ والخبز البيتي الذي لا يزال يحتفظ بسخونة صنعه..
"قيمتك أكبر من ذلك!"؛ قال أبو هند، بود…"قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدان مغلولتان في النار: يد تأكل باحتشام، ويد تأكل باغتنام"، قال الشاب الملتحي، وهو يحرض أبا سامي على أن يأكل دون أدنى حرج…
"هذه ثاني مائدة تنزل من السماء، بعد تلك التي أنزلها الله على تلامذة عيسى المسيح!"؛ قال أبو سامي في داخله؛ وأضاف وهو يحشو فمه باللقم الكبيرة: "ينقصها وجود هند، مسيحي ومخلِّصي، إلى جواري،!". رفع صوته، في رسالة موجهه إلى نساء البيت، القابعات في تاريخ الحريم: "كنت قد نسيت أن الطعام المصنوع بالأيادي الماهرة، مصدر رئيسي للبهجة". استدرك: "الحق أن النفوس الطيبة، تصنع طعاماً طيباً.. إلأَكِل نَفَس!".
ردّت أم هند، وهي تقترب منهم، وتمسح بقايا دموع: "صحة وعافية.. ومطرح ما يسري يمري!".
انفرجت أجواء بيت عائلة هند، بعد غيمة كدر صيفية، نجمت عن اعتراض شقيقين لهند، أحدهما المتدين، على سماح الأب لجميع نساء بيته، بالانضمام إلى المجلس الذي يشارك فيه أبو سامي، بعد انتهاء العشاء، وخلال شرب الشاي مع تناول الجاتوه، للإفصاح عن الموافقة على خطبة أبي سامي لهند، وليكون ذلك، بمثابة احتفال عائلي بهذه المناسبة…
انتثرت في نواحي بيت عائلة هند، بهجة، من عيون وجلبة الأطفال والنساء، ظلت مفقودة منذ سنوات طويلة، ولم تأت، ولا مع زواج شقيق هند الأكبر، الذي تم، في عهد الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي كان الزواج فيها، خلواً من طقوس البهجة، في ظروف أمنية، حرمت الناس من الأمن، وجعلت هدف الزواج، هو حماية البنات، من أخطار قد يتعرضن لها، من عمليات اغتصاب.
وكانت عائلة هند، عندما تزوج ابنها الأكبر، لا تزال في حموة حادثة ذبح هند ابنتها البكر، وكان رب العائلة، في دياجير ظلام سجن إسرائيلي… كانت العائلة، مغلولة في الأصفاد!
انتزع أبو سامي فكره، من وجدانه المنتشي، وقال يخاطب أبا هند، الذي كان يحاول السيطرة على ضجة أحفاده، بتودد، وهم يتناوشون مع والديهم، ومعاً، في معركة فرح طفولي بريء، لا يقيم وزناً لتقاليد الكبار ومظاهر التأدب الاجتماعي: "أرجو منك أن تساعدني لتنفيذ برنامج لتقديم مساعداتي إلى مائة أسرة، من سكان هذا المخيم".
حافظ أبو هند، على ثبات معالم وجهه؛ وواصل أبو سامي الحديث: "أقترح عليك، يا عمّي، فتح دكان بقالة، تشغل فيه وقتك، أتعهد لك، بتزويدك، بما يحتاجه من المواد. ألا يوجد مكان، قريب من هنا، يصلح لذلك؟!". بادرت والدة هند بالإجابة: "هناك مخزن فارغ في البيت المجاور لنا، متواضع، يصلح لذلك، وأعتقد أن إيجاره لن يكون مرتفعاً!". قالت شقيقة هند الصغرى، بفرح بريء: "ستكون فرصة جيدة لخروجك من الضيق الذي يلازمك طوال اليوم يا أبي". نقل أبو هند، عيونه بين الفراغات الضيقة، بين الحضور، ثم أسبلها، وتنهد، ولم ينبس ببنت شفه… قال أحد أبنائه: "سأتحدث صباح غدِ، مع صاحب المخزن، في شأن استئجارنا له". علقت زوجة الابن الأكبر: "سيوافق، فهو بحاجة إلى تأجيره، وعلى الأقل، سيتخلص من احتلال الفئران الضخمة له، التي تتخذ منه قاعدة لهجومها على بيته، وعلى بيوت الحارة!"؛ واصلت وهي تنقل عينيها من حماها إلى عريس هند: "يأتي الخير مع أهله يا عمّي أبا سامي!".
وبملامح جادة، مشوبة برغبة من إنهاء الجلسة، سأل أبو هند، صهره: "متى تنوي حمل عروسك إلى بيتها؟!"
تلون وجه هند باحمرار الخجل، غادرت المكان، أجاب أبو سامي: "ما بعد عشرة أيام، إلى أسبوعين". زغردت والدة هند. نادى أبو هند، العروس، طبع قبلتين على وجنتيها، زغردت زوجة شقيق هند، بارك الرجال والنساء للعروسين. نهض أبو سامي، قال ببهجة قلقة: "مبروك لك يا هند، وأنت منذ الغد، في إجازة مفتوحة من العمل، وبمرتب مضاعف!". ودس في يدها رزمة من المال، قبلتها وهي خافضة الرأس، وانهالت على يده تلثمها، وهو يشرع في الانصراف…
استعاد الطريق الضيق المخنوق بسيارة العريس حريته. وقال أبو سامي، بصوت مسموع، يزاحم لحناً غنائياً شبابياً، يصدح، من مسجل سيارته، التي شقت عتمة المخيم بأضوائها الفاجرة: "الحياة مرأة"؛ أضاف ببهجة وقورة: "صدق نزار قباني، في قوله: ما الدنيا يا ولدي غير امرأة يهواها القلب!".
استباحت تكشيره، يهابها أهل بيته، ثنايا الشيخوخة الضارية، في وجه والد هند. ولكن المرأة، المعمدة منذ هنيهات، عروساً أولى، بين بناته، المذبوحة أكبرهن، قالت بثقة مؤدبة: "ماذا يستنفزك يا أبي، في فكرة فتح دكان بقالة، أفهم مشاعرك، أتعاطف معك، ولا أريد أن أقوم بدور واعظة، فأنت أدرى مني، بأن العمل، أي عمل، هو وصفة روحية ناجعة للتخلص من هموم، ترهق أنفسنا!". رد أبوها، بلسان يمضغه الألم: "لن أشتغل بمال يعرف الجميع أنه جاء بطرق غير شريفة!.. ثم، ثم أنا رجل لا يحالفه الحظ في الأعمال التجارية؛ هل نسيتم الخسارة الفادحة التي حاقت بالمشروع الذي بلع المكافأة التي تقاضيتها من وكالة الغوث الدولية، لدى إنهاء خدمتي في مدارسها؟! أنا رجل مهنته الكلام والأحلام، ولا يفلح مثلي في سوق الذئاب والغش. يا هند، يا عروس التاجر الكبير، الرواية الصحيحة لحديث النبي الذي يقول: من غشنا ليس منا؛ هي، في هذا الزمان، وربما في كل الأزمان العربية: من لم يغشنا، فليس منا!". قالت هند:" أستاذ تاريخ مثلك يا أبي، لا ينبغي له أن يقع صريع تشاؤم متفاقم في نفسه؛ وأنت الذي كنت علمتني أن طريق مسدودة، لا تمثل كل طرق الله، وأن أياً من جاريات الزمن، ليست النهاية التي قرر الله عندها، إغلاق ملفات خلقه!". قال أحد الأبناء: "أنت لست مسئولاً عن مصادر تمويل المشروع المقترح، طالما أنه سيبقى حق لدافعه، يعود إليه متى شاء، وطالما أن فائدتك من استثمار المال، ستأتي من مجهودك الذي تبذله!". رد أبوه: "رائحة الجيفة تؤذي من يقترب منها!".
استفزت الجملة الخيرة هند، قالت بغضب مكتوم: "إنه صهرك. وأنا أعمل لديه بأجر، أنفقه في حاجيات بيتنا!". رد أبوها، بمشاعر جريحة: "أنت تتقاضين أجراً عن عمل تؤديه، لكنه يريد أن يتصدق علينا، بمواد نبيعها، دون أن ندفع ثمناً في شرائها! ارحميني يا هند!!".
استسلم بيت عائلة هند، لهجوع ليلي، تضطرب أحشاؤه، بعدما سرق من الزمن، سويعات بهجة طواها النكد المقيم فيه… وقلبت هند صفحة الكتاب، إلى الوراء، فبرزت أمامها، من جديد، صورة شقيقة ذبيحة، ودماء بكارة أهرقها العبث الذكوري، فصرخ الحقد في شرايينها، يعلن أنه ماض في خطة الانتقام…
___________________________
*يتبع: الجزء الثالث/الأخير: الفصول من (16) إلى (20).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى