محمد عزيز البازي - في رحيل الشاعر الكبير محمد أحمد البقالي

هو محمد بن أحمد بن عبد السلام البقالي، المولود سنة 1927/1345 في مدينة تطوان، حيث درس بمسيد شيخه المرحوم الفقيه المبرز محمد بن عمر بن تاويت الذي حفظ القرآن الكريم على يديه، فأقام له عمه حفل الختمة المسماة بالبقرة الكبيرة بهذه المناسبة السنية، جريا على العوائد الاحتفالية العلمية للبلاد في تكريم وتوشيح وتحفيز صغارها على طلب العلم والمعرفة، أتم دراسته الابتدائية بمعهد مولاي المهدي ليتابع تعليمه الثانوي بالمعهد الرسمي المعروف حاليا بثانوية القاضي عياض التي ستكون نقطة انطلاق إلى ولوج عالم التدريس قبل حصوله على شهادتي الباكالوريا والإجازة. أبان منذ التحاقه برحاب الدراسة في مدينته الحمامة البيضاء تطوان، عن تفوقه وتميزه ونبوغه بحصوله على المرتبة الأولى في جميع سنوات الدرس والتحصيل، فهو حائز على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، وشهادة الباكالوريا، والإجازة في أصول الدين، والكفاءة في التعليم الرسمي الأصيل، ووسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الممتازة سنة 1986. تتلمذ على نخبة من الأساتذة المغاربة والمشارقة والإسبان الذين غادروا إلى دار البقاء، أذكر منهم على سبيل المثال السادة الأساتذة: محمد داود وامحمد عزيمان والشيخ المكي الناصري وقاسم مشاش والمصري حسين أمين والإسباني Carlos Gallegos، ومن رفقائه في طلب العلم والفن والمعرفة: الوزير الأديب محمد العربي الخطابي، ومدير معهد الفنون الجميلة بتطوان الفنان محمد السرغيني، والفنان العالمي محمد الإدريسي المقيم في أمريكا.

تقلد مهام التعليم الابتدائي منذ أربعينيات القرن الماضي حيث درس بمدرسة الأميرة للاعائشة الحرة بالدار البيضاء سنة 1946 قبل أن ينجح بامتياز في مباراة التعليم الرسمي ضمن الفوج الأول لتدريس البنات في منطقة الحماية الفرنسية، التي أجريت بمدرسة الأميرة للاعائشة بتواركة في الرباط سنة 1948، لينضم إلى هيئة التدريس معلما في مدينة الحاجب والدار البيضاء وطنجة وتطوان، ثم مدرسا بمدرسة سيدي المنظري التطبيقية الخاصة بتكوين المعلمات والمعلمين بتطوان بداية عهد الاستقلال، كما عين مفتشا مساعدا بإقليم الشاون كمندوب وزاري على جميع نواحيه، قبل أن ينتقل إلى تطوان ليزاول مهام التفتيش بالتعليم الإبتدائي، ويلج ثانوية القاضي عياض أستاذا للغة العربية وآدابها بالتعليم الثانوي بسلكيه الأول والثاني. تولى منصب حارس عام للقسم الداخلي بثانوية القاضي بن العربي بالمدينة نفسها إلى أن تم إغلاقه، ليلتحق بهيئة تدريسها أستاذا للغة العربية وآدابها بالسلك الثاني بصفة رسمية؛ بعد اجتيازه بنجاح وتفوق امتحان الكفاءة للتعليم الرسمي الأصيل، وذلك إلى غاية سنة 1982 التي ستكون نقطة انطلاق إلى تقلد مهام مختلفة خارج البلاد، حيث كان مبعوثا لرابطة العالم الإسلامي في كل من البرازيل وإسبانيا والبرتغال، وموفدا من طرف الإيسيسكو: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إلى كوسطا ريكا، ومحاضرا زائرا في كل من جامعة برازيليا بالبرازيل وجامعة سان خوسي بكوسطا ريكا، تخرجت على يديه الكثير من أطر الدولة في مجالات متعددة كالتربية والتعليم والإدارة والإعلام، تنتمي إلى أجيال وجهات مختلفة، شارك في العديد من الملتقيات والمهرجانات الثقافية الوطنية والدولية، ونشر مجموعة من قصائده في بعض الجرائد والمجلات، فضلا عن إيذاعها على القنوات الجهوية والوطنية، كما صدر له ديوان شعر يحمل عنوان: كنز الحكيم السنة الماضية.

توجت قصيدته: "المذكرة الأخيرة" سنة 1968 بأحسن قصيدة أنشدت في "المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث"، المنظم من طرف جمعية أصدقاء المعتمد بن عباد بشفشاون منذ أكثر من نصف قرن، الذي يعتبر أقدم مهرجان شعري وطني سنوي بالمغرب، حيث شارك شاعرنا جنب نخبة من الشعراء المغاربة الذين يمثلون اتجاهات شعرية مختلفة كمحمد الميموني وعبد الكريم الطبال وأحمد الجوماري وأحمد صبري ومحمد زفزاف وعلال الهاشمي الفيلالي ومحمد غربي ومحمد مهدي السمعداني وعبد السلام الهراس وعبد السلام الزيتوني وإدريس الجاي وعبد الرفيع الجواهري صاحب "راحلة" الذي لم يتوان في إنشاد قصيدة شاعرنا الفائزة: "المذكرة الأخيرة" على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزة الوطنية بالرباط باليوم نفسه الذي أنشدت فيه هذه القصيدة التي قال في حقها الناقد المغربي الكبير محمد برادة في دراسة نقدية خص بها هذا المهرجان في دورته الرابعة، تحت عنوان: "ثلاث أيام للشعر في شفشاون. إلى أين يتجه الشعر المغربي المعاصر؟"، ما يلي:

" فقصيدة "المذكرة الأخيرة" مثلا التي ألقاها الشاعر البقالي في المهرجان أعتبرها نموذج نضج الشعر المعاصر في المغرب لمميزات مضمونية وفنية عديدة من أهمها أن ظل القصيدة ينم عن ثقافة شعرية وفكرية واسعة، كما أن صياغة القصيدة جمعت بين الاتساق والوحدة وتعدد طبقات النغمة الشعرية وأصالة الموضوع 'تأملات أخيرة لزنجي حكم عليه بالإعدام بتهمة قتل شرطي أبيض في حالة غضب'. إن القصيدة من بدايتها إلى نهايتها موفقة في نقل تجربة فريدة من نوعها، تجربة مضمخة بدم أسود، بحقد أسود، يرقص على إيقاعات الطبول التي تتابع دقاتها بإصرار لا حد له. وقصيدة الشاعر البقالي نموذج لقصائد الشعراء المعاصرين الآخرين..".

ينتمي إلى كوكبة شعراء جيل الستينات، المعروف بجيل الرواد، من أمثال محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال وعبد الرفيع الجواهري وأحمد المجاطي المعداوي ومحمد الخمار الكنوني، كما يعد من الشعراء المخضرمين الذين نظموا الشعر في فترتي الاستعمار والاستقلال، بدءا من سنة 1948، فهو من المؤسسين الأوائل للقصيدة المغربية الحديثة الذين لا يزال منهم على قيد الشعر والحياة: الدكتور محمد السرغيني والمحامي عبد الرفيع الجواهري والأستاذان محمد الميموني وعبد الكريم الطبال الذي وشح صدر ديوان شاعرنا: كنز الحكيم بهذه الديباجة تحت عنوان "في خلوة القصيدة"، قائلا:

" "لا تغن للأمطار لكن أمطر" هكذا قال شاعر من قبل، وهكذا يردد الشاعر محمد البقالي هذه الحكمة البليغة العميقة في معزوفاته الشجية المرهفة، بعد أن صمت طويلا ، وكنت أحسب أن الشاعر أخلد إلى الصمت بلا رجعة.

وبعد سنين من الخفاء سيعود ومعه (كنز الحكيم)، وكأني به كان خلال السنين البعيدة يحفر في أعماق كينونته بحثا عن الكنز حتى عثر عليه، فلم يكن خلالها كما كنا نظن قابعا في الظل أو منزويا في سرداب النسيان.

لقد كان في الخلوة عاكفا في غياب عن العابر وبعيدا عن شغبه.

ولنصغ إلى الأمطار وهي تحكي عن الأشجار القادمة.

إنه في الكنز الذي عاد به شاعرا آخر يختلف عن الشاعر ذاته قبل الكنز

إنه في الكنز يحمل عبء الدمع

بساتين ستهب في الخريف لتغير الأشجار من الصفرة

إلى الاخضرار والسماء من السواد والازرقاق

وذلك هو قدر الشعر وقدر الشاعر".

توفي رحمة الله عليه بمسقط رأسه تطوان يوم الإثنين ثاني أكتوبر2017 الموافق 11 من محرم 1439. تغمده الله بواسع رحماته، وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

د. محمد عزيز البازي



أعلى