احمد جاسم العلي - بعيدا عن السماء قريبا من الارض.

في ضحى ذلك اليوم كان في طريقه الى اتحاد الادباء العراقيين في ساحة (الاندلس) عندما حدث الانفجار في الشارع الذي كان يقود سيارته فيه، قبل ان يجتاز المكان بلحظات. صرخ مرعوبا مع اهتزاز السيارة اهتزازا شديدا لم يستطع معه السيطرة عليها حتى كادت ان تنقلب به وسط الشارع. فتح باب السيارة ونزل منها بسرعة راكضا الى الرصيف ليقف هناك محتميا، مع آخرين، بشجرة صفصاف عالية. وشاهد الحريق الهائل الذي يشب في سيارة تقف الى جانب الرصيف وشاهد اعمدة الدخان ترتفع الى السماء وشاهد الناس يتراكضون في كل الاتجاهات وقد علت صيحاتهم وتقاطعت اصواتهم. ولكن، لم يكن لُيكتب له ان يشاهد كل هذا، ربما، لو انه كان قد اقترب بسيارته من المكان اكثر وامسى في المجال الذي وصلت اليه الشظايا التي تطايرت في كل مكان واصابت من اصابت. حتى ذلك اليوم جهد على ان لا تقع في طريقه مثل هذه الانفجارات التي تحدث هذه الايام وحرص دائما على ان يقود سيارته في شوارع آمنة وغير مزدحمة كلما كان هذا ممكنا حتى انه، احيانا، يدخل في شوارع فرعية واخرى خلفية تسبب له بعض المشاكل والمضايقات مع المارة فيها ليخرج منها الى شارع عام، آمن وقليل الازدحام ويواصل مسيرته الى المكان الذي يقصده. كان انسانا مسالما وديعا، يحب السلامة والامان ويبتعد عن المشاكل والمتاعب ويكتب الشعر محلقا في سماواته. ولم تكن عادته هذه وليدة اليوم ولكنه حرص عليها اكثر بعد سقوط بغداد في نيسان قبل اكثر من ثلاث سنوات وبداية اعمال العنف والتخريب في بغداد. صدمه الانفجار العاصف حتى انه نسي معه موعد بدء الاصبوحة الشعرية التي كانت ستقام في مقر اتحاد الادباء وهاله المشهد وما اعقبه من مشاهد الفوضى والرعب التي عمت المكان وتوقف حركة المرور في الشارع. عاد الى سيارته حين رأى اصحاب السيارات يتحركون بسياراتهم ويحاولون الاستدارة، متزاحمين ومتصايحين، للخروج من المكان بسرعة. جلس خلف المقود ونظر حوله وحاول ان يتحرك ويستدير بسيارته ويغادر المكان هو الآخر. لطالما خشي ان يجد نفسه في موقف كهذا.
" تحرك اخي،" صاح به احدهم من خلفه، مادا رأسه من داخل سيارته. " شنو، متعرف تسوق؟" قال.
مع مرور الوقت بدأ يستعيد شيئا من هدوء اعصابه ويسيطر قليلا على تشتت ذهنه وينتبه الى ما يجري حوله. ولانه لم يستطع التخلص بسيارته ومغادرة المكان بسبب الفوضى التي عمت في حركة المرور فقد تحرك بها بصعوبة واوقفها اخيرا الى جانب الرصيف بحيث لا يقف في طريق احد من اصحاب السيارات فيزعق في وجهه ان يتحرك. نزل من السيارة ووقف على الرصيف يتفرج على ما يجري في انتظار ان ينتهي كل شيء وتخف فوضى المرور ليستطيع قيادة سيارته والذهاب الى اتحاد الادباء لحضور الاصبوحة الشعرية التي يحتفل فيها بصدور المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر المعروف. تفرج على سيارات الاسعاف التي وصلت الآن وتفرج على قوات الجيش والشرطة تطوق مكان الانفجار وتفرج على رجال الاطفاء وهم يوجهون خراطيم المياه نحو النار المشتعلة في السيارة المفخخة. ولكنه، في لحظة شعورغامض لم يستمر طويلا، توقف عن التفرج حين شاهد من بعيد اشخاصا يركضون من مكان الانفجار باتجاه السيارات التي كانت تتزاحم فيما بينها للخروج من المكان. كانوا يحملون مصابين في احضانهم لم يعرف هل هم موتى ام جرحى. وحين اقتربوا شاهد الدماء تنزف من المصابين في انحاء مختلفة من اجسامهم، منهم من تدلى رأسه الى الارض وراح يهتز مع ركضة من يحمله ومنهم من تدلت يداه والدماء تجري منها على الارض وتشكل خطا يمتد على طول الشارع ومنهم من كانت ساقه مقطوعة ولكنها لم تنفصل عن جسمه بعد وقد تدلى لحمها المقطع. وشاهد تزاحم حاملي المصابين على السيارات القريبة من مكان الانفجار والتي كان اصحابها يحاولون الاستدارة والهروب من المكان.
" اخوان، انقلوا اخوانكم الى اقرب مستشفى بسياراتكم. كل واحد يحمل اثنين، ثلاثة بسيارته، يا الله اخوان، الله يخليكم." صاح احدهم منفعلا.
تحرك من مكانه، متسللا، وذهب ليقف عند منعطف الشارع على مبعدة من مكان وقوف سيارته. لطالما خشي ان يجد نفسه في موقف كهذا.
" المن هاي السيارة، اخوان؟" صاح احدهم واشار الى سيارته، ضاربا بيده على مقدمتها.
" سيارتي، سيارتي." اجاب وهو يتقدم من منعطف الشارع، مترددا.
" اخي، ارجوك بسرعة، اخذ اثنين مصابين لاقرب مستشفى بسيارتك." قال واحد من اثنين حمل احدهما ولد في السابعة والآخر حمل شابا. كانت الدماء تنزف من الاثنين، الولد من رأسه والشاب من رجله ويده. تردد قليلا قبل ان يطلب من الاثنين ان يدخلا المصابين في المقعد الخلفي ويصعد احدهما معه. لم يكن يتجاهل تماما ما يدور حوله من احداث عنف يومية ولم يكن يتجاهل مصائر الناس وهم يُقتلون يوميا في شوارع بغداد ولم يكن يتجاهل ما يجري لمعالم بغداد الجميلة التي تغنى بها في بعض قصائده وهي تخرب يوميا. كان يحزن في داخله ويتألم لكل هذا ولكنه لم يذهب الى ابعد من ذلك. لم يكن يعرف ان كانت لديه القدرة على ان يذهب ابعد من ذلك، ان يفعل شيئا حقيقيا او انه لا يريد اصلا ان يفعل شيئا ابعد من ذلك. الآن يجد نفسه يحمل في سيارته لاول مرة جرحى انفجار سيارة مفخخة، يسمع لاول مرة بشرا مصابين يتوجعون بشدة من جروحهم، يقود سيارته بسرعة لم يتعودها قبل الآن، يسير في شوارع مزدحمة ويحاول ان يتجاوز هذا وذاك بشيء من الحركات الخطرة التي لم يتعود عليها حتى يصل الى المستشفى، ينزل من السيارة ويساعد في حمل المصابين من المقعد الخلفي ووضعهما على نقالتين والركض بجانب احدهما الى داخل المستشفى. وجد نفسه يفعل كل ذلك دون ان يسأل ما الذي يجري له كأن المصابين من اهله او اقرباءه او كأنه قد اعتاد على هذا العمل منذ زمن بعيد، حاله حال عمال المستشفى المستعدين بعرباتهم النقالة امام الباب. وحين وضع الشاب الجريح في السرير وتوقع ان يأتي من يسعفه في الحال فكر ان الامر انتهى بالنسبة اليه. وتذكر حينها موعد الاصبوحة الشعرية التي كانت قد بدأت الآن حين نظر الى ساعته. واراد ان يترك المكان.



لم يستطع التحرك الى باب الخروج. كانت ممرات المستشفى وردهة الطوارئ الكبيرة فيها قد امتلأت بالجرحى، وربما الموتى ايضا، الذين جيء بهم من مكان الانفجار. شاهد المصابين ممددين في الممرات كيفما اتفق وآخرين مطروحين على ارض الردهة كيفما اتفق، بعضهم بلا حراك كأنهم ماتوا، رأس هذا على صدر ذاك ورجل ذاك على بطن هذا، وبعضهم يصرخون من جراحهم. وشاهد اهلهم، الذين رافقوهم في سيارات الاسعاف والسيارات الخاصة، يتحركون بين الممرضين والمسعفين، يجرونهم الى جرحاهم فوق الاسرة او على الارض. ولم يستطع التحرك الى باب الخروج.
شاهد الفوضى تعم المكان. كان الممرضون والمسعفون يعملون بسرعة الا انهم لم يستطيعوا السيطرة، لبعض الوقت، على ما يحدث في هذه الردهة الكبيرة. كانوا يتحركون بسرعة بين المصابين المطروحين على الارض او يقفزون فوقهم ويتعثرون ببعضهم. وفي كل مرة يكاد احدهم يتزحلق بسبب الدماء التي تغطي الفراغات بين المصابين الممددين. شاهد دماء بعض الجرحى، الذين ينزفون من اماكن مختلفة من اجسامهم، تتجمع على شكل دوائر صغيرة هنا وهناك ما ان تكبر دائرة حتى يندفع منها خط ضعيف من الدم ينساب الى حيث يلتقي مع خط ضعيف آخر من الدم اندفع من دائرة اخرى واخرى واخرى الى ان تكونت بحيرة صغيرة من خطوط دماء اتحدت في دم واحد. وشاهد على احد الاسرة جريحا، غطاه الدم، يحتضر وحيدا، مادا يده، وقد اخرسته حشرجة الموت، الى سرير مجاور كان يتمدد عليه، بلا حراك، جريح آخر، وحيدا ايضا. حاول الجريح الاول ان يمسك بيد الجريح التي كانت يده تتدلى الى جانب السرير ويقطر منها الدم ولكنه لم يفلح. بعد قليل شهق شهقة لم تُسمع وسط ضجة الردهة ثم خمد. ومر وقت قبل ان ينتبه احد الممرضين اليه ويأتي لاسعافه. عرف بخبرته أنه ميت ولكنه امسك بيده وجس نبضه ثم وضع رأسه على صدره يريد ان يسمع دقات قلبه. رفع رأسه عن صدر الميت وسحب شرشفا في نهاية السرير، فرشه وغطاه به. وحانت منه التفاته الى السرير المجاور حيث يتمدد الجريح الثاني وقدر انه مات قبل الجريح الاول بوقت كاف. رفع يده المتدلية، التي كانت تقطر دماً لا تزال، ووضعها بجانبه ثم سحب شرشفا من نهاية السرير وغطاه به. ونظر الى باب ردهة الطوارىء.
" تعالو،" نادى بصوت مرتفع على عاملين يقفان عند باب الردهة. " يا الله عيني، اخذوهم بالنقالة للثلاجة وخلوهم مع البقية الى ان يحضرون اهلهم حتى يستلموهم." قال وانتظر الى ان حُمل الميتان من سريرهما ثم التفت الى جريحين مطروحين على الارض قريبا منه وطلب من مسعف معه ان يساعده على حملهما. " مدد كل واحد منهم على سرير." قال. كان المشهد مؤثرا والموقف لا يحتمل ولكنه لم يستطع التحرك الى باب الخروج.
" أخي، لا تتركني، ارجوك. ابقى ويايه الى ان يجون اهلي." قال الشاب، متوجعا. التفت اليه والتقت نظراتهما. لم تكن جروحه خطيرة ولكنه كان ينزف وبحاجة الى اسعاف بالطبع.
" لا، لا ما اعوفك. آني باقي يمك." قال وامسك بيده الممدودة اليه مؤكدا كلامه، شاعرا بحرارة تسري في جسمه.
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة ظهرا عندما خرج من المستشفى. وعندما فتح باب سيارته رأى المقعد الخلفي ملطخا بالدماء. وحين جلس خلف المقود تذكر مرة اخرى الاصبوحة الشعرية التي تقام في اتحاد الادباء احتفالا بصدور المجموعة الشعرية الجديدة ( بعيدا عن الارض قريبا من السماء) للشاعر المعروف. نظر الى ساعته فعرف ان الاصبوحة الشعرية لم تنته بعد وان بامكانه حضور جانب منها. اقترب من مقر الاتحاد. ابطأ قليلا. وقبل ان يتوقف استمر في طريقه متجاوزا المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى