باسم عبد الحميد حمودي - النائمُ جالساً.. قصة ليست قصيرة جداً

كان يشعر بالوهن، أطرافه لاتعينه على التحرك براحة، إذ فقدت مرونتها منذ أن تغيّر الجو وحل البرد والمطر.صدره الذي عب السكائر بأنواعها ستين عاماً تليفت فتحات استلامه الهواء أو كادت ليصل الى رئتيه بصعوبة، وحلت زرقة الوجه بدل صفاء الحمرة السالفة بسبب قلة الاوكسجين.
كان يقاوم الاختناق القادم بسحب الفنتولين من انبوبته الخاصة ليعين الصدر على تحمل تغضن انابيب التنفس الداخلية التي يسمونها الحويصلات الهوائية، وكان السعال المتصل يعينه، رغم قسوته،على فك مفاتيح الاتصال بالهواء الخارجي.
كان وهو يوشك على الاختناق يفكر في ميتة أهون، ويرى في الصلب خنقاً الما لايطاق، لكنه كان يقاوم بالسعال وتمشق الفنتولين، فإذا ازدادت النوبة قسوة لجأ الى غرفة النوم حيث نصب جهاز التبخير معداً، ليشغل ذلك الجهاز كهربائياً – وهو يزجي الرحمة للعم اديسون - ويضع كمامة الاوكسجين على الأنف والفم ويسحب عطايا التبخير لفترة يحسبها بقدر راحة صدره وقدرته على دفع التيبّس ليصل الهواء نقياً مرة اخرى الى ذلك الصدر المتعب المغلف داخليا بآلام تذهب فترة ثم تعود، ليعود للمقاومة كرة أخرى.
ما أن يرتفع عمود الشمس وتقل البرودة وينقشع الضباب يعود صدره طبيعياً ويمارس نشاطات ابن السبعين بهدوء وسعادة تقر بأنها أخذت من الحياة الكثير.
احياناً، في فترات صفاء التنفس يجلس براحة على كرسي في حديقة المنزل الصغيرة متطلعاً الى الشجيرات القليلة وهو يرقب نموها متذكراً –ويا للعجب- قدرته وهو ابن العشرين على عبور دجلة سباحة في تسابق عنيف مع اخيه هاشم وابن عمه عبد الإله وصديقهم ممدوح، حيث يضطر آخر المتسابقين رواحاً وعودة الى شريعة جامع القمرية بالكرخ الى التضحية بما يقارب المئة فلس، ليشتري للثلاثة الآخرين زجاجات البارد ولفات العمبة والصمون.
كان الأربعة لايتسابقون دوماً في الصيف بل يسبحون الى وسط النهر ليقفوا عند جزيرة صغيرة تظهر جلية وهم يغوصون وسطها أو عند اطرافها يميناً ويساراً باحثين عن (الدان)!
الدانة هنا قد تكون قنبلة قديمة تفجرت وسط النهر عند الحرب العالمية الأولى التي جرت بعض فصولها في بغداد عام 1918 بين الانكليز والعثمانيين قبل أن ينسحب الفيلق العثماني السابع باتجاه أنقرة ويترك (لقمة) العراق سائغة للانكليز.
البعض لايؤيّد هذه الرواية ويقول إن، الانكليز دخلوا بغداد وقد ذهب الترك منها، وأن هذه القنابل ماهي إلا نتيجة معارك سابقة بين الفريق علي رضا اللاز والوالي داود باشا.
مات علي رضا بالاختناق الرئوي ولم ينجه انتصاره على داود من الموت المفاجئ لعدم وجود الفنتولين.. كما هو اليوم.
العض من الكتاب يقول إن هذه القنابل اختلطت بقنابل أخرى ألقتها القوة الجوية العراقية على مقر رئاسة الوزراء عام 1936 لترغم رئيس الوزراء ياسين الهاشمي على الاستقالة وتعيين حكمت سليمان رئيساً للوزراء زمن الملك غازي.
المهم أن الاصدقاء الاربعة يأخذون ما يحصلون عليه من قنابل منفلقة من وسط دجلة، وينظفوها من الطين ثم يحملها واحد منهم في شوال الى سوق الصفافير حيث يشتريها الصفّارون بمبالغ بسيطة لكنها تكفي لذهاب أربعتهم الى سينما قدري الازرملي حيث يشاهدون الفيلم الأخير لفلاش غوردن وهم يجلسون في (ابو الاربعين)، وهو الموقع الأقل في السينما.
كان الصدر عامراً والدخان لم يصل بعد الى الحويصلات الهوائية.لكن ذلك كله ذهب كأنه الخيال، ولم يبق سوى الذكرى البهيجة.
كان ازعج ما يؤذيه في ليالي الأزمات هو عدم القدرة على النوم ممدداً في سريره حيث يزداد السعال قسوةً واستمراراً رغم ادويته وقنينة الفنتولين فيضطر- صاغراً – الى الجلوس ممدداً ساقيه وواضعاً خلفه مخدّة خاصة يسند رأسه عليها محاولاً النوم جالساً، فينجح مرة ويفشل مرات، وهو يضيع وسط احلام يقظة مزعجة لا تترك سنتيمتراً واحداً من حياته الماضية.
يستعيد خلال الليل والنوم المضطرب كل زاوية من حياة راحت صفحاتها، تنساب الذكريات موجعة حزينة ومرحة صافية، يصدم بعضها بعضاً في حراك غير منطقي تفرضه تهويمات غير واعية، وتزداد الأطراف ارتباكاً أحياناً حتى يتعبه النعاس فيروح في غفوة حذرة سرعان ما تنقطع بسعلة أو حركة غير إرادية..عندئذ يقوم من مكانه وهو يفكر في صور يختزنها لسعادة مؤجلة ضاعت صفحاتها.
هكذا تمضي الليلة احياناً، فإذا أطلَّ الصباح تأمل من حوله من افراد أسرته القليلة شاكراً نعائم الله، انه ما زال قادراً على رعايتهم رغم كل معاناته السالفة.
ثمّة بسمة هانئة من حفيده وهو في نومه تكفيه للاحساس بالسعادة وتمام الأمل بالحياة رغم آلام الجسد الواهن المقاوم.


* عن جريدة تاتوو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى