سمير الساعيدي - قيمة الرموز في الثقافة اليهودية

يعتبر الرمز مفهوما فضفاضا واسع الاستعمالات والمضامين، ويستخدم للدلالة على معاني متعددة وفقا للسياق العام الذي تبلور فيه ضمن الخطاب، سواء أكان هذا الخطاب ميثولوجيا أسطوريا أو تيولوجيا دينيا أو أدبيا..وقد يتبلور الرمز معبرا عن نفسه في أشكال الطقوس والممارسات الاجتماعية، أو من خلال مجموعة من الأشكال الهندسية أو الأمكنة والفضاءات التعبدية، مضفيا على ثقافة المجتمع بعدا ماديا مجسدا، وراسما له هوية تميزه وتشخصه.
وكل رمز سواء أكان "ماديا" أو "غير مادي"، إنما يعبر عن مضمون ما، ويربط الانسان بدلالة محددة؛ فالأسد رمز يحمل دلالات: الشجاعة، الزعامة، البأس،.. الجبروت، حسب السياق contexte الذي اندرج فيه، والثقافة culture بوصفها خاصية انسانية، تخلق لنفسها الرموز وتضفي عليها حمولة من الدلالات، وتختلف دلالات الرموز باختلاف الثقافات التي تحتضنها كما أن نفس الرمز قد يحمل أكثر من دلالة بناء على السياق العام الذي يندرج فيه؛ "فالتراب" أو الأرض رمز للوحدة الوطنية، كما أنه قد يحمل معنى قدحيا حينما يستخدم في سياق آخر" تمريغ الإنسان وجهه في التراب".
وإذا كان محور مضمون هذا الموضوع ينبني أساسا حول تحديد "قيمة" الرمز في الثقافة اليهودية فقد ارتأينا ولدواعي منهجية تحديد قيمة وأهمية بعض الرموز في بعض الثقافات القديمة، من أجل تأطير الموضوع والاحاطة به، والتأكيد على كونية الرموز بوصفها تعبيرا عن الذات الجماعية، وبوصفها تجسيدا للمتخيل الإجتماعي الانساني المفعم بالأساطير والاعتقادات التي تلعب دورا في تحريك السلوك وابتداع اشكال من الطقوس والعبادات والتصرفات.
I) قيمة بعض الرموز في الحضارات القديمة
في الحضارة المصرية القديمة: لعبت مجموعة من الرموز دورا كبيرا في التعبير عن الحياة الثقافية للمصريين، ويصعب حصر هذه الرموز نظرا لتعدد مظاهرها وأبعادها، فالأهرامات كانت رمزا للحضارة الفرعونية، وقيمتها تجلت في الشموخ والعظمة؛ وهي رسالة ضمنية يبعثها الفرعون الحاكم إلى الحضارات الأخرى بأن مصر تتسم بالتميز والفرادة والقوة، كما اتخذ المصريون القدامى من الحيوان والنبات، والكواكب.. والأشكال الهندسية رموزا أضفوا عليها معاني كثيرة، فالأفعى على سبيل المثال رمز للمعرفة والحكمة، فهي عندما تخترق جوف الأرض في معتقد المصريين فإنما لتتنزع أسرارها، لهذا اتخذت الأسر الحاكمة في الحضارة المصرية الأفعى كرمز للحكمة، كما أن النصب التي توجد في قبورهم صور قصور تعلوها الثعابين؛ إنما تجسيد لهذه الحكمة.[1]
أما الحضارة الاغريقية منبع الأساطير: فهي زاخرة بالرموز، عادة ما تجسد على شكل تماثيل لآلهة - بشر، أو لأبطال الملحمات الكبرى في التاريخ الأسطوري الاغريقي، ومن بين الرموز المشهورة في الحضارة الاغريقية "رمز الاله "زيوس" و"أبولو" "أثينا" وغيرها كثير جدا.
يحتل رمز "زيوس" قيمة اعتقادية دينية لدى الاغريق، فهو في نظرهم أب الالهة، والبشر وهو قبل ذلك إله السماء والصاعقة في الميثولوجيا الاغريقية، كما أنه من جهة أخرى رمز الفحولة والقوة، إذ تقول الأسطورة بأن عدد عشيقات زيوس بلغ 115 عشيقة، أنجب منهن أكثر من 140 مولودا، وكثير منهم أبطال، كما أن أشهر زوجاته هي "هيرا" وتقول الميثولوجيا بأن زوس لم يتزوج قط بعد هيرا. وقد أقيم لزوس تمثال باليونان كرمز يجسد الميثولوجيا الإغريقية القديمة.
كما أقيم تمثال كرمز "لأبولو" إله الشمس، الموسيقى، الرماية، الشعر، النبوءة، إله الوباء والشفاء والدواء، إله العناية بالحيوان، إله التألق والابداع، أبولوا رمز يحمل كل القيم الجميلة، وقيمته أنه يملك جمالا ورجولة خالدة وهو ابن الاله زيوس.
أما فيما يخص "أثينا" والتي هي عاصمة اليونان حاليا فهي اسم لآلهة الحكمة في الميثولوجيا الاغريقية القديمة، هي رمز القوة والحرب وحامية المدينة وتقول الأسطورة بأن "زيوس" ابتلع زوجته "ميتس" التي كانت حاملا، بعد أن أخبره أحد الالهة بأن "ميتس" ستلد له ولدا أقوى منه، ولما ابتعلها مخافة تحقق هذه النبوءة ؛ أحس زيوس بصداع شديد جدا، فجاء أحد أبنائه فشق بالفأس رأسه ومنه خرجت "أثينا" بكامل لباسها وأسلحتها وكانت غاضبة تصرخ صرخات الحرب[2]
II) قيمة الرمز في الثقافة اليهودية
تحتل الرموز أهمية كبيرة (خاصة الرموز الدينية)، فقد قدس اليهود مجموعة من الرموز التي تربطهم بشريعتهم واعتبروها بمثابة إلتزام بأوامر الرب وتعبيرا عن تمسكهم بأوامره وتجنبهم لنواهيه، هذا وقد أصبح للرمز في الثقافة اليهودية دور كبير في التعبير عن الهوية والثقافة اليهودية والاعتزاز بها، لهذا أخذ اليهود مجموعة من الرموز وجعلوها في خدمة التعبير عن يهوديتهم. وقد عرض الدكتور رشاد عبد الله الشامي في كتابه "الرموز الدينية في اليهودية" عينة من هذه الرموز وحاول أن يقدم دلالتها وفقا للتصور اليهودي، والرموز التي عرضها رشاد الشامي هي: المنوراه (الشمعدان) وماجين دافيد (درع أو نجمة داود)، الطاليت (شال الصلاة)، الصيصيت، المزوزاه، الشوفار، التفيلين، تابوت العهد، الكروبيم، والختان وسأحاول في هذا الجانب الاقتصار على أهمية هذه الرموز ودلالاتها علاوة على بعض الرموز الأخرى التي عملت بناء على اضطلاعي على بعض المراجع أن أعرض جانبا من قيمتها وذلك من وجهة نظر اليهود.
لقد بلغت قيمة المنواره؛ حد التقديس؛ فقد جاء في ( سفر خروج 25/ 40) "وقد أمر الرب بصنع المنوراه على مثال المنوراه التي أظهرها الرب له في الجبل"، أما دلالتها الرمزية فهناك من شبهها بشجرة الحياة أو "الموريا" التي تتفرع إلى ستة أفرع متقابلة ثلاثة أفرع عن اليمين وثلاثة على اليسار على جانب الساق المركزي، هذا على مستوى الشكل، أما على مستوى المضمون فشجرة الموريا تقطر أغنى عطورها وقت تفتح أزهارها كما أن المنوراه تبعث أبهى أنوارها وقت إشعال السرج.[3]
إذا وكاستنتاج أولي؛ يتضح أن للمنوراه في الثقافة اليهودية قيمة دينية تتجلى أساسا في اعتقاد بعض اليهود بأن ظهور الرب لموسى كان عند شجرة تشبه كل من المنوراه وشجرة الموريا، وأن شجرة الحياة أو المنوراه ترمز فروعها إلى العالم الكوني ونوره الالهي وتوراته ووصاياه. كما ان الشمعة الدائمة الاشتعال ترمز إلى فلسطين والشعوب الأخرى تتجه إليها لأن الروح القدس تسري في فلسطين.
ومن الشائع تاريخيا أن سليمان قد صنع عشر "منورات" وقيل في تفسير هذا الأمر بأنه في مقابل الوصايا العشر، وحيث أن كل منوراه تحتوي على سبع شموع فإن الرقم 70 يرمز إلى أمم العالم السبعين، وأنه لطالما أن الشموع مضاءة فإن الأمم تخضع وتتجزأ، وعندئذ تنتصر التوراة التي يرمز لها بالشمعة لأن الشريعة والتوراة نور(الأمثال 6) وطالما أن التوراة تتغلب، فإن شعب إسرائيل يتغلب ويوسع حدوده.( عبد الله الشامي،نفس المرجع السابق، ص29 ). ونظرا للقيم الرمزية للمنوراه فقد قررت "لجنة العلم والرمز" بتأييد من مجلس الوزراء المؤقت اتخاذ المنوراه ذات الأفرع السبعة رمزا (لدولة) إسرائيل على أن تكون قاعدتها مثمنة.
أما فيما يخص قيمة نجمة داود أو "ماجين دافيد" باللغة العبرية، فتتجلى في قدراتها السحرية؛ فهي تذهب البأس وتدفع الحسد كما أنها تجلب الحظ، أضف إلى ذلك ارتباطها بنبي الله داود فهي إذا رمز لمملكة إسرائيل وتعبير عنها (ّتفسه، ص52). وإذا عدنا إلى قيمة "الطاليت"[4] نجد أن له قيمة دينية، لهذا يستخدمه اليهود أثناء الصلاة. وقبل ارتدائه ينبغي تلاوة الفقرة التالية "مبارك أنت أيها الرب إلهنا ملك العالم الذي قد سناه بوصاياه وأمرنا أن نتدثر بالأهداب" (نفسه، ص 63) إذا فقيمة الطاليت تكمن وتتجلى في ارتباطه بالصلاة التي هي عماد الدين في اليهودية كما في الاسلام، لهذا يحرص على نظافته وإصلاحه في كل تلف حتى ولو بدا بسيطا. كما أن للميموزاه قيمة كبيرة في الثقافة الدينية لدى اليهود، إذ تربطهم بتعاليم الرب خصوصا وإنها تعلق على الأبواب، كما أنها من منظورهم تبارك في الرزق والأولاد والبركة.
أما الشوفار فقيمته تتجلى في بعده الديني، خاصة وأن اليهود يعتقدون بأن أول شوفار صنع في تاريخهم صنع من الكبش الذي ضحى به إبراهيم افتداء بابنه، وقيمته في ربطهم بهذا اليوم المقدس في التاريخ اليهودي كما الاسلامي. بخصوص "عهد الختان" أو "بريت ميلاه" فإذا كان الختان رمزا دينيا مقدسا في اليهودية فإن اليهودية التلمودية أو الربانية المعاصرة؛ تعرف الختان بأنه أساس العادات القديمة وأهم أسس الشريعة الدينية، وقد فسره الحاخامات اليهود على أنه رمز للنضج الفكري والأخلاقي الديني اليهودي، وأنه لا يرمز فقط للعهد المبرم بين الرب واليهود، بل أيضا لحب اليهودي لبني قومه. إذا فقيمة الختان عند اليهود أنه من جهة رمز للعهد بين الله وإبراهيم، قوامه أن يختن من قومه كل ذكر في اليوم الثامن من ولادته، فهذا الختان علامة بين الله وبين شعبه، ومن لم يختن ابنه فعقابه أن يقطع من شعبه، ومن جهة أخرى قيمته الرمزية تتجلى في أنه تعبير عن حب اليهودي لبني قومه. (نفسه، ص110)
أما القيمة المستشفة من تابوت العهد فتتجلى في أن الله هو الذي أمر موسى ببناء هذا التابوت ليودع فيه اللوحين اللذين كتبت عليهما الوصايا العشر، فقيمته أنه أمر من الله، ووظيفته حماية اللوحين، أما فيما يخص الكروبيم أو الكائنات الجنية فقيمتها تكمن في وظيفتها الأسطورية أي في حراسة تابوت العهد وحراسة الهيكل عامة.
من جهة أخرى وفي نفس السياق، لعبت في التاريخ القديم لليهود بعض الشخصيات أداورا كبيرة فاعتبرت هذه الشخصيات بمثابة رموز مقدسة ويمكن ان نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر رمزية "الملك شاول" وقيمته أنه أول ملك عينه النبي صموئيل بشهادة الكتاب المقدس، كما أن نبي الله "داود" كان رمزا من الرموز التي يحتفي بها اليهود، ولما لا وهو الذي يفتح أورشليم (القدس) ويجعلها عاصمته، يؤسس إمبراطورية واسعة تغطي أغلب أراضي أرض إسرائيل، كما تحضر بقوة رمزية نبي الله سليمان ابن داود عليهما السلام، الذي يبني الهيكل (المعبد) والقصر في اورشليم (القدس) وينشط كذلك في "مجــدّو" و "حاصور" "وجاز"[5].
وفيما يخص تقديس بعض الأيام فإذا كان يوم الجمعة يوما مقدسا عند المسلمين ويكثرون فيه من فعل الخيرات وترك المنكرات والتقرب بالعبادة إلى الله عز وجلّ، فإن يوم السبت هو يوم مقدس لدى اليهود، فالسبت هو يوم العطلة الوحيد بين جميع العطل الذي أمر به وفرض في الوصايا العشر، حيث ورد في الوصية الرابعة: " أذكر يوم السبت لتقدسه، ست أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك، ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه[6]، ويرى محمد الهواري بأنه في السبت تآلفت ثلاثة مفاهيم؛ مفهوم الخلق، المفهوم الاجتماعي، ومفهوم التحرر من العبودية بخروج بني إسرائيل من مصر؛[7] ويتجلى المفهوم الاجتماعي ليوم السبت في الاكثار من فعل الخيرات، البر، والاحسان وحماية الضعفاء ومن هم في حاجة، أما مفهوم الخلق فيعتقد اليهود بأن الله خلق الكون في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع، من هنا أخذ اليهود فكرة الاستراحة في يوم السبت، وفيما يخص مفهوم التحرر فقد جاء في الكتاب المقدس: " واذكر أنك كنت عبدا في أرض مصر فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاك الرب إلهك أن تحفظ يوم السبت"[8].
كخلاصة لما قيل امكننا القول بأن البحث في أهمية الرموز الدينية لثقافة من الثقافات، ليس أمرا هينا ويسيرا، فالمناهج الحديثة في الأنثروبولوجيا (خاصة الأنثروبولوجيا التأويلية) التي استخدم كليفور غيرتس [9] أساسياتها، فضلا عن باحثين آخرين من امثال ديل إكلمان[10] في دراسته عن أحوال "الاسلام في المغرب" فضلا عن عبد الله حمودي في حقل الأنثروبولوجيا وبول ريكور[11] في الحقل النقدي الأدبي أكدوا بأن تحليل الرموز يحتاج لعمل جبار، كون الرموز تحمل معاني تاريخية وثقافية، وبالتالي فالنفاذ إلى التاريخ لن يتم بدون تفكيك شفرات هذه الرموز وكشف معانيها الحقيقية، ولن يتم ذلك كما يعلمنا المنهج الأنثروبولوجي التأويلي من خلال دراسة "الثقافات" من مكاتب موصدة، بل لا بد من عمل ميداني لمعرفة الدلالات الواعية واللاواعية لخطاب الرمز في الثقافة اليهودية وغير اليهودية، فالمنطق العلمي الصارم ضروري لا مناص لإوالياته في التحليل والتقصي بعيدا عن الكلام الفج الذي قد يدخلنا في بديهيات الحكم القيمي حول رموز هذه الثقافة أو تلكم.


بقلم سمير الساعيدي

[1] مقال في مجلة جهينة بعنوان، رمزية الأفعى أو الثعبان، نشر في: 17/ 11/ 2013
[2] أسطورة الآلهة "أثينا"، عن ويكيبيديا الموسوعة الحرة
[3] عبد الله الشامي، الرموز الدينية في الثقافة اليهودية، ص 28
[4] الطاليت: زي يميز اليهود عن غيرهم، وهو نوعان طاليت قاطان (لقصره) وطاليت جادول (كبير الحجم)
[5] إسرائيل فنكلشتاين ونيل إشرسيلبرمان، التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها، رؤية جديدة لاسرائيل القديمة وأصول نصوصها المقدسة على ضوء اكتشافات علم الآثار، ت. سعد رستم، ص 176
[6] محمد الهواري، السبت والجمعة في اليهودية والاسلام، الزهراء للأعلام العربي قسم النشر، ط1، 1994، ص 29
[7] نفس المرجع، ص 30
[8] نفس المرجع، ص 31
[9] وهو أنثروبولوجي أمريكي اشتغل كثيرا حول المغرب واندونيسيا ودعا إلى استخدام المنهج التأويلي في البحث
[10] أنثروبولوجي أمريكي اشتهر بدراساته حول المغرب وله كتاب مهم معنون "الاسلام في المغرب"
[11] فيلسوف فرنسي أبدع في السيميوطيقا الهيرمونيطيقية، "التأويل" واستخدمها في دراساته النقدية الأدبية والفلسفية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى