باهرة محمد عبد اللطيف - قصة مهداة لبورخِس..

كنت قد انتهيت تواً من قراءة قـصة لـ” الضرير الذي رأى “، يتحدث فيها عن لقاء يتم بين بورخِس شاباً وبورخِس كهلاً، عندما أغلقت الكتاب وحملته بحرص وخرجت بقلق أبحث عني، لعلي التقيني كهلاً. أول ما خطر لي أن أفعله هو أن أقطع الشارع المؤدي إلى الـمتنـّزه لأجلس على أحد المقاعد الخشبية الـمنـتشرة فيه في انتظار أن آتي إلي، ألم يفعل بورخِس ذلك..!! ولكن الحديقة كانت في جنيف..؟ على أية حال المدن تتشابه، نحن الذين لا نتشابه، ومع هذا فلا ضير من المحاولة. قبل أن أصل إلى الـمتنـزه شعرت بقوة غامضة تدفعني للانحراف في مسيري. لم أحدد وجهة ما للمضي مستهدياً بما قاله بورخس: “ليس مهماً إلى أين نمضي، المهم من أين نجئ”، واكتفيت بملاحقة إحساس عميق راح يدفعني للسير في شوارع لم تطأها قدماي من قبل. شـمس خريفية دافئة أخذت تتسلل إلى جسدي فتبعث فيه الحيوية ورغبة غامضة في معانقة المجهول، فذاك نـهار غريب لا يشبه سواه، صحوت فيه على جرس الباب. فتحته لأجد ساعي البريد يحمل لي مظروفاً من ”صديق“ لا أعرف اسمه يهديني كتاباً لبورخس، يقول في الإهداء الذي خطه بحروف مرتعشة، إنه طبعة خاصة فريدة، ستكون أكثر من مجدية في البحث الذي أعده عن هذا الكاتب. لم أتأخر كثيراً في البحث عن شخصية هذا الصديق لأني ما أن فتحت الكتاب حتى وجدته نسخة مماثلة لما لدي وكدت أقول في سري إنـها دعابة سـمجة من أحد الأصدقاء. وضعت الكتاب جانباً، إلا أن يدي امتدت إليه ثانية بحركة لا إرادية، وصارت عيناي تـتقافزان بين السطور التي أعرفها تـماما حتى وصلت إلى تلك القصة، وما أن انتهيت من قراءتـها حتى أحسست بـهاتف يناديني، يأمرني أن أخرج إلى اللامكان، فامتثلت، تأبطت الكتاب وخرجت، لأصل في سيري الـمسرنـم إلى محطة الحافلات. وقفت متحيراً لا أعرف إلى أين أمضي، فالحافلات كلها كانت تتجه صوب الضواحي! ثم لم أتأخر كثيراً في التفكير لأن يداً خفية ما دفعتني من الخلف فوجدتني استقل إحداها. تخيرت أقرب مقعد لأجلس عليه وكنت أول من يركب الحافلة فاستقبلني السائق بابتسامة صباحية ودود . ما كدت أستقر في مكاني حتى وجدت رجلاً في الستين يصعد الحافلة ويتهيأ للجلوس بجانبي. أول ما لفت نظري إليه هو ذلك القفاز الأبيض الشفاف الذي كان يرتديه والذي يذكّر بالجراحين، وكيس البلاستيك الذي سرعان ما فتحه وراح يستخرج منه أوراق الإعلانات الصقيلة ليضعها على الكرسي المجاور لي. غطى المقعد وكذلك ظهر الكرسي وأنا أحدق إليه باندهاش، ثم حانت مني إلتفاتة إلى الخلف فالتقت عيناي بعيني سيدة أربعينية كانت تراقب المشهد مثلي، تبادلنا نظرات الاستغراب وكتمنا ضحكتينا، لينضم إلينا سائق الحافلة أيضاً . انطلقت الحافلة وانطلق معها الكهل الوقور بالحديث، لكأنه يسـتأنف معي حواراً توقف لحظات وعاد لالتقاطه. علّق على دهشتي لسلوكه، ودافع عن وساوسه في هذا العالم الملوث في كل تفاصيله، وأجاب عن تساؤلاتي التي ما نطقت بـها وأسهب في رواية أحداث حياته، وأنا مازلت لم أنبس بكلمة. عرفت انه الدكتور مونتينغرو ، الجراح القدير ومدير أكبر مستشفى في مدريد لسنوات طوال قبل أن يتقاعد ليتفرغ للتأليف ونشر الكتب، وأنه قد درّس ردحاً من الزمن لطلبة الطب فهو يحمل شهادة الدكتـوراه في اختصاص دقيق، قبل أن يصبح عميداً للكلية. ولم ينس أن يخبرني عن طفولته وعن إصراره الغريب وهو طفل لم يتعد الثمانية شهور على مجافاة ثدي أمه والعزوف عن الحليب تماماً حتى خشي عليه أن يموت، بعد أن ذوى كورقة نفل صغيرة إلى أن اهتدت أمه إلى الحل وصارت تقطر له سلاف الفاكهة التي سرعان ما استلذها وراح جسده يبرعم شيئاً فشيئاً ، وكيف أنه قد تعلم من هذه البداية الغريبة أن لا يقرب اللحوم مطلقا، ولم يفته أن يؤكد لي أنه لم يعرف إلى التبغ طريقاً ولا لأي من المشروبات أو “الموبقات”..!! سمعت كلماته الأخيرة فانطلقت مني ضحكة امتزجت بحشرجة صدري، وببقايا ألم وحزن استوطن في الرئتين قبل العينين، عينات من موت هربته تحت جلدي دون أن أدري، يوم قررت الفرار من الجحيم. كنت أتأمل وجهه النضر وهو يحدثني، بدا لي في منتصف الستينات من العمر، وأحسست ببريق عينيه يشع مع الكلمات وهو ينـتقيها بعناية ويؤكد مخارج حروفها على نحو لافت، عندما أخذ يروي لي ذكرياته يوم كان يحلق في السماء والمدينة العريقة تقاوم بيأس .. ! أربكتني جملته الأخيرة ونطقت للمرة الأولى لأستفهم منه عن أي مدينة يتحدث، فرد بحماس أكبر بدا معه أصغر سناً :- مدريد ، ” عاصمة المجد”، طبعا.ً.!! آه لم اقل لك إني شاركت في الحرب الأهلية ..! لقد عملت طياراً، كنت طبيباً في القوة الجوية أول الأمر ثم تعلمت الطيران من زملائي وصرت طيارا.ً نعم .. لقد خضنا حرباً ضارية ضد فرانكو.. كان العسكر يفوقنا عدة وعدداً وكنا نحن الجمهوريين نفوقه اندفاعاً وجرأة .. وحلماً أيضاً ..! كنت طياراً لتسع سنوات ولم أتخل عن هذا العمل إلا بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية.
ما أن نطق بكلماته هذه حتى أجفلت ، إذ ما الذي يقصده هذا الرجل..!! الحرب الأهلية وقعت منذ أكثر من ستين عاماً، وما بقي أحد من رجالها بعد أن ودعت أسبانيا قبل شهور ـ ربـما آخر شهودها على تلك المرحلة ـ الشاعر رافائيل ألبرتي بأعوامه الستة والتسعين الذي قاتل من أجل الجمهورية طياراً. والآن يبرز هذا الرجل المجهول لينسج بطولة موهومة مفترضاً جهلي بالتاريخ، بعد أن أدرك من لكنتي حتماً أنـي لست من هنا..!! قطعت الأمر في سري وقلت إنه معتوه، وإنه لا يعدو أن يكون واحداً من أولئك المجانين الذين تحفل بهم المدينة والذين يلتقيهم المرء في كل الزوايا، بـهيئات وقورة تارة وأخرى مزرية تارة أخرى، غير أنه بادرني قائلاً لكأنه قرأ أفكاري واستشفّ أسئلتي:- بعد أيام سأتـمم عامي الثامن بعد الـمائـة..!! عملت ودرّست وقاتلت وألفت عدداً كبيراً من الكتب ، ومازلت حتى اللحظة أطوي المسافات بساقين قويتين وألتهم الصفحات بعينين سليمتين.. عقدت الدهشة لساني وبقيت أتأمل عينيه ببريقهما الذي لم تعتمه الشيخوخة وتنبهت إلى أن الرجل لا يستعين بأي نظارة طبية. أما وجهه المتورد بعافية غريبة فلا أثر فيه للتجاعيد، في حين ظلت ذاكرته تـنـثال بتفاصيل مذهلة في دقتها، عن الحرب الأهلية وعن مؤلفاته العلمية الغزيرة وهو يضحك بيـن الحين والآخر، ساخراً من أخطائه الإملائية على عادة الأطباء في الكتابة بخط رديء، ومن الموت الذي عرف كيف يناوره حتى في أحلك لحظات الحرب بمهارة مصارع ثيران عتيد، إذ أدرك أنه قد تآخى معه منذ شهره الثامن حتى بلغ عامه الثامن بعد المائة، مؤكداً لي أنه لطالما رآه يتجول في صالات العمليات، وأنه أحياناً كان يشعر به بين أصابعه يشاكسه ويخطف المبضع منه ويختبئ بشقاوة طفل..! برهة داخلني إحساس بالقلق والانفعال أهاجته في نفسي ذاكرة الحرب، ثم ما لبث أن زايلني ذلك الإحساس بعد أن أشاع حديثه في روحي طمأنينة أجهل مصدرها، لأشعر بعدئذ بانخطاف لكأني أجلس بازاء قوة كونيـة عاتية، أشد على كتاب بورخس بيدي وأعقب على حديثه بعبارات موجزة لا تكاد تقول شيئاً . واصلت الإصغاء إليه بورع وهو يمطرني بتفاصيل وحكايات وأشعار، علق بذاكرتي منها هذه الأبيات لأنه كررها مرات عدة بإيقاع مختلف وبصوت لا تشوبه الحسرة: ” ربما سيقول البعض إن الزمن البليد .. سرق منا النبض والجنون ..لن ننكر هذا.. فالنمو تدريب شاق وعسير..”، في حين ظلت أفكاره تتسلسل بلا عناء، وتنضح فلسفة وحكمة بلا ادعاء، عن الحياة الراعفة في أزمنة الحرب وعن الفناء الداخلي للأحياء في لحظات الأمان المستخذي .. حتى تململ في مقعده فجأة وراح يتهيأ للـنـزول في المحطة التالية.
خشيت أن يهبط من الحافلة وافقد كل أثر له، فسألته بلهفة واضحة إن كان يحيى في هذه المنطقة، فردّ بابتسـامة أضاءت وجهه، “بل أنا أحيا في منزل بعيد في الإسكوريال..”، وأردف بتهكم: “مع الخالدين”..!، وتذكرت فوراً أنه يشير إلى مقبرة “وادي الشهداء ” في الإسكوريال، ذلك الصرح الهائل الذي شيده الديكتاتور فرانكو لأتباعه الذين سقطوا في الحرب الأهلية. قلت له بلهفة ظاهرة وقد أدركت أن الوقت يفرّ والرجل الغريب سيمضي إلى حيث أجهل: “أنا مثلك قاتلت أيضاً..!! ولا أدري إن كنت مثلك قد نجوت .. أنا الآن اكتب ، وأبحث في الحقيقة والخيال..”. التقط الرجل كلماتي وفهمها كبرق خاطف، وسألني أن نتبادل أرقام هاتفينا، إذ حدس ما كنت أفكر فيه. أخرجت من جيبي ورقة صفراء صغيرة قطعـتها نصفين، دونت في النصف الأول رقم هاتـفي وسلمته إياه، وكتبت في النصف الثاني الرقم الذي أملاه علي ضاحكاً وهو يقول: “إنه رقم هاتفي المحمول فأنا مصر على مواكبة التطور لأني ابـن كل العصور..”. توقفت الحافلة في مكان لم أره من قبل، منطقة فسيحة لا أتذكر منها اللحظة إلا الشجر وظلاله المتراقصة في ذلك الصباح المضيء. حين صافحني بقفازه المطاطي الشفاف كانت له يد جراح حقيقي لا تـهـتز. ودعني بنبرة اعتذار قائلاً إنه بـهذين القفازين حمى نفسه من أوبئة الآخرين ، وإنه مدين بجزء من حياته لهما ولتفاصيل أخرى سيطلعني عليها في لقاء قادم أكدته له بصدق وحماس. ترجل الكهل الفتي من الحافلة ووقف على الرصيف لحظات كانت كافية لتلتقي فيها عيناي بعينيه المفعمتين حيوية وعنفواناً وقد صغر بضع سنوات أخرى حتى بدا معها في خمسيناته، قبل أن تنطلق الحافلة من جديد لأهبط منها في المحطة التالية وأستقل مثيلتها العائدة في الاتجاه الآخر صوب البيت. غير أني ما كدت أجلس في مكاني حتى انتابني شعور بالأسى لأني لم أنزل مع الرجل، لم أرافقه لأستوضح منه سر شبابه ولاستفسر منه عن هالة النور والغموض التي أشاعها في روحي. لكن إحساساً بالارتياح غمرني حين تذكرت رقم الهاتف فامتدت يدي إلى جيبي بحركة سريعة لأعاود النظر فيها من جديد. وكانت المفاجأة في انتظاري، فقد اختفت الورقة بسحر ساحر!!فتشت عنها بلوعة وأمضيت طريق العودة كله في البحث بلا طائل، لكأن يداً خفية إخـتلستها على الرغم من يقيني بوجودها قبل لحظات..! رجعت أجرجر خطواتي وأحاول أن أقنع نفسي بأن ما حدث لم يكن حلماً بل حقيقة، دليلها الأوحد تلك الورقة الصغيرة التي لم أعثر عليها حتى اللحظة، أو نصف الورقة الثاني الذي بقي عنده.. إذ لعله يفاجئني يوماً بمكالمة تعينني على استئناف تفاصيل ذلك الموعد الغريب الذي سعيت إليه على نحو غامض، ليته يفعل ذلك، قبل أن يمضي مع الخالدين..! أمضيت الأيام التالية أراجع دليل الهاتف، وأتصل بأكثر من مستشفى ونقطة استعلامات، وكانت بدورها تعيد علي أسئلتي عن الاسم والعنوان، وكنت أشعر بالخيبة لأن كل ما لدي من معلومات هو “الدكتور مونتنيغرو” – ومعـناه بالأسبانية الجبل الأسود، ويالها من مفارقة -وإحساس ملغز عميق بقرابة روحية ما يشدني إليه. عينا ذلك الرجل الطاعن في شبابه تطاردني كهاجس مقيم، صورته تلحّ وكلماته تتكاثر في رأسي ونبرات صوته المتماسكة المنغمة تتردد كدقات ساعة خشبية قديمة في داخلي، وأكاد أشك أحياناً في وجوده وفي أحداث ذلك اليوم كله، لولا وجود كتاب بورخِس الغامض بتوقيعه الراعش الذي تسلمته في ذلك الصباح، ولولا هذه السطور التي أخطها الآن، والتي لا تعني بأية حال أن شيئاً من هذا الذي أرويه قد وقع..‍‍!


*من مجموعة القصصية “تأملات بوذية على رصيف الموت” الصادرة عام 2000 عن دار الألف- مدريد.

* باهرة محمد عبد اللطيف
كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية مقيمة باسبانيا.



باهرة محمد عبد اللطيف.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى