ثابت عطيوي - محسن حنيص

بتنا شبه متيقنين ان (سالم جبر عطيوي) يخضع لمتوالية هندسية منذ لحظة الولادة. لقد توفر لنا من المعطيات ماجعلنا نتوصل الى تحديد الثابت الرياضي الذي يحكم تلك المتوالية. وظهر ان قيمته ( 0.65 ). اي اقل من الواحد.

ومن حق الذين لايحملون فكرة عن المتوالية ان نقربها لهم.

المتوالية اشبه بقطار ركب في عربته الاولى مجموعة من الاصدقاء. وفي اثناء سيره شب حريق في المقدمة فاغلق جميع الابواب وانتقل الى العربة الاولى فالتهم عدد من ركابها. وكان عليهم ان يهربوا الى العربات التي تليها. لكن النيران ظلت تلاحقهم. فراح عددهم يتناقص باستمرار.

ان عدد الناجين المنتقلين من عربة الى اخرى يمثل عناصر المتوالية. وطول العربة هو زمن العبور الى العربة التالية، اما الفاصلة بين عربة واخرى فتمثل نقطة (لحظة) العبور.

وهناك وصف بعيد عن الحرائق والموت :

المتوالية هي سلسلة ارقام تصاعدية او تنازلية يحكم حركتها رقم ثابت.

والمتواليات انواع عديدة، وما يعنينا هنا هو الهندسية التي تعطينا رقما ثابتا عند قسمة اي رقمين متجاورين فيها. مثلا : ان سلسلة الارقام التالية :

( 324، 108، 36، 12، 4 ).

هي متوالية هندسية تنازلية (اذا بدأنا من اليمين) بثابت مقداره الثلث او (0.33) تقريبا. هذه الرقم يمكن الحصول عليه بسهولة من قسمة اي رقمين متجاورين : مثلا قسمة 108 على 324، او من قسمة 36 على 108، وهكذا .

وحياة سالم عطيوي تحكمها متوالية من هذا النوع ولكن برقم ثابت مقداره (0.65) الذي اطلقنا عليه (ثابت عطيوي). وبحثنا كان للامساك بعنق هذا الرقم والتحقق من هيمنته علة ماضي وحاضر ومستقبل سالم عطيوي.


٭ ٭ ٭


في المقام الاول لابد ان نشكر سالم عطيوي نفسه (ابن مدينة الثورة – قطاع 20). ونشيد بجرأته. الذي فتح لنا قلبه واسراره ومنحنا الثقة المطلقة في التفتيش في زوايا حياته وخصوصياته مقابل وعد باطلاعه على النتائج عند الانتهاء تماما .

ولابد من تقديم الشكر الى الدكتور (جمال حيدر) طبيب الاسنان والمشرف على العيادة الشعبية في مدينة (الثورة) والذي كان على اتصال بسالم عطيوي لاربعة عقود، ويعرف تاريخ كل سن نبت او سقط من فمه. لقد تفاعل الدكتورمعنا بحرص و قدم لنا اطروحته الجامعية عن تساقط اسنان عطيوي. والتي شكلت عمودا اساسيا في بحثنا.

وهناك عدد من الاسماء ممن رافقوا رحلتنا وقدموا لنا معلومات قيمة. ونحن ننتظر ان يتوسع البحث لنذكرهم ومساهمة كل منهم.


٭ ٭ ٭


وقبل ان ندخل في تفاصيل البحث نود ان نشير الى العناصر الثلاث : باص الخشب، والخمرة، والمصادفة، التي لازمت معظم كشوفاتنا.

ورث راضي باص الخشب عن أبيه، وجلس وراء مقودها حتى توقفت كليا فركنها في بستان مجاور للبيت. بعد ان كانت وسيلة لنقل أهالي مدينة (الثورة) الى مركز العاصمة تحولت الى حانة للخمر وملتقى سري للعشاق، و مأوى الهاربين من الحرب، و المضطرين، والذين لا سقف يأويهم.

باص الخشب خلوتنا، والخمرة عصارة نخلتنا والمصادفة ذروة سكرنا. هذا المثلث يؤطر جميع التجليات المشتركة بيننا (راضي وانا) ومنها متوالية عطيوي.


٭ ٭ ٭


الأسنان


في تلك الليلة كانت الباص تعج بالندماء. وقبل ان نكمل (الربعية) الاولى من العرق المحلي كان عطيوي و (رحيم السويعدي) قد عبرا حاجز النصف. وفي لحظة فجر رحيم نكتة من العيار الثقيل ارتطمت بسقف الباص وارتدت فدخلت في فم عطيوي وطيرت سنا من اسنانه. كان الدكتور جمال حيدر حاضرا معنا فرأى السن كيف يطير ويحط في قعر الكأس الذي يمسك به. كان على وشك ان يعبه في جوفه بما فيه لولا تلك الانتباهة الخاطفة. اما عطيوي نفسه فلم يشعر بشيء وواصل قهقهة اقرب الى السعال الديكي. كان يخر موائعا من كل ثقب في وجهه. النكتة ضربت مخه فاستحالت الى رنين يتردد بين جدران فمه. يحدث هذا غالبا. تفتح الخمرة شهيته للضحك، يظل فمه مفتوحا لزمن غير معلوم. لم يكمل الدكتور ضحكته، وارتسمت في نظرته معالم صحو فجائي، ترك النكتة تسحب ذيولها منه، تجمدت عيناه وهو يبحلق في قعر الكأس، غمس اصبعه وسحب السن وهو يقطر عرقا زحلاويا ووضعه على الطاولة. ثم اخرج من جيبه مصباحا يدويا وتطلع بعناية وتمهل فوجد السن سليما معافى لا اثر فيه للنخر. ورأيناه ينهض من مكانه و يقترب من وجه عطيوي ويدخل ضوء المصباح في فمه المفتوح ليعد ماتبقى له من اسنان. كان ينتظر سقوط آخر اسنان عطيوي ليعمل له طقما اصطناعيا. اخرج الدكتور دفترا صغيرا ودون بضعة ارقام وكلمات وعاد يشرب من جديد.

تبادلت مع راضي نظرة خاطفة تحمل ذات البريق، واقتربنا الى ادنى حد، ودفعنا مقلتينا عبر الفم المفتوح ونظرنا هناك فوجدنا ستة اسنان فقط موزعة بشكل عشوائي لا يخلو من القرف.

يشعر الدكتور جمال بالمسؤولية امام اي سن منخور في المدينة. ويمارس مهنته في كل وقت و في كل مكان، فهو المشرف على العيادة الشعبية في المدينة لاربعة عقود. ويحتفظ بسجل لأسنانا جميعا. ويحمل ترخيصا داخليا بايقاف اي شخص (ذكر ام انثى) في الشارع ليفتش فمه. ولا ننسى فرش الاسنان والمعاجين المجانية التي اقنع وزارة الصحة بتوفيرها في مدارس المدينة. وكان له الدور الاكبر في تأسيس وتدريب سرية من المتطوعين (من كلا الجنسين) لتنظيف الاسنان وقلعها احيانا . ورغم ان فضائل الدكتور جمال ليست محور بحثنا الا اننا نرى من الواجب ذكرها فقد لا تتوفر لنا فرصة افضل.

لكن التحدي المهني و العلمي الاكبر بل (الفشل) الذي واجهه الدكتور جمال هو في عجزه عن فهم الاسباب التي تقف وراء تساقط اسنان سالم عطيوي. انه اللغز المحير الذي نقله الدكتور الى اروقة كلية طب الاسنان لجامعة بغداد وحصل بموجبه على شهادة الماجستير حتى بعد فشله في العثور على جواب.

كانت اسنان عطيوي تسقط لأتفه الاسباب. وكان يهرع الى العيادة الشعبية كل مرة حاملا سن من اسنانه دون ان يجد عند الدكتور جمال حلا. فقد خسر في مشاجرات (لم يكن طرفا فيها) ثلاثة من اسنانه. كان الآخرون هم الذين يتلاكمون ويلطم احدهم الآخر في فمه. لكن اسنان عطيوي هي التي تتساقط. كان عطيوي يحاول فك الاشتباك بينهم. وحين يسأله الطبيب : هل تعرضت الى لكمة من طرف. يجيب بثقة تامة : كلا. ويؤكد للطبيب انه يقف احيانا متفرجا فقط ثم يكتشف في نهاية العركة سقوط سن او سنين من فمه. وحين يقلب الطبيب وجهه لايجد اي اثر لضربة في الفم او الحنك. وفي احد الايام راجع العيادة حاملا سنا طار من فمه على اثر صرخة غضب على احد اولاده. واخبره احدهم ان السفرجل (الحيوة) مفيدة للاسنان فتناول واحدة منها، وحين عضها نبت سن فيها ولم يخرج، فتركه في السفرجلة، وحملها بكفه الى الطبيب. وتكررت المأساة نفسها مع (الباصورك)، البذرة التي حطمت اثنين من اضراسه.

امام هذا اللغز المحير صرف الدكتور جمال من وقته الكثير، فتح فم عطيوي مئتين وخمسين مرة . عمل دراسة معمقة لفكيه واذنيه ولسانه وفحوصات شاملة لكل سن قبل سقوطه. لم يعثر على اي أثر للتسوس. ورغم فشله في التفسير او المعالجة الا ان كلية طب الاسنان منحته شهادة الماجستير بدرجة جيد جدا.

وفي ليالينا العامرة بالتأمل كانت تتحرك في بطوننا فكرة اشبه بالديدان الدبوسية (السلابيح)، عن خضوع عطيوي لدالة غامضة. كانت تأملاتنا تسير بحذر شديد . وقد جاءت الماجستير لتعطينا دفعة الى الامام. من هنا دخلت اسنان عطيوي. فتحنا رسالة الماجستير، ودرسنا بالتفصيل تاريخ كل سن، ووضعنا ترتيبات متعددة ومحكمة لارقام الاسنان الساقطة.

وحين يحل الشتاء على الباص المركونة تصبح الخمرة هي النار التي تطرد البرد عنا، و يمتزج السكر بالخشب، وتبدأ ثرثرة الروح، وحين نسكر تبرق المصادفة وتهبط النيازك فتضرب جدار العقل ويتطاير الشرر الفكري. تلتحم العناصر الثلاث. تخرج ومضات لا نعرفها لتملأ كؤوسنا ورؤوسنا بالألق ونغرق في بحر من التساؤلات والاحتمالات، في زمن بلا حدود، ولا نخرج الا وقد عثرنا في قعر الكاس على لقيا ثمينة.

في عام 1980 كان عطيوي يملك صفا كاملا من الاسنان 32. كل ثمان سنوات يفقد عطيوي 35 بالمئة من اسنانه. بمعنى آخر ان اسنانه تضرب في رقم ثابت هو (0.65) كل ثمان سنين. وضعنا ملخصا رقميا :

1980: سن.32

1988: سن.21

1996: سن. 14

2002: اسنان. 9

2010: اسنان. 6

على هذا النحو تشكلت اولى متواليات عطيوي.

متوالية الاسنان : (32، 21، 14، 9، 6).


٭ ٭ ٭


امسكنا بالرقم (0.65) من عنقه. وضعنا النتائج امام اعين الدكتور جمال فبقي صامتا وحائرا اكثر من حيرته الاولى.

اثمرت العلاقة التي تربط سالم عطيوي بباص الخشب عن تدفق رائع للمعلومات، كانت الخمرة المحلية تسمح بالكثير من البوح وكنا (راضي وانا) نتبادل الادوار في الاصغاء والتدوين.


٭ ٭ ٭



النخيل


تحول بستان عطيوي (ورثه عن جده) الى ميدان حرب بين جيشين عملاقين. يقع البستان في اسفل (الشلامجة) على الحدود العراقية الايرانية في محافظة البصرة. طوال ثمان سنوات لم يتحرك البستان من مكانه لكنه كان ينتقل من يد الفرقة 11 العراقية ليمكث بضعة اسابيع بيد الفرقة 21 الايرانية ثم يعود مجددا ليد العراقيين . وتتساقط عليه القذائف يوميا، مرة من مدافع الايرانيين ومرة من العراقيين. ومايهمنا هنا ليس مصير الجنود من كلا الطرفين الذين احتموا بجذوعه فلا حقهم القصف قبل ان يبتلعهم نهر جاسم وبحيرة الاسماك. هؤلاء كانوا يحملون خيارات عديدة للبقاء على قيد الحياة : الاستسلام، الاختباء، التراجع، الهرب من المعركة، وفوق ذلك كله عدم المشاركة في الحرب اصلا. لكن نخلات عطيوي لم يكن امامها سوى خيار واحد هو البقاء في مكانها لأن جذورها تمنعها، لا تقدر النخلة ان تهرب او تختبيء. وامام احتدام المعارك و القصف المدفعي اليومي ليس امامها سوى أمل وحيد هو المصادفة، ان تخطؤها القذيفة.

في عام (1980) كان عدد النخلات (500)، بعد ثمان سنوات من الحرب (1988) لم يبق من البستان سوى (16) نخلة فقط. مرة واحدة في السنة يطل عطيوي على نخلاته ليعدها. وهي مناسبة عامرة بالنواح . يقف قدام ظلالها المبتورة وينخرط في انين اسوة بالآباء والامهات الثكالى وهم يبحثون عن آثار ابنائهم. ينوح بصمت وهو يدون على ورقة صغيرة من مات من نخلاته ومن بقي حيا، ومع كل رأس مقطوع تنزل دمعة ثقيلة. البستان يذوي واعناق النخيل لا تقل التواءا عن اعناق الجنود المتعفنة في الخنادق. مرة ايرانيين ومرة عراقيين، يتركون بقاياهم في بستانه قبل ان يهزمهم الموت ويتركهم بلا ظل. حين تلتهم القذائف عنق النخلة وسعفها وعذوقها يهرب الظل بعيدا. يترك الاجساد المثخنة بالجراح تشويها الشمس. اقبح ما في بستان النخل ان يكون بلا ظل. لا يعرف عطيوي اين يضع عينه. كل شيء في البستان يؤذيه. يود لو يحمله بعيدا عن هذه المحرقة . البستان يتعذب يوميا. يمتزج غبار الطلع بالبارود فيحدث عقما في الذكور فلا تلد الاناث فسائل جديدة. لماذا لا يتقاتل الاقوياء في الصحاري حيث لا شجر ولا ظل يموت ؟. سوف يرى الاقوياء بعضهم بشكل افضل. اليس العراك هو متعتهم ؟، فلماذا يختبئون وراء اضلاع الجنود المتفحمة وجذوع النخيل ؟. لماذا يشركوا معهم السعف وعذوق التمر والجمار واوراق الريحان واعشاش العصافير وغبار الطلع واوكار العقعق وبيوض الحمام وهديله وظلال النارنج والمشمش ؟.

وحين يعود من رحلته يحمل معه سلة من الدمع الاسود، لايجد مأوى يضمد جراحه سوى باص الخشب. نعمر له كأسا. يحكي لنا مشاهداته، ثم يخرج من جيبه ورقته الصغيرة، تمتزج الخمرة بالدموع وهو يتلو علينا بصوت حزين آخر ما تبقى من نخلاته.

ملاحظة : الارقام ادناه مستلة من اوراق عطيوي في زيارته السنوية، كل رقم يمثل عدد النخيل المتبقي ابتداءا من عام 1980 وحتى نهاية 1988. لا حظوا ان قسمة اي رقمين متجاورين تعطينا ( 0.65).


متوالية النخيل : (500، 325، 211، 137، 89، 58، 38، 24، 16 ).


٭ ٭ ٭


هناك من سيعترض قائلا ان عملية القسمة لا تعطي الرقم (0.65) بالضبط، فلو اخذنا متوالية الاسنان و ضربنا 32 سن في ( 0.65) سوف نحصل على الرقم ( 20.8) وليس (21) سن.

ونحن هنا نؤكد ان ثابت عطيوي (0.65) دقيق ولا يقبل الشك. اما جبر الكسور فهو للتبسيط. ففي حالة الاسنان هناك بالتأكيد سن على وشك السقوط او سن نصف حي. وسنركب لاحقا قطار الفناء فنجد من يحمل جرحا طفيفا يمكن جعله في عداد الاحياء. وهناك جرح بليغ يقود صاحبه الى الموت، اي ان هناك ربع حي، او ثلث، او ثلاثة ارباع، وهناك ايضا ربع او نصف ميت... الخ. هذه التأرجح بين الحياة والموت نعالجه باهمال الكسور والاكتفاء بالاعداد الصحيحة.


٭ ٭ ٭



الزواج


تزوج سالم عطيوي اربع نساء، والمدهش هنا ليس تعدد الزوجات، ولا القدرة على الانتقال السلس من حضن الى آخر مع الاحتفاظ بالحب والحنان واللذة نفسها، كلا، لم نكن مندهشين من كل هذا، فقد كنا على اطلاع بمغامراته الواسعة خارج قفص الزوجية. ما بهرنا حقا هو ذلك التوافق العددي الذي رافق حياته الزوجية، لقد انجز عطيوي متوالية هندسية مذهلة في دقتها، وعزز تلك التصورات التي تراودنا.

لقد تزوج اربع مرات ولكن الغريب انه لم يعش تعدد الزوجات لحظة واحدة، فقد كانت هناك فاصلة زمنية ثابتة قدرها سنة واحدة بالضبط بين زوجة واخرى. وكان الموت هو القاسم المشترك لهذه الفواصل . اول زوجاته كانت (نعيمة بنت حجي دواي) التي عاش معها 16 عاما ثم ماتت. جاءت بعدها (كرجية المصلاوية) ومكثت 10 سنوات وماتت بالسرطان، وبعدها (فضيلة بنت شفيقة) وعاشت معه 7 سنوات وتوفيت في انفجار سوق الصدرية الاول مع اثنان من اطفالها. واخر زوجاته هي (خلود، شقيقة رحيم السويعدي) التي عاش معها 4 سنوات وقضت نحبها في انفجار سوق الخضار (علوة جميلة).


متوالية الزواج : (16، 10، 7، 4).


٭ ٭ ٭


الذرية


متوالية عطيوي تعمل بدقة عالية. منذ ان بدأنا حساباتنا وهي تسير على مايرام. بدأنا نخرج من دائرة الظن والتخمين الى فضاء اكثر صلابة.

يبلغ عدد ذرية سالم عطيوي 21 (اهملنا جنس المولود) موزعة على زوجاته الاربع وفق متوالية يحكمها ثابت عطيوي. هناك لحسن الحظ توافق مع تسلسل الزوجات، لكن الضعف في هذه المتوالية هو عنصر الزمن، فهو غير معين خلافا لبقية المتواليات، ولا نعرف باية طريقة سيدخل الى حساباتنا.

انجبت له زوجته الاولى (نعيمة) 9 مواليد، وانجبت له (كرجية) 6 مواليد، وانجبت له (فضيلة) 4 مواليد، بينما انجبت له (خلود) 2 فقط.

متوالية الذرية : (9، 6، 4، 2).


٭ ٭ ٭


الخدمة العسكرية


وفر لنا الأخ ماجد البهادلي ملخصا دقيقا (بالأيام) لخدمة سالم عطيوي العسكرية (الالزامية والاحتياط). يعمل ماجد موظفا في الهيئة الوطنية للتقاعد (القسم العسكري). ونحن اذ نقدم له شكرنا الجزيل نود ان نخبره بأمر مزعج :

ان الخدمة العسكرية البالغة (2726) يوما من عمر سالم جبر عطيوي (مواليد 1949) لم تنفعه في شيء، ولم يقبض عنها فلسا واحدا،، لا له ولا لذريته، ولا حتى مترا واحدا من الارض التي دافع عنها طوال هذه السنين.

وقد كتبنا خلاصة الخدمة مع رسالة (الى من يهمه الأمر). وبقيت تدور في مكاتب الدولة سنينا دون ان تجد من يهمه امرها.

والفائدة الوحيدة لها انها تحولت الى جزء معزز لبحثنا عن ثابت رياضي يحكم سنوات الضياع تلك.

الايام الخاكية البالغة (2726) موزعة على خمسة دفعات (استدعاءات)، تفصل بينها سنة واحدة. الخدمة الالزامية بلغت 1080 يوما، ثم اربعة دعوات احتياط موزعة على : 702 يوما، ثم 456 يوما، ثم 296 يوما، وآخر دعوة احتياط بلغت 192 يوما.

متوالية الخدمة العسكرية : ( 1080، 702، 456، 296، 192).


٭ ٭ ٭


الطيور

في صالة الضيوف تنتصب على احد الجدران صورة كبيرة للأب (جبر عطيوي) المعروف في المدينة بلقب (جبر المطيرجي) مع طيوره. وهي صورة فوتوغرافية بالاسود والابيض قياس (30 في 50 ) سم ومؤطرة بخشب الصاج يمنحها مساحة اكبر. تجتذب الصورة الداخلين الى بيت عطيوي على الفور. الأب محاط باعز ما ملك في الدنيا. واغلى ما تركه للأبن الاكبر (سالم جبر عطيوي) بعد رحيله. ولشدة تأثيرها فقد احتفظ المصور جليل بنسخة منها في ارشيفه. وكان يعرضها في واجهة الستوديو بحجم اكبر . لاشك ان جليل وجبر عطيوي حققا انجازا فنيا رائعا. للأسف ان الكلمات التي ندونها لا تنقل الا جزءا يسيرا من ذلك السحر في الصورة.

وكما يفعل مع طلاب المدارس عند التقاط صورة جماعية نجح جليل في جعل (300) طير مع صاحبهم يبتسمون في وقت واحد للكاميرا. وسجل تلك البسمة الناطقة الى الابد. تبدو الصورة كأنها تل من المريدين يحيطون بالغوث الاعظم. كان هناك 300 منقار تتزاحم لتقبيله. وكان جبر عطيوي من فرط اللذة قد اغمض عينيه وتنمل جلده. كانت الطيور قد غطت كل جزء فيه. صعدت مثل تل على كتفيه ورأسه. وتزاحمت في شكل هندسي أخاذ دون ان يغيب اي منها عن الظهور. و قد مد ذراعيه ليقف عليهما تلان من الطيور الضاحكة. وتعلقت البقية على صدره وفخذيه. ومن زاوية اخرى تبدو الصورة كأنها لعائلة سيرك تعرض ذروة اعمالها البهلوانية.

غير ان الابن لم يكن على سر ابيه. ولم تنتقل الوراثة الجينية كما كان مرجو منها. دخل سالم عطيوي الدنيا من بوابتين : النساء والخمرة. وقد نحر الكثير من الوقت والمال دون ان يشبع من اي منهما. كان سالم واحدا منا وكان سندا لوكرنا السري ورواده بماله وحضوره الدوري. لم يكن يفصله عنا سوى الكتب التي لم تجذبه يوما. رغم ذلك فانه يصرح دائما انه لا يجد ذاته الا داخل باص الخشب.

وكان يرى في والده نموذجا تاما للمطيرجي. فهو على السطوح دائما. ولا يتذكر ان رآه في الطابق الارضي الا نادرا. من هنا يبدأ نفوره. وكان يصرح بان الطيور لا تسمح لصاحبها بالنظر الى المخلوقات التي تدبي على الارض (وهو يقصد النساء على وجه التحديد) . فعين المطيرجي مرفوعة الى السماء اربعة وعشرين ساعة في اليوم.

وبموت الوالد (جبر المطيرجي) شعرت العائلة بالتحرر من سلطة الطيور. وبدأ جليد الشكاوى يذوب. ولم تعد تحتمل برازها المتراكم في كل شبر على السطوح. ولا ريشها واصواتها التي لا تنتهي. ولا سأم الجيران وتبرمهم من احتلال مكان نومهم في الصيف من قبل هذه المخلوقات التي لا تكف عن البراز حتى وهي في اعالي السماء.

ورغم اتساع ذرية الجد الاكبر (253 فرد، منهم 110 ذكور) الا ان انه لم يخرج من صلبه سوى مطيرجي واحد هو جبر، وحين توفي ترك فراغا لم يملأ بعده. واقصى ما وصلت اليه الجينات الوراثية هو (مهند) ابن سالم من زوجته الثالثة فضيلة الذي كان يتأرجح بين لاعب كرة فاشل ومطيرجي اكثر فشلا. فقد اهمل تنظيف الابراج الاربعة وتغذية الطيور وتحليقها اليومي، فراحت تتسرب تباعا وتهجر اوكارها لتبحث عن ابراج اخرى بعيدة.

وحدث امر اخل برفاهية الطيور، اذ حشرت جميعا في برج واحد. فقد كبر الاولاد واستحقوا الزواج. وكان لابد من هدم ثلاثة ابراج لبناء ثلاثة غرف لتفريخ البشر. كانت هجرة الطيور وعدم عودتها لها اسبابا وجيهة طبعا، لكننا من جهتنا وجدنا ان الأمر اقرب ان يكون خاضعا للقانون العام الذي يحكم كل ما يرتبط بعطيوي. الارقام ادناه هي اعداد الطيور لكل سنة بعد وفاة الأب (جبر المطيرجي).


متوالية الطيور : ( 300، 195، 127، 82، 54، 35 ).


٭ ٭ ٭


قطار الفناء


نحتاج هنا الى العودة الى التشبيه الذي وضعناه في بداية البحث :

(المتوالية اشبه بقطار ركب في عربته الاولى مجموعة من الاصدقاء. وفي اثناء سيره شب حريق في القاطرة فاغلق جميع الابواب وانتقل الى العربة الاولى فالتهم عدد من ركابها. فاضطر الباقون الى الهرب الى العربات التي تليها. لكن النيران ظلت تلاحقهم. وراح عددهم يتناقص باستمرار.

ان عدد الناجين المنتقلين من عربة الى اخرى يمثل عناصر المتوالية. وطول العربة هو زمن العبور الى العربة التالية، اما الفاصلة بين عربة واخرى فتمثل نقطة (لحظة) العبور ).

في عام 2003 دخل المحطة العالمية في جانب الكرخ قطار مليء بالملثمين. انتشروا في العاصمة. استأجروا بيوتا ليكدسوا فيها براميل الفناء التي جلبوها معهم. ثم بدأت الاسواق تتفجر و تلتهم آل عطيوي بلا رحمة. كان علينا ان نتريث قبل ان نسلم بدخول المتوالية الى هذه المحرقة الجديدة. فبيت عطيوي ليسوا جيشا، ولا يوجد فيهم مسلح واحد، وليسوا اعداءا لأحد .

كنا نتعامل مع قطار مليء بالمفخخات ووظيفتنا تحديد عدد الركاب الذين سيقضون نحبهم او عدد الناجين. ولكن ماهو طول العربة ؟ هل هي سنة ام سنتان ام اشهرا ؟ ومن هي العربة الاولى ؟ هل نبدأ من 2003 ام قبل ذلك ام بعده ؟ واين نقطة العبور ؟ اي يوم في التقويم السنوي ؟ .

لقد حصل خلاف هنا، وجدل دائري مرهق . ودخلت الينا اطروحات وتصورات شائعة تنتمي الى عالم الصحو. ولكي نبعد خطر الصحو كان لابد من المزيد من الخمرة.


٭ ٭ ٭

من نوافذ باص الخشب كنا نراقب مجاميع الملثمين تتسلل عند الفجر لتزرع اسواقنا بالفناء، شبحيون يتبخرون حالما نمسك بهم. كانوا يخبئون الفناء في اكثر المواضع بعدا عن الشك. يحملون ارواحنا بايديهم مثل لعب الاطفال. وكانت المصادفة هي الاله الاوحد للبقاء. كل ما لايخطر في بالنا يخطر في بالهم. يحملون كل المفاتيح لاختراقنا. ويأتوننا من كل الجهات. اصبحنا نشك في في الحيطان، في الخرائب، في الطابوق المبعثر، في كومة الملابس المستعملة، في وقفة الخبز، في الاسعاف، في بطن الحامل، في الكلاب السائبة، في روث الحمير، اكوام الزبل، وفي جميع اكياس البلاستيك.

وسرت اشاعة انهم فضائيون. وانهم صنف من الجن. وانهم البديل لعقاب الآخرة. وفي لحظة سكر قال راضي انهم معادلة تفاضلية بلا حل. وامام كثرة التفاسير ازدادوا غموضا.

٭ ٭ ٭

ومثل اية متوالية يتوجب ان نحدد قيمة ثلاثة عناصر منها على الاقل لكي نحصل على الثابت المطلوب.

جعلنا 2003 كعربة اولى في قطار الفناء. فتحنا ابوابها ليركب آل عطيوي البالغ عددهم (253). وجعلنا التاسع من نيسان كنقطة للعبور من عربة الى اخرى، وتركنا الباقي للمفخخات.

في التاسع من نيسان عام 2004 وجدنا ماتبقى منهم (164) فردا. كانت هذه اول اشارة انذار. ان حاصل القسمة يعطينا (0.65) اي ثابت عطيوي، لكننا لانقدر بعنصرين فقط ان نبني متوالية. ولانقدر ان نضمها الى بحثنا قبل التأكد تماما. الأمر اصبح خطيرا. ان اقتران المتوالية بالملثمين يعني انقراض بيت عطيوي خلال سنوات معدودة.

كانت مسألة تواجد بيت عطيوي في اغلب حوادث التفجيرات التي شهدتها العاصمة تثير الحيرة فينا بقدر المتوالية نفسها. وتحفز على التساؤل : ياترى من يبحث عن الآخر ؟.

يسجل بيت عطيوي حضورا لافتا للنظر في التفجيرات الاربع التي جرت في (سوق الصدرية) وسط العاصمة. وكذلك في تفجيرات منطقة بغداد الجديدة. وفي حي أور وحي الشعب والشعلة والمشتل والمنصور والشورجة وسوق جميلة، وجميع تفجيرات مدينة الثورة والطالبية والكاظمية والبياع.

وسجلوا ايضا حضورا في كارثة جسر الأئمة. في ذلك اليوم العصيب لم تنفجر عبوة ناسفة بل انفجر الذعر فالتهم الفا من العابرين.

وفي طريقهم لزيارة قبور ضحاياهم في النجف وقبل عبورهم منطقة اللطيفية طلعت عليهم مجموعة من الملثمين. اوقفت الميكروباص (11 راكب) التي تحملهم. انزلتهم جميعا ورشتهم بوابل من الرصاص.

وكان الامل في توقف فناء آل عطيوي هو فناء الملثمين انفسهم او عودتهم الى اصلهم الهلامي. او اماطة اللثام عنهم، فهناك من يرى ان الشر يكمن في انعزالهم و الظلمة المحيطة بهم. هناك دعوات لأغرائهم و سحبهم الى الضوء.

نصحه البعض ان يترك بغداد او يوزع عددا من اهله في المحافظات. بعث عددا منهم الى اقاربه في البصرة. ونقل بعضهم الى احدى اخواته في كركوك. وارسل قسما منهم الى عمته في الحلة. واسـتأجر لاثنتين من بناته منزلا في كربلاء. لكن المفخخات طاردتهم. او بالعكس. ذهبوا اليها بارجلهم. فسجلوا حضورا وطنيا لهم في مجزرة الحلة، وانفجار ما بين الحرمين في كربلاء، وانفجار ساحة سعد في البصرة، وانفجار سوق دوميز في كركوك.

وطرأت في بال سالم عطيوي فكرة الهجرة. فدفع سبعة من افراد عائلته الى ايران لكنهم اوقفوا من قبل الملثمين قبل الوصول الى المنذرية ورشوا بالرصاص.

واكتشفنا البعد الكوني لمتوالية عطيوي عندما وصلنا خبر غرق اربعة من اولاده قبل وصولهم السواحل اليونانية.

والحقيقة ان من الصعب وضع احصائية مفصلة لجميع الضحايا واماكن سقوطهم، وسنكتفي بالاجمالي السنوي للناجين بعد جمع الولادات وطرح الوفيات (الضحايا).


٭ ٭ ٭


لا يمكن وقف المتوالية لأنها تسير بمعزل عن ارادتنا. في التاسع من نيسان 2005 انخفض العدد الى (106) وبذلك حصلنا على العنصر الثالث،واعلن ثابت عطيوي حضوره، وتأكد الرقم في السنة التالية (2006) حيث بلغ ما تبقى من آل عطيوي (69) نفرا.

وظهرت العناصر الاربع الاولى من المتوالية : (253، 164، 106، 69).

كانت السنوات تمضي ببطء شديد وهي تلتهم بيت عطيوي تباعا. لم يعد هناك خيمة للعزاء. مع سقوط للضحايا نلجأ الى الباص، نفتح اكبر قدر من الخمر حتى يبدأ رحيم السويعدي اطلاق نكاته. وكلما اقترب التاسع من نيسان نحبس انفاسنا ونعد الولادات والوفيات ونضع الصافي جنب رقم المتوالية لنعرف عدد الذين يتوجب خروجهم من الدنيا كي تختم السنة استحقاقها الرياضي.

كنا نتوقع سماع خبر عطيوي في اية لحظة، فقد افلت مرات عديدة من فناء محقق، ورأى بأم عينه تطاير اشلاء سبعة وعشرين فردا من اهله. ففي منطقة الحبيبية جرح في خاصرته ورقد ثلاثة ايام في المستشفى. وانفجرت سيارة مفخخة في سوق الخضار (علوة جميلة) فماتت زوجته خلود وطفليها وجرح عطيوي جروح طفيفة.

ومع فجر التاسع من نيسان عام 2010 اكملت المتوالية عنصرها السابع، حيث لم يبق من بيت عطيوي سوى (19) نفرا. كان سالم عطيوي اكثرهم حظا اذ نجا من اثنتي عشر فرصة للفناء. وقفنا امام هذه الوقائع الصادمة وبتنا نرجح ان يكون سالم عطيوي هو آخر عنصر في المتوالية. اذا لم تتوقف الحرب فسوف تواصل المتوالية سيرها حتى عام 2015 بالشكل التالي :

متوالية الفناء : ( 253، 164، 106، 69، 45، 29، 19، 12، 8، 5، 3، 2، 1).

انتظرنا حتى التاسع من نيسان عام 2015 وجاءت النتائج مطابقة تماما لسير المتوالية اعلاه. لم يبق من بيت عطيوي سوى فرد واحد هو سالم عطيوي. ولكن كيف ستسير المتوالية ؟. لم يبق بأيدينا سوى الرقم (1). هل نواصل عملية الضرب بثابت عطيوي (0.65) ؟. هل ستسير المتوالية في داخل جسده لتحقق سلطة الرياضيات؟.

اول شيء بدأ يضعف فيه هو ذاكرته. بدأ ينسى جميع اعدائه، وينسى ماشهد من ويلات. نسي اهله على دفعات (محكومة بقسوة الرقم الثابت ذاته) . وقد نضب الدمع ايضا. لم يبق في فمه سوى بضعة اسنان يحتفظ بها للضحك على نكات السويعدي التي لم تتوقف في ذروة الفناء. فقد ظهر ان المتوالية لم تمس الضحك والخمرة فيه. ضعف بصره فلم يعد يرى احدا سوانا. وضعف سمعه فلم يعد يسمع احدا عدانا. وهجر مسكنه واتخذ من باص الخشب مسكنا له. وصار يصغر رويدا رويدا حتى غدا طفلا لاينام الا في احضاننا.


انتهت

2015 هولندا

كاتب عراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى