تغريد أبو قصيصة - الغريب.. قصة قصيرة

_ أبي بين الكتب
الصباحات دائمة مشرقة جميلة و رائعة ولا ذنب لها في حزننا .. هكذا كنت أردد و أنا أرى الشمس تستيقظ و تشد أشعتها كقطة صغيرة تتمطى بعد أن صحت لتوها من نوم لذيذ ..تقفز بمرح فوق أسطح البيوت البعيدة و تغمر الطرقات الهادئة بالدفء و الضياء، كل شيء كان جميلاً ناعماً كذكرى أبي حين تداعب البال ، إبتسمت له كأنه يراني و علِقت الإبتسامة على وجهي و ﻻزمتني طوال اليوم .
كنت قد إبتعدت كثيراً عن “الغريب” .. منزلي القديم و حياتي السابقة ، الطرقات التي إعتدتها ، مشواري الصباحي للمكتب و وجه عامل النظافة الودود . إتخذت أحد المقاعد في ركن قصي ، يصله القليل من الضوء من خلف الستائر ، حاملة كتاب إنتقيته من بين الكتب بالمكتبة الضخمة ، كنت قد إنتبهت لأن كل الكتب التي مررت عليها بها الختم الخاص بأبي في حواف الكتاب و الصفحة الأولى ، و خمنت أنه ربما كان يختم أي كتاب قام بقراءته و هالني أن يكون قد قرأ كل هذا الكم من الكتب!
تصفحت الورقات الأولى ثم إندمجت بعمق في القراءة ، فلم ألمح عمتي و هي تلج لغرفة المكتبة ، إلا بعد أن تحدثت إلي قائلة :
نحن مدعوون للغداء في منزل جيراننا ، لديك نصف ساعة كي تكوني جاهزة للذهاب، كان يبدو لي حديثها قاطعاً ولا يقبل الجدال ، رغم ذلك لم أتراجع في أن أخبرها بأني لن أذهب .. و تمنيت لهم إمضاء وقت سعيد و غداءً طيباً ، كانت ﻻ تزال تقف قرب الباب حين رفعت بصري مجدداً و على عينيها ملامح الدهشة ، كأنها تقول لي : كيف تجرئين ؟ ﻻ أحد يرد لي كلمة ، فما كان مني إلا أن تقدمت نحوها و ربت على كتفها و أنا أقول بلهجة واضحة هادئة : ﻻ أود الذهاب ، سأبقى لتكملة هذا الكتاب .. إذهبوا و أخبروني كيف كانت الدعوة حين عودتكم ، تجاوزتها و توجهت لغرفتي مغلقة بابها بهدوء .
ﻻ أعرف لم خطرت لي هذه العمة بالذات ، رغم أني لم أرها منذ زمن طويل ، كما أني ﻻ أعرف عنها شيئاً ، بالكاد نتبادل المعايدة في الأعياد ، لكني بت أشعر بشيء قوي ، حدس يخبرني أني قد أكتشف شيئاً و أن مجيئي إلى هنا لم يكن سوى ترتيب دقيق من القدر لأجل أمر ما .
كانت آخر مرة أراها فيها في جنازة أبي ، و رغم صغر سني لكني أذكر أنها لم تبك مثل البقية و لم يبد عليها الحزن ، كما أنها إنصرفت بسرعة و لم تطل البقاء ، ذهبت للمطبخ بعد إحساسي بالجوع ، أعددت بعض شرائح اللحم المشوي و البطاطا المقلية التي كنت ألتهمها فور إستخراجي لها من المقلاة متلذذة بقرمشتها و سخونتها ، حملت صينية الطعام الصغيرة و قنينة ماء و جلست بمقابل شاشة التلفاز الكبيرة العصرية و التي لا تتناسب مع المتحف الموضوعة فيه .
أخذت أتناول طعامي بينما أتربع في المقعد و أتابع برنامج غبي من برامج مسابقات الغناء ، كل المتسابقين بأصوات سيئة ، و كنت أفكر لو أني ضمن لجنة التحكيم لما سمحت لأحد منهم بالفوز ، أعدت الأواني الفارغة للمطبخ و قمت بغسلها و تجفيفها و إعادتها لمكانها ، و ما أن خرجت من المطبخ ، وضعت يدي في جيوب بنطالي القصير و قلت بصوت مسموع : هذه الحياة هراء .. يجب أن أحصل على عمل .
سمعت صوت تكة باب المنزل ، دخلت عمتي و بناتها الثلاث و حفيدتها .. إبتسمت لهن و سألتهن عن الدعوة : أجابتني إحداهن ، بأنها كانت رائعة ، ضمت كل أسر الحي .. و أضافت : لقد ضيعتي على نفسك شيئاً عظيماً .
بينما أمسكت أخرى بساعدي و همست لي بالسر الخطير و هي تبتسم بخبث : لقد خطبتها إحدى السيدات الثريات لإبنها الوحيد فإتسعت إبتسامتي فرحاً لأجلها و لظني بأن أحلامهن بسيطة للغاية . توجهت نحوها و طبعت قبلة على خدها و أنا أبارك لها الخطبة ، سألتني عمتي عما إذا كنت تناولت شيئاً .. فأجبتها بأني أنهيت غدائي للتو .
إستأذنوني بالذهاب لتغيير ملابسهن ..
“أووه بالتأكيد ” قلتها و عدت أيضاً لغرفتي ، حملت الكتاب مجدداً .. كانت هناك خطوط و دوائر بقلم الرصاص حول عبارات و كلمات معينة ، أحسست أن أبي هو من حددها أثناء قراءته ، سرحت فيه طويلاً .. إسترجعت عطره ، مشيته و قامته الطويلة ،إبتسامته الطيبة .. تنبيهاته المتكررة من الغرباء.
لا أعرف كم مضى من الوقت لكني إستيقظت ﻷجد أن المساء قد حل و أنا أغفو محتضنة الكتاب على آخر صفحة توقفت عندها ، أمسكت بهاتفي و أنا أضرب به كف يدي الأخرى بعد أن أنهيت إجراء بعض المكالمات ، إتسمت مكالمتي مع جارتي المسنة بطابع عاطفي ، إذ أنها أجهشت بالبكاء ما أن تبينت أذنها ثقيلة السمع صوتي ، و قالت أنها تفتقدني جداً ، و من ثم بدأت تشكو لي بأن حديقتها بدأت تملؤها الحشائش الضارة و ما من أحد يساعدها في تشذيبها . و لم تتردد في تقديم دعوة لتناول الشاي معها ، ستصنع كعكة التوت التي أحبها (على سبيل الإغراء) .. قلت لها بأني ﻻ أدري و لكن سأخبرك في حال تمكنت من القدوم ، أما زميلتي في المكتب لم تكف عن الأسئلة ، أين ذهبت . ماذا فعلت . كيف تبدو السكنى الجديدة مع الأقارب ، و كان واضحاً لي برغم فضولها المغلف نبرة السعادة في صوتها ، فهي تعتقد أني برحيلي قد أخليت لها الجو ، لتنصب شراكها حول الموظف الأعزب الجديد دون أي تشويش صادر من وجودي ، رغم أنه لم يخطر على بالي للحظة ، و ربما ﻻ أجده جذاباً حتى .
المكالمة الأخيرة كانت مريحة ، حيث أني إستطعت تدبير مقابلة مع رئيس تحرير صحيفة مشهورة ، على أمل أن أتوصل معه على إتفاق للإنضمام لطاقم المحررين بالصحيفة .
جاءت الطفلة لتقطع لحظات الشرود ، توقفت بجانبي و كانت المرة الأولى منذ وفودي لهذا المنزل ، أن تتحدث إلي من تلقاءها دون أن تكون مرسلة من العمة .
آسفة لم أستأذن ، وجدت الباب مفتوحاً ..هكذا بدأت حديثها ، فهمست لها : ﻻ عليك
نظرت إلي قليلاً قبل أن تسألني ، بدا لي كأنها ترتب صيغة سؤالها ، ثم قالت أخيراً :
هل تجدين الحياة في هذا المنزل جيدة ؟
أعني هل هي جيدة بالحد الذي يسمح لك بالبقاء فيه للأبد ؟
لم أفهم المغزى من سؤالها ولا بم أجيبها بالضبط ، طلبت منها الجلوس بجانبي ، ثم تربعت كلانا على الفراش .. أنا أعبث بشاشة هاتفي و هي تشد شعر دميتها ما أوحى لي بتوترها .
أظن الحياة هنا صعبة قليلاً و مملة بعض الشيء ، و بأية حال .. ﻻ أحد يقيم في ذات المكان للأبد ، كانت إجابتي مريحة نوعاً ما أو هذا ما بدى في ملامحها ، ما جعلها تتشجع و تقول المزيد .. نعم هي صعبة ، خاصة أن جدتي تهتم بالقطة البدينة أكثر من الناس ، وﻻ تسمح لي باللعب مع أطفال الجيران .
إبتسمت لها و أنا أمرر يدي على شعرها الناعم .. ما مشكلتك مع القطة ؟ ليست لدي مشكلة ، إنها تنجب الكثير من الهراء الصغيرة ، تكون عيونهم زرقاء و صفراء كما تعلمين ، ثم تخبئهم في مكان بعيد .. وﻻ أراهم مرة أخرى ، أطلقت ضحكة صغيرة و سألتها : هل هذا فقط ما يزعجك ؟
ﻻ .. أشعر أن ثمة أرواح شريرة تسكن القطة ، نظرت لي و هي تقول : عديني أﻻ تفشي السر .. رفعت كفي و أنا أقول لها : أعدك ..هذه الأرواح الشريرة تنتقل إلى الجدة ، إنها تتصرف بغرابة أحياناً ، و تتفوه ببعض العبارات الغير مفهومة أو السيئة ، حتى أن والدتي تأمرني أﻻ أتحدث بهذا الأمر .
أنا خائفة من هذا المنزل ، و سعيدة بأنك قد إنتقلت للعيش معنا رغم أني ﻻ أحبك كثيراً ، لكن يعجبني أنك الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يقول لها ( لا )، لذا قررت أن تكوني صديقتي .
يسرني أن تصبحي صديقتي أيتها المتمردة ، لكن يجب أن تعلمي بأن العمة طيبة و أن الأرواح الشريرة تسكن في القطط السوداء و ليس البيضاء .
لم يرق لها حديثي الأخير على ما يبدو ، فقد كانت متمسكة بقناعتها بخصوص أنهما شريرتان ..( عمتي و القطة ) و أكدت لي أنها ستثبت لي ذلك ذات يوم .
سمعت طرقات خفيفة على باب الغرفة .. و بعد أن سمحت للطارق بالدخول ، إنفرج الباب قليلاً و أطلت والدة الصغيرة بوجهها تسأل عما إذا كانت صغيرتها هنا ، قفزت الطفلة و ركضت صوب أمها ، سمعت أمها تقول : ماذا تفعلين هنا ؟ كنت أبحث عنك في كل مكان .. لوحت لي الصغيرة قبل أن تغلق أمها الباب و هي تعتذر بلطف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى