مصطفى أحمد علي - شارع فكتوريا (1)

أقيم منذ ليال في فندق "ريجنسي"، في شارع القصر، في الخرطوم. كان اسمه "مريديان" في زمان مضى. اسم "ريجنسي" فيه احتيال لا يخفى على أحد. لشدَ ما تغيرت الأحوال!

شارع القصر، أو قل شارع فيكتوريا في زمان غابر، كان درة شوارع الإمبراطورية في الخرطوم، يحمل اسم الملكة الصارمة التي وسم اسمها عصراً بكامله، كان يبدأ من محطة الخرطوم الأنيقة بالوانها البيضاء ومكاتبها الانيقة وأشجارها المنسَقة، وقطاراتها البيضاء، قطارات تتَجه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، تنقل الصادر والوارد، من نيالا إلى بورسودان، ومن حلفا إلى واو، وتسعف درجاتها الأربع المسافرين، وتحملهم إلى أركان السودان الاربعة، وتستمر رحلاتهم ليالي واياماً، قاطعين مئات الكيلومترات وألوفها، وكانت الساعات، عنوان تانَق الشباب آنئذ، تضبط على وقع محركات القطارات الصاعدة والهابطة وصافراتها.

عند مدخل الشارع المتَجه إلى الشمال، وعلى جانبيه، يقف في شموخ، معمل استاك، جهة اليمين، ومدرسة كتشنر الطبية، جهة اليسار، كلا الرجلين، استاك وكتشنر، كان مفخرة الإمبراطورية وعنوان سطوتها وهيبتها وعنفوان سلطانها.

كان الشارع حتى سبعينات القرن الماضي، يحمل، ما يزال، سماته الإمبراطورية وملامحه البريطانية التي أبصر عليها النور وفطم عليها، برغم إطلالات حييَة، فرنسية وايطالية ويونانية، تؤكد الانتماء الامبراطوري، شديد الوطأة، ولا تجسر على منافسته.

كان فندق "مريديان" إحدى هذه الإطلالات الفرنسية، تعزَزها، في الطابق الأرضي المطلَ على الشارع العتيد، مكاتب "أير فرانس" الفاتنة المتأنقة بألوانها الزرقاء والبيضاء والحمراء.

اختفت بوابة محطة الخرطوم، كما اختفت ملامح المحطة بأكملها، إلا من قضبان تعوق سير السيارات وتزيد من وطأة الزحام المقيم. القبَتان في مدخل الشارع عن يمين وشمال، والحيطان المؤلفة من الحجر الجيري، انزوت وراء الزحام والفوضى، فوضى أجهزة المكيفات التي نصبت كيفما اتَفق، تنتهك حرمة الجمال وتسخر من ملكة الذوق التي تنمو هونا ماً في الوجدان ثم يجور عليها الزمان؛ فوضى القمامة التي تحيط بالمكان عن يمين وشمال، تصهرها الشمس، بكل مكوَناتها، وتلفحها السموم، فتوحد عناصرها، وتذروها الرياح وتنثرها ذرات في الأرجاء، تتخلَل المنافذ وتطغى على الأرصفة وتهيمن بلونها الأغبر على المشهد كلَه، وإلى الابد: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد!! ؛ فوضى بائعات الشاي والمتحلقين حولهنَ من جيوش العاطلين النازحين المهاجرين من أصقاع السودان وأقاصي القارَة، بأسمالهم الرثَة وآمالهم الموءودة وخواطرهم الكسيرة؛ فوضى العدوان على الدور الصغيرة المتَصلة على يمين الشارع، زحفت عليها العمارات الأسمنتية الجائرة، وهل "العمران" في بعض مظاهره إلا عدوان على جمال المكان؟ تخيل حديقة (لكسمبورج) وقد قطعت اشجارها وروَعت بلابلها وأطيارها، وصوَحت أنوارها وأزهارها وأزيلت من موقعها، وأقيم مكانها مدينة من الابراج على غرار (لا ديفانس) و(مانهاتن)؛ وأن عدوى الابراج العالية والعمارات الشاهقة امتدت على جانبي (سان ميشيل) و(سان جيرمان)؛ وأن المقاهي والمطاعم العتيقة والمكتبات والخزانات الأنيقة، والشوارع الداخلية المتعرَجة الضيَقة الساحرة، والنوافير والفسقيات النابضة، اختفت وتحولت إلى "مولات" أمريكية مكيفة الهواء، واسعة الأرجاء، تنبعث منها روائح "الكنتاكي" و"الماكدونالدز".

من قال إن التاريخ يصنعه الإنسان ولا تصنعه الأمكنة.


د. مصطفى أحمد علي
الخرطوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى