أمل الكردفاني- سلام في المدينة الصغيرة - قصة قصيرة

اجتمع كل من بالمدينة الصغيرة أمام شاشات التلفاز أو هواتفهم وحواسبهم المحمولة ؛ فاليوم ستبدأ المناظرة بين مرشحين لمنصب عمدة المدينة. كان المرشح الأول أكاديميا شابا حيث يدرس الفيزياء في جامعة المدينة وأما المرشح الثاني فهو ضابط شرطة متقاعد. وقد بلغ كلاهما التصفية النهائية وحانت لحظة الحسم ؛ إذ بمجرد انتهاء المناظرة سوف ينفتح الباب أمام الناخبين من أهل المدينة. وبالتالي فعلى كل فرد بالغ عاقل أن يحدد وجهة نظره في مستقبل مدينته. كان الشاب وسيما وأما الضابط فسمين ومترهل ذو كرش وهو يمسح شاربه الأبيض كل نصف دقيقة.يبدو ناعس العينين غير مكترث لشيء وأما الشاب فنشيط ومتحفز ويبدو عليه القلق.
كان المرشحان يجلسان متباعدين وفي المنتصف بينهما منصة قصيرة يقف عليها مدير المناظرة وهو اربعيني نحيل الجسد صارم القسمات عدائي النظرات ورأسه أصلع. وكان ثلاثتهم يرتدون بدلات رسمية ورابطات عنق. وراءهم جميعا خلفية زرقاء عليها رمز المدينة وهو عبارة عن طائر الوقواق يضع بيضة في عش طائر آخر.
ابتدر مدير المناظرة الحديث وقال:
مدينتنا التي لم تحمل اسما يوما ما ، ورغم مساحتها الصغيرة بالنسبة لباقي المدن ، لكنها ظلت الأكثر ديموقراطية والأكثر حداثة ومواكبة للتطور...ها نحن اليوم نتابع المناظرة السادسة والتسعين منذ تحولت قرية صغيرة على مشارف النهر إلى مدينتنا اليوم وأمتلكت شخصيتها الاعتبارية ثم ظلت طوال هذه القرون تدير ترشيحها الانتخابي بكل نزاهة وطمأنينة. وعند بداية كل دورة رئاسية يتم إجراء استفتاء حول اسم لهذه المدينة ثم ينتهي خيار شعبها برفض كل الأسماء المقترحة لكي تظل بلا اسم. واليوم أتشرف بإدارة مناظرة حاسمة بين مرشحين من جيلين مختلفين. جيل الشباب وجيل الكهولة. جيل العلم وجيل القوة. جيل النجاحات وجيل النضالات. فأيهما سيختاره شعب مدينتنا التي بلا اسم؟ لن نتعجل ما ستنتج عنه الانتخابات بل سنحاول فتح آفاق وعي الجماهير بمرشحيها الذين خاضا معارك طويلة وصعبة طوال اربعة أشهر منصرمة حتى بلغا التصفيات النهائية. سأدعوكم يا سادتي إلى التفرغ الكامل لمتابعة هذه المناظرة..لأن قراركم هو ما سيحدد مصير مدينتكم ومستقبل أبنائكم وأحفادكم.
فإلى القسم الأول من المناظرة وهو مخصص ليعرف كل مرشح عن نفسه خلال اربعين ثانية فقط.
ونبدأ بمرشحنا الشاب... تفضل.
ابتسم الشاب بزهو وحرك رأسه يمينا ويسارا ثم أقحم أصابعه في شعره وأعاده للخلف ، وقال:
- أنا مرشحكم رمز الكتاب.. (ضحك) هكذا اختارته لي القرعة ، وعلى أي حال فأنا عالم فيزيائي ومدرس جامعي وأب لطفلين وستشاهدون هناك (أشار بأصبعه لامرأة في وسط العشرينات من العمر) زوجتي وحبيبتي التي كافحت معي حتى بلغت كل هذا النجاح .. أااا .. هذا كل شيء....أشكركم.
انتقل مدير المناظرة إلى الضابط وقال:
- جاء دورك سيدي.
ظل الضابط ساهما لخمس ثوان ثم استنشق هواء بمنخريه ونظره إلى البعيد وجسده مسترخ في كرسيه ثم قال:
- أنا ضابط شرطة متقاعد برمز البندقية.. رغم أن قوانين الشرطة لا تسمح لنا بحمل بندقيات بل مجرد مسدسات غير محشوة بالرصاص. تزوجت اربع مرات ولم ارتح طيلة زيجاتي الأربع...وأنجبت طفلا هو شرطي إطفاء شاب اليوم...أحمل شهادة جامعية لا قيمة لها في نظري فالحياة العملية أكسبتني معرفة ووعيا أكبر من حصص أمام سبورة وأستاذ لا يعرف شيئا في الحياة سوى ما بداخل الكتب.
صمت الضابط وبدا الامتعاض على وجه الشاب فسعل وهو يغطي فمه بقبضة يده.
قال مدير المناظرة:
- حسنا هكذا نكون قد تعرفنا على شخصية مرشحينا وسننتقل إلى القسم الثاني من المناظرة والذي سيخصص لإجابة سؤالنا حول برنامج كلا المرشحين..وسنبدأ بمرشحنا الشاب...
بدت الجدية على وجه الشاب ثم أخرج قلما من جيبه ودون على ورقة أمامه جملة ما ثم قال:
- إن برنامجي الانتخابي طويل جدا ذلك أنه برنامج اعتمد على دراسات وبحوث علمية عديدة لتطوير مدينتنا بشكل منهجي..لكنني سأحاول تلخيصه في بضعة نقاط ؛ الأولى هي تطوير التعليم بدءا بالمناخ التعليمي مرورا بتطوير المناهج مع مواكبة لأحدث تطورات العلوم الحديثة. وبما أن مدينتنا هي مدينة تعتمد على الزراعة والخدمات فهناك برنامج شامل وكامل لدعم الزراعة. كما أن هناك برنامج كامل لتطوير التجارة وشركات الثقة والبنوك لتقديم ائتماناتها المفيدة للتطور الاقتصادي. وقد آن الأوان لتطوير سوق الأوراق المالية أيضا وبرنامجي جاهز لذلك... هناك أيضا برامج كاملة لمسائل أخرى عديدة لن يتيح لي وقت المناظرة أن استعرضها...هذا كل شيء وشكرا..
مدير المناظرة:
- جيد هو التزامك بالزمن سيدي المرشح رمز الكتاب. وسأنتقل فورا للمرشح رمز البندقية .. تفضل سيدي.
رمش الضابط بعينه وهو يضع سبابته تحت أنفه متأملا لثوان ثم قال:
- إنني لا أملك برنامجا...
قال مدير المناظرة:
- كيف ذلك سيدي؟
قال الضابط:
- إنني لا أؤمن بهذه الخزعبلات... متى كانت هناك حكومة بلا برنامج؟ .. ومتى كانت هناك برامج لم تستند لدراسات وبحوث؟ .. ومع ذلك كانت كلها تفشل... هل تعلم لماذا؟ لأن الحكومات تكذب على شعوبها لتسرق أموال الضرائب التي يدفعونها ثم لا تقدم لهم سوى البيروقراطية التي تعقد حياتهم والمشاريع الكاذبة... أنا لا املك مشاريع .. إنني أملك ما فعلته طيلة حياتي وهو الحفاظ على أمن مدينتنا.. تاركا للشعب أن يطور مهاراته بنفسه. إن الصيدلي لا يحتاج لي لكي أدير له اجزخانته..إنما يحتاج ألا يداهمه مجرمو السطو المسلح ليلا... المزارع لا يحتاج لمساعدة من الحكومة بل على العكس.. يحتاج لأن تبتعد الحكومة عنه ليعمل كما يراه محققا لمصلحته... إن المعلم لا يحتاج لمناهج جديدة إنما لعدم اقتطاع جزء من مرتبه كضريبة تذهب كمرتب للوزير... هذا الشعب لا يحتاج لبرامج بل يحتاج للأمن...الأمن فقط يا سادة... لا يحتاج لحكومة بل يحتاج لحرية بعيدا عن لصوص الحكومة...
صمت الضابط دون أن يبعد سبابته من تحت أنفه. فقال مدير المناظرة:
- نشكر كلا المرشحين على التزامهما بالوقت .. وسننتقل إلى القسم الثالث والأخير من مناظرتنا والتي سنخصصها عن علاقتنا بباقي المدن...وكالعادة سنمنح المرشح الشاب فرصة الحديث..فلتتفضل سيدي..
تنحنح الشاب وقال بصرامة:
- إن علاقاتنا مع المدن الأخرى يجب أن تتسم بالمحبة والسلام..وتبادل المصالح المشتركة بندية وتكافوء ..برنامجي سيخصص لزيارة كافة المدن الأخرى ومحاولة تقريب وجهات النظر بيننا لوضع مشاريع مشتركة ذات فائدة للجميع.
قال مدير المناظرة:
- أشكرك سيدي على التزامك بالوقت وانتقل للمرشح الثاني..فلتتفضل سيدي...
كعادته صمت الضابط برهة ثم قال وهو يبسط يده على خده:
- لا أعرف ماذا يعني هذا السؤال حقا؟
قال مدير المناظرة بدهشة:
- علاقتنا بباقي المدن...السؤال واضح على ما أعتقد يا سيدي؟
قال الضابط:
- حسن..إن كنت قد فهمت السؤال فنحن لسنا جزءا من تلك المدن لكي نقرر عنها سياساتها تجاهنا...أليس كذلك؟.. لو قلت سنتعامل معها بتكافوء وندية فربما أكون قد ظلمت مدينتي عندما لا تكون تلك المدن راغبة في أن تتعامل معنا بذات الشاكلة..أعتقد أن الحديث عن محبة مدينتنا لمدينة أخرى رومانتيكي وربما أضيف إليه أن تتبادل مدينتنا ممارسة الجنس مع غيرها من المدن ما دمنا نتحدث عن مدينة بقلب مراهقة...إنني لن أتبنى سياسة عادلة مع المدن الأخرى بل سياسة تمنح مدينتي دائما التميز والتفوق.. فلست مسؤلا عن مرضى المدن الأخرى بل عن مرضى مدينتي فقط...مع ذلك إن كنت رومانسيا قليلا كالمرشح الشاب فسأقبل التفاوض مع المدن الأخرى عندما يصبح انتصار مدينتنا عليها صعبا...
صمت الضابط فقال مدير المناظرة:
- أشكرك سيدي وأعود وأشكر كلا المرشحين في هذه المناظرة الرائعة التي اتسمت بروح الشفافية والوضوح والتزم فيها الطرفان بالوقت المخصص لهما.. سيداتي سادتي من مواطني مدينتنا التي لم تحمل اسما يوما ما .. بعد ثلاث دقائق بالتحديد..ستنطلق صافرة التصويت للمرشحين.. وغدا وفي مثل هذا الوقت سيتم إعلان النتيجة الحاسمة...أشكركم على حسن المشاهدة والاستماع..وإلى اللقاء...

***


احتشد الناس في ميدان مدينتهم العام وفضل آخرون مشاهدة أول لقاء مع عمدتهم المنتخب على وسائل التواصل الاجتماعي...بعضهم احتشد في الخمارات وفضل العجائز مشاهدته على التلفاز... ولساعات ثلاث شلت المدينة شللا تاما استعدادا لأول حديث للضابط أمام شعبه. في البداية ظهرت شاشة زرقاء عليها طائر الوقواق الذي يضع بيضته في عش طير آخر...تبخرت الصورة لتكشف عن العمدة الجديد..كانت الصورة تبدأ من رأسه وحتى صدره ؛ وهو يرتدي تي شيرتا أزرقا بأكمام قصيرة ، مسح على شاربه الأبيض وغمغم وهو ينظر إلى الجانب المعتم على يسارع:
- هل نبدأ...حسنا...
إتكأ بخده على كفه وعيناه ناعستان..
- إن هذه مراسم سخيفة...ولماذا يجب علي أن أتحدث إليكم ما دمت قد قلت الكثير لأقنعكم بانتخابي؟ أنا لا أجد مبررا كافيا لهذه الطقوس بعد انتخابي عمدة...
أخرج منديلا من جيب قميصه ومسح العرق من جبينه ثم قال:
- لكن لا بأس من أن استفيد من ذلك لأخبركم بمشروع مهم جدا ؛ هو في الواقع لن يكلفنا شيئا كثيرا لكنه سيحقق لنا أمانا مطلقا .. تعرفون أنني مهتم بالأمن..ربما لخلفيتي الشرطية..وربما لصدمة نفسية تعرضت لها..لا أعرف حقيقة..لكن على أي حال أرى أنكم في هذه المدينة لا تحتاجون شيئا بقدر حاجتكم للشعور بالأمن...قبل يومين فقط تم الاعتداء على مسنة واغتصابها ثم صدع رأسها بصخرة... وقبلها بقليل كانت هناك جريمة أخرى تتعلق باختلاسات مالية في شركات تابعة لحكومة المدينة... بعض العنصريين هاجموا بضعة أقليات...وغير ذلك الكثير... عالمنا هذا ليس مسالما بل داخل كل إنسان مجرم مسجون..أنا شخصيا أشعر أحيانا بأن علي أن أمارس ضبطا صارما على نفسي حتى لا أخرج المجرم الذي داخلي...أدرك أن هناك من يتمنى قتل عدوه ولكنه خائف..أو حرق كلب جاره الذي ينبح طوال الليل...أو خنق مديره اللئيم في العمل...أو سرقة خزنة بنك بها الملايين....كلنا داخلنا مجرم صغير مكبوت ومقموع بوعينا بأهمية السلام..لكن ليس كل الناس كذلك.. فهناك من لا يأبهون بعاقبة إجرامهم...يمكن لأحدهم أن يقتلك ليسرق مافي جيبك ويشتري به نبيذا...
رجع وأراح ظهره على كرسيه ثم قال:
- باختصار نحن لا نريد أمثال هؤلاء في مدينتنا..هؤلاء مكانهم خارج هذه المدينة أو خلف قضبان السجون...أريد لطفلتي -لو كان لي طفلة- أن تسير آمنة مطمئنة.. أن تخرج في كل وقت وأنا متأكد بأنها حتى لو ضاعت في زحمة المدينة لكنها ستعود سليمة معافاة....
عاد واتكأ بمرفقه على طاولة غير ظاهرة في الصورة ثم قال:
- المجرمون وحدهم من سيكرهني الآن وأنا أقدم هذا المقترح....الحقيقة أنني لم أقابل معجزة في حياتي...وكل ما خبرته كان له مرجعية منطقية ..ربما كان هذا ما جعلني أعتنق فكرة الفعالية...فلا أؤمن بالحظ ولا النحس ولا التشاؤم ولا التفاؤل..إنني مقتنع بأن واقعنا اليوم هو نتاج قراراتنا الماضية...وأن لكل فعل رد فعل معاكس له في الاتجاه ومساو له في القوة...هكذا يقول الفيزيائيون..وربما ليس بعيدا كان هناك فلاسفة يرون أن العالم تشكله الرياضيات..رغم أنني أكره هذه المادة منذ المدرسة لكنني مقتنع بأهميتها... لأن كل عالمنا مؤسس على عمليات حسابية دقيقة..أي خلل فيها تكون النتائج مختلفة تماما كاختلال كرموزومات الفرد. وعلى هذا الأساس فمشروعي الأمني يا سادة هو أن نتكاتف جميعا لوضع المجرمين في كمين..أو مصيدة...وهي مصيدة نثبت عبرها أننا لسنا مجرمين ومن ثم فإن من لم يستطع ذلك يكون حتما مجرما...
نظر إلى يساره فامتدت يد أنثوية نحيلة وقدمت له كوب ماء...اجترع منه ثم مصمصم شفتيه ومسح على شاربه الأبيض كعادته:
- تعرفون بالتأكيد جهاز الرقابة الالكترونية والذي يستخدم في نطاق الافراج الشرطي...إنه جهاز عظيم جدا...ولا أخفيكم القول أن هذا الجهاز أصبح أكثر تطورا من ذي قبل...فهو اليوم أصبح شريحة بحجم رأس الكبريت تزرع في الجمجمة تحت فروة الرأس وهكذا يظل المفرج عنه تحت رقابة التتبع بالقمر الصناعي...
اجترع من الماء ثم حنى جنبه الأيسر وأخرج علبة سجائر من جيب جنبه الأيمن فأنتزع منها لفافة وأشعلها:
- أرجو ألا يقلدني أحد وأنا أدخن..إن التدخين كان غلطة عمري... ولكن فلنعد لأمر جهاز مراقبة المفرج عنهم بشروط..نعم هذا الجهاز يستخدم للمجرمين..لكن ماذا لو عكسنا المسألة..ماذا لو زرع كل الأبرياء هذا الجهاز ليؤكدوا دوما على خضوعهم للقانون وإيمانهم بأن سلوكهم مكشوف امام الجميع فهم لا يخشون شيئا..لا يخشون سلطة القانون لأنهم يحترمون القانون دوما... تخيلوا معي يا سادة..ماذا سيحدث للمجرمين..في الواقع لن يكون أمامهم سوى أحد خيارين: إما أن يرفضوا زرع الجهاز فيؤكدوا على أننا كمواطنين صالحين في هذه المدينة لا يجب أن نثق فيهم...أو يقبلوا زرع الجهاز وحينها سيتم اكتشاف أقل جريمة يرتكبونها...فلا ينالوا فقط العقاب المناسب بل اللفظ والنبذ الاجتماعي...إنني أدعوكم غدا للتصويت في استفتاء عام لكل سكان مدينتنا ليختاروا الوقوف إلى جانب السلام الاجتماعي أو إلى جانب الإجرام والظلم...
اجتر نفسا من سجارته ثم أطفأها على منفضة غير ظاهرة في الشاشة..بعدها قال:
- حسن.. لقد ثرثرت كثيرا اليوم...وأدرك أنكم تشعرون بالرغبة في النوم كما أشعر...كما أدرك أنكم تتمنون ألا تستيقظوا ليلا وأنتم مفزوعون حين تشاهدون مجرما وقحا يسلط على وجوهكم بندقية ويسلبكم أموالكم أو أعراضكم.... إلى اللقاء... بوركتم جميعا...

***

تفرقت الحشود وهي ساهمة ؛ كان مشروع جهاز المراقبة مفاجئا لهم ؛ وحين قال البعض أن على شعب المدينة أن يحصل على مزيد من الوقت لاتخاذ القرار المناسب اتهمهم الآخرون بأن لديهم ميولا إجرامية فكلام العمدة واضح...استفزت تلك الاتهامات المتهمين واتهموا بدورهم الآخرين بأنهم منساقون وراء عاطفة تصديقية عمياء... وحتى لا يتطور الأمر بتعارك الطرفين فضل الجميع أن يؤوبوا إلى أسرتهم ويناموا حتى الصباح فلعل الصباح يأتي بمستجدات تحسم الجدال...

***


الصفوف طويلة جدا ، امتدت منذ السادسة صباحا وحتى الخامسة ؛ وانتهى الأمر بالتصويت لصالح شريحة المراقبة. وهكذا بدأت عمليات زرع الشريحة لكل مواطني المدينة التي بلا اسم...وقد تفاجأ شعب المدينة بخروج فرق الموسيقى الحكومية احتفاء بهذه المناسبة في كل شوارع المدينة ؛ وهي تدعو الجماهير للاحتشاد في الميدان العام وأمام شاشات هواتفهم وحواسيبهم وتلفزيوناتهم للاستماع إلى خطاب العمدة المنتخب. فأشعلت الجماهير الألعاب النارية وأطلقتها لتنفجر في السماء بالألوان والأشكال الزاهية ، ثم انتظروا ظهور العمدة بعد دقائق.
وكما كان الأمر سابقا فقد ظهر على الشاشة شعار المدينة الأزرق والمنقوش عليه رسمة لوقواق يضع بيضته في عش طائر آخر ، ثم بعد ذلك ظهر العمدة ؛ الذي كان هذه المرة يرتدي بذته الشرطية.
كان يجلس مرتخي الجسد ونظرته ناعسه وسبابته تمسح على شاربه الأبيض بين حين وآخر.
- مساء الخير ...
صمت قليلا ثم حمل كوب قهوة وارتشف منه ثم أعاده.
- إنني مدمن على المكيفات..سجائر..قهوة..قهوة سجائر...هذا ليس جيدا وأنا أتفق معكم..لكن دعونا ننظر للنصف الممتلئ من الكوب..لم أفهم يوما معنى أن يكون هناك نصف ممتلئ..إنه مثال تافه لكن لا بأس فقد تواضعنا جميعا على فهمه كحث على التفاؤل..المهم ..
ارتشف مرة أخرى من كوب القهوة وقال وهو يمج فمه:
- لا يمكن للنصف أن يكون ممتلئا.. وحتى لو قلنا الجانب الممتلئ فهذا مجاز سيء جدا .. لأن الجانب دليل نقص عن الكل وهكذا فلا يمكن أن يجتمع النقيضان.. المكيفات هي التي تجعلني أفكر بعمق في مصالح شعب مدينتنا..ولا تسألونني كيف...فالمهم أنني نلت ثقتكم وهذا يكفيني فخرا....صحيح أن هناك من وقف ضد مصالح شعبه وصوت برفض الرقابة الالكترونية لأغراض وأهداف لا يعلمها إلا هو ..مع ذلك فهؤلاء في نظري أشخاص لديهم نزعة نحو الجريمة...الجريمة تغلغلت في أعماقهم وهم يرغبون طبعا في توفير مناخ مثالي لجرائمهم...رغم هذا فلن أتدخل في قرارهم لكن عليهم هم أيضا أن يخضعوا لقرار الأغلبية فهذه هي الديموقراطية...تأكدوا يا شعبي أن هؤلاء هم من سيعرقلون سلامكم وأمنكم في المستقبل فراقبوهم جيدا..راقبوا كل من رفض زرع الشريحة في التصويت ومن سيرفض زرعها عمليا بعد صدور قانون الأمن العام...على عاتق كل مواطن واجب حتمي بمنع اقتراف الجريمة...فاليوم كلكم أصبحتم شرطة أنفسكم...راقبوا أولئك الذين يخالفون إرادة الشعب الحرة مراقبة لصيقة...
يرتشف مرة أخرى من كوب القهوة.
- منع الجريمة واجب على الكافة وبعد قليل ستقرأون قانون الأمن العام وتصوتوا عليه غدا صباحا ....
إنني أشعر بالنعاس كعادتي عندما أقضي وقتا طويلا في العمل..إلى اللقاء...

***

تلقى قسم الشرطة بلاغا بحدوث شجار دام في الخمارة ، إذ انقسم البار إلى مجموعتين ؛ إحداهما كانت تدافع عن قانون الأمن العام والأخرى تهاجمه...ثم تطور النقاش إلى معركة تحطمت فيها زجاجات الخمور على الرؤوس..كان هناك ستة عشر رجلا من المقبوض عليهم والدماء تسيل من رؤوسهم ، وقد اضطر الشرطي المناوب إلى محاولة الإصلاح بينهم قائلا أن المعركة سيحسمها التصويت السلمي وليس الشجار. وعندما تم الإفراج عن الجميع تلقى الشرطي أمرا عاطلا بإحالته إلى المعاش الإجباري وتعيين شرطي جديد محله لإدارة القسم...
أما الستة من الرجال المصابين والذين كانوا ضد القانون فقد اختفوا دفعة واحدة.
كان اليوم التالي حافلا بالمفاجآت فقد أعلنت لجنة فرز الأصوات عن نتيجتين متناقضتين ؛ كانت الأولى لأغلبية ترفض قانون الأمن وأما الثانية والتي تم اعتمادها فلصالح سن القانون. وهكذا فقد تم سن القانون بأغلبية كاسحة.

***

خرجت مجموعة من الشباب للاحتجاج ضد سن القانون ، وقد تم قمعها مما خلق توترا بين العمدة والشعب فقرر عقد مؤتمر صحفي.
وأمام الخلفية الزرقاء حيث طائر الوقواق يضع بيضته في عش طائر آخر ؛ وقف العمدة متكأ على عصا من الأبنوس الأسود ذات قبضة من قرن الخرتيت. ثم قال بأسى:
- إن حياتنا بلا معنى... ربما أخبروكم بغير ذلك...لكنهم كذبوا علينا..تدرون من أقصد...لا بأس..ففي كل الأحوال لا يعني هذا أن نشنق أنفسنا...لا بل على العكس..علينا أن نمنح كل وقتنا الذي نعيشه قيمته العظمى...
أشار بسبابته المنتفخة نحو الشاشة وقال:
- أن نكون أحرارا لكي نستمتع بكل لحظة في حياتنا...هل تفهمون ما أقوله؟.. أتمنى ذلك.... الحرية تقتضي أن لا ينغصها علينا احد....حريتنا تطالبنا بأن نحميها ممن يهددها...هل فهمتم ما أعنيه...نعم اولئك الذين احتجوا لا زالوا مثاليين كالشاب الذي ترشح أمامي...لا يمكنني أن أمنح المجرم الذي يهدد أسرتي ضمانات تقيد الشرطة وتجعله يفلت من العقاب...نعم نحتاج لضمانات حتى لا تتعسف السلطة ضد الأفراد الأبرياء..لكن من المستفيد من ذلك؟ إنه ليس المواطن البريء الذي لا يقترف جريمة..لأنه ما دام مواطنا يحترم حريات الآخرين فلا حاجة له بضمانات...من يستفيد من ذلك حقا هم المجرمون...آه يا شعبي... لا أحد يفهمني في هذا العالم..وكنت اتمنى أن يفهمني شعب مدينتي...لكن هنالك الدود السام..الدود المختبئ تحت طين النهر...ذلك الدود الذي يزحف ليلوث ويسمم أدمغة البسطاء...اللعنة .. اللعنة من هذا الدود القذر.......
ثم شد قامته فجأة وقال بصرامة:
- أطلب من أنصاري أن يخرجوا الآن ليقفوا ضد الديدان...وأطلب من كل أم تخاف على أبنائها من المجرمين أن تخرج الآن.. وسأتعهد للجميع بحمايتهم بآخر قطرة من دمائي... اللعنة...أخرجوا ودافعوا عن حريتكم ضد الديدان.... أخرجوا واصرخوا لا للديدان... لا للديدان...
ثم توكأ على عصاه ودار نصف دورة بحركة روبوتية ناظرا إلى الأرض ثم غادر بخطوات بطيئة....
وما أن فرغ من إلقاء خطابه حتى امتلأت الشوارع بحشود أنصاره وهم يرفعون صورته ويهتفون ضد الديدان السامة....

***

كان كل من ينتقد العمدة يصاح في وجهه: دوووووووووو
هذا إن لم يزج به في أحد المعتقلات...
وخرجت تقارير حكومة المدينة تؤكد أن نسبة الجريمة في المدن قد أصبحت صفرا فارتفعت شعبية العمدة الذي قرر أن يحتفل مع شعبه فخرج إليهم وخطب فيهم:
- إن أرواحنا تتوق إلى الحب .. إلى الرقص.. إلى الفنون والإبداع.... تخيلوا ذلك الرسام الذي قبل بضعة أشهر من انتخابي كم كان سيرسم لنا من لوحة رائعة جدا لولا أن وجدته الشرطة في الصباح وهو معلق من خصيتيه ورأسه مفصول عن جسده....طبعا لم يخبركم الديدان عن سبب تلك الجريمة...نعم لم يخبروكم وما كانوا ليخبروكم بل وما كنت أنا نفسي لأخبركم في ذلك الوقت لو علمت السبب..لكنني اليوم وبحكم وظيفتي كعمدة للمدينة...اطلعت على تقارير الشرطة التي كانت سرية...هل تعرفون لماذا قتلوه تلك القتلة البشعة... بكل بساطة لأنه رفض رشوة من أنصار المرشح الشاب لكي يشتغل كعضو في حملته....لقد قتلوه بسببي....كم أنا حزين..لو كنت أعلم لما ترشحت حتى تبقى روحه الفنانة مرفرفة حولنا....لكن لابد من القصاص...إنني أدعوا الفنانين من الرسامين والنحاتين والموسيقيين أن يملأوا مدينتنا بالفن والإبداع...يمكنكم أن تنتقدونني بكل حرية فقط بشرط ألا تمارسوا أي عنف ضد الآخرين...
وهكذا خرج جميع الفنانين فملأوا المدينة التي بلا اسم بالألوان والألحان ... ومن رسم صورة تستهزئ بالعمدة اختفى وتم محو رسمه.

***

مرت سنوات ثلاث ؛ ازداد فيها الناتج الاقتصادي للمدينة وانخفضت البطالة بل انتهت وتطور القطاع الصحي والتعليمي ، وأطلقت المدن الأخرى على تلك المدينة ؛ مدينة الأمان...نشر إعلام المدينة هذا الخبر بكثافة وخرج جميع أنصار العمدة احتفاءا به والذي خرج ووقف على المسرح ذو الخلفية الزرقاء ورسم الوقواق الذي يضع بيضة في عش طير آخر..
رفع العمدة يده عاليا وحيا الجماهير...
- شكرا شعبي...شكرا شعبي...يقول لي البعض أنه قد حان وقتي لكي أتنحى عن عمادة المدينة .. لقد أخبرتهم أن الشعب هو من يقرر ذلك..فما رأيكم...
هتف انصار العمدة ببقائه على سدة المدينة...وخرجت سيدة اربعينية فاتحة ذراعيها تطلب احتضانه فاحتضنها ثم مدت شفتيها إلى شفتيه وغرقت معه في قبلة عميقة... لاحظت الجماهير أن ذراعي العمدة قد ارتختا ثم تدلتا ثم سقط على الأرض وسقطت معه المرأة...هرع حرسه الخاص نحوه ووجدوا وجهه أزرقا... ثم نظروا إلى وجه المرأة فكان أزرقا بدوره...مد أحد الحراس أصابعه وفتح فم المرأة ثم التفت إلى الحراس الباقين وقال:
- كانت تضع بالونا صغيرا به سم زعاف...لقد قتلته وقتلت نفسها....
وقف الحارس وخاطب الجماهير المتجمدة بصمت:
- لقد مات العمدة...
لكنه لم يجد أحدا أمامه فلقد هرب جميع المحتشدين من أمامه فجأة وظل هو وباقي الحرس مع الجثتين لا يعرفون ماذا سيفعلون بهما.

(تمت)...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى