كاظم حسن عسكر - التسويغ النقدي في كتاب(تاريخ الأدب العربي قبل الاسلام) مصطلح الجاهلية نموذجًا

آلية نقدية يميل لها المخاطِب إذا ما تناول مصطلحًا قارًا أو قضية معروفة ليحاول أن يوليها جهة ما, خدمة لخطابه النقدي, ويخدم هو الآخر صوت المخاطِب المتفرد وانتماءه الفكري, مؤكدًا بين هذا وذاك على الأثر الفاعل والحضور المميز لأطروحات هذا الخطاب. والتسويغ أيضًا محاولةٌ من لدن المخاطب لتمرير بعض الأفكار أو الحوادث التاريخية, وهذا ينبئ بأمرين؛ أولهما قدرة المخاطب على إيجاد تخريج مقبول للأحداث والأفكار التي يتناولها. والأمر الآخر حضور رابط انتماء بين المخاطِب والفكرة التي يود تسويغها. فقد حاول مؤلفو كتاب (تاريخ الأدب العربي قبل الاسلام) في مقدمته أن يسوغوا استعمال مصطلح (الجاهلية) واشتقاقاته في القرآن الكريم, على أمل تجاوزه, واتضح التجاوز في عنوان الكتاب, فقد وظِّفت آلية التسويغ لا لأجل ترسيخ هذا المصطلح. وفعل التجاوز مبني على فكرة ((أن مصطلح ((الجاهلية))(تاريخ الأدب العربي قبل الاسلام: ٣) قد يلقي بعضًا من ظلاله المعتمة على فهم واقع الأمة يومئذ بما لا يوافق حقيقة واقعها الثقافي والحضاري)) ينبئ المقتبس السابق أيضًا أن ثمة حقيقة معروفة من المخاطِب, وخشيته على تلك الحقيقة قادته لأن يسعى الى تجنب توظيف هذا المصطلح والاستعاضة بـ(ما قبل الاسلام), فضلًا عن أن مصطلح (الجاهلية) لازم بواكير نشأة هذه الأمة, وغالبًا ما يدافع الأشخاص ذو التوجه القومي عن أمتهم وامتدادها, وكما يقول جون جي. ميرشيمر: ((يمكننا كذلك أن نتوقع أن تصبح صناعة الاساطير القومية في أعلى حالاتها عندما يكون هناك خلاف حاد بشأن قضايا تتعلق بنشأة الدولة. ترتبط شرعية الدولة بالظروف والملابسات التي أحاطت بولادتها, وأغلب الناس لا يريدون الاعتراف بأن دولهم جاءت من رحم الخطيئة ))(لماذا يكذب القادة، حقيقة الكذب في السياسة الدولية: ٩٢.), فلا بد أن يصحح القوميون هذا التصور الذي ارتبط بماضي الأمة العربية, لا سيما أنهم يعتبرون عصر ما قبل الإسلام عصر بزوع القومية العربية, وقد بنى البحث تصورًا عن الميول القومية للمخاطِب من خلال افتتاحية المقدمة, إذ يقول: ((هذه فصول منتخبة من تراثنا العربي في الأدب وفنونه قبل الاسلام[...]تعكس الجوانب المشرقة من هذه الثروة الفكرية, متخذة من توجيهات قيادتنا السياسية, قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في إعادة كتابة التاريخ واستشراف وجوهه المضيئة, قاعدة لهذا العمل المتواضع )) فقد جاءت الدعوة الى تبنى هذه الدراسة من السلطة السياسية التي لم تدعُ الى الكتابة في عصر ما قبل الإسلام فحسب, بل تقديم الجانب المشرق من تاريخ الأمة العربية, والتأكيد على الجانب المضيء محاولة لإخراج زمن تشكل القومية العربية بأفضل صورة, فلا ينبغي لماضي العرب أن يكون جاهليًا, وبوصف مصطلح (الجاهلية)مخالفًا لتوجيهات الحزب وقياداته, لذا تم تسويغه لوروده في القرآن, ومن ثم التخلي عنه لأن يخالف إرادة السلطة الحاكمة.
وقد ميز المخاطِب بين مفردة (جاهلية) التي تعني الأمية الحضارية والأمية الكتابية, وبين الجاهلية الدينية ,كذلك سعى الى تسويغ الاستعمال القرآني لهذا المفردة, فالخطاب القرآني يستعملها للدلالة على فترة زمنية سبقت الاسلام, وقد استند المخاطِب الى آلية الاستدلال النصي في تمرير خطابه التسويغي, إذ استعرض النصوص القرآنية التي وردت فيها مفردة ((جهل))واشتقاقاتها, وانتهى الى تعدد المعاني التي أرادها القرآن. والى جانب ذلك اعتمد على نصوص شعرية وأخبار, فيقول: ((لو كانت قريش كلها تعاني الجهل بأمور الكتابة والقراءة ما كان صفوة رجالها كتّابًا للوحي المنزل: عمر بن الخطاب(رض) وعلي بن ابي طالب(رض) وعثمان بن عفان(رض)...)) فهنا يرد استدلالٌ عقلي, فالمخاطِب يستنبط دليله عبر خبر كتّاب الوحي الذي تناقلته الرواة, فليس ممكنًا أن يكون القرشيون كتاب وحي مع أميّتهم. والى جانب استدلاله العقلي استدل برأي باحثٍ معاصر, وقد ذهب هذا الباحث الى أن عرب الحجاز تلقوا القراءة والكتابة عن أهل العراق . وكون المخاطِب أخذ بدلالة مفردة (الجاهلية) التي يراد منها الجهل بالدين في دراسته, حاول أن يضع لازمة لها, وهي مفردة (الوثنية), ((فالتقى مصطلح ((جاهلية)) بمصطلح((وثنية)) في المعنى والدلالة على جهل الناس بعبادة الله الواحد الأحد وعدم اهتدائهم الى الشريعة الجديدة التي جاء بها رسوله. وأما القراءة والكتابة فهي مستمرة من الجاهلية الوثنية)) وبالتالي جعل المخاطِب آلية الاستدلال النقدي في خدمة التسويغ أملًا بتوجيه المعنى المناسب لمفردة جاهلية, ولأن المخاطب أميل لفكرة الجهل الديني, فقد حدد زمن الجاهلية على وفق الرأي القائل بأن الجاهلية ((هي المراحل التي سبقت الأديان السماوية الثلاثة المعروفة: اليهودية والنصرانية والاسلام)). وفضلًا عن استناده الى مضامين أخبار عن أشخاص يسمون بـ(الكملة) أي أولئك الذين يحسنون الكتابة بالعربية ثم الحساب والشعر والعوم والرمي, وكذلك صلات العرب بالأمم الاخرى . وبالتالي ساعد هذا كله في إثبات أن مفردة الجاهلية تدل على الجهل بالدين, وهي مفردة إسلامية أطلقت على العصر الذي سبق الإسلام. ليس معنيًا هذا البحث بإثبات صحة النتائج أو خطأها التي انتهى إليها المخاطِب, بقدر عنايته بأثر السلطة القومية في البحث عن هذه المفردة ومحاولة توجيهها الى معنى معين, فقد ساعد الانتماء القومي في تعميق البحث في هذه المفردة, نصرة للأمة العربية, فالانتصار لماضي العرب انتصار لحاضرهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى