د. مصطفى أحمد علي - شارع فكتوريا(3)

أطلّ من شرفة في أبراج النيلين، شرقي محطة الخرطوم القديمة التي اضحت أثراً بعد عين. بيوت "السكة حديد" المصنوعة من الطوب الأحمر والحجر الرملي، التي لم تكن تخلو من حسن ورونق وجمال، اقتلعت اقتلاعا وأزيلت وجعل مكانها موقف للحافلات والبصّات، وسوق ضاجَة صاخبة غارقة في الفوضى والقذارة، مثل غيرها من أسواق الخرطوم كما نراها وننكرها اليوم. لم تتبدّل المباني في الخرطوم فحسب، بل تبدّل المظهر العام فاختفت الجلابية البيضاء والعمّة، حتى في المساجد! ما زلت أذكر عهداً، كنا لا نجسر ان نخرج فيه إلى الشارع دون أن يكتمل هندامنا بالعمة البيضاء، ونحن بعد في حدَ الصبا! أدّيت فرض الجمعة اليوم في مسجد النور، فأنكرت ما حولي ومن حولي، عمارة المسجد تركية، وأداء الأذان فيه سعودي نجدي، والمصلون "سودانيون" تخفّفوا في معظمهم من عمائمهم البيضاء التي طالما ميّزتهم عن غيرهم من الشعوب. اختفت العمائم كما اختفى الثوب النسائي الابيض وتضاءل واضمحلّ المشهد السوداني الذي طالما ألفناه، في شوارع المدن والقرى، لم يبق منه شيء إلا ما بقي من رسم قريزلدا الموثق في كتاب مصور جديد، أصدرته وهي تقترب من ذكرى مولدها المائة. كنت أتساءل وأنا بعد صبي، كيف يرى الأجانب السودانيين؟ هل من سبيل لكي ينأى المرء بنفسه عن المسرح حتى تتّضح له الرؤية؟ وتشاء الأقدار أن أقضي سنوات تعقبها سنوات، في أوربا والمغرب ثمّ أعود إلى السودان فآلف في دواخلي تلك المسافة التي تبعدني عن المسرح وتيسّر لي الرؤية الموضوعية المتجرّدة، ثم لا البث أن أغدو أسيرا لشعور حزين، حينما ألحظ أن المسرح أيضاً، ابتعد بقضّه وقضيضه وفوضاه وضوضائه عني.

.......

استغرقته تلك المشاعر، وهو مسترخ في فراشه ينشد الكرى المتمنّع، وتناهت إلى أذنيه صافرة قطار من قطارات السودان النادرة ندرة الكبريت الأحمر، وتناهى معها إلى خاطره لحن فرنسي حزين قديم، يصوّر لحظات الوداع المختلط بالدموع والعبرات! كان ذلك اللحن يملأ عليه خاطره ووجدانه سنوات باريس:

J'ai pensé qu'il valait mieux nous quitter sans un adieu

"أما كان الأفضل ان نفترق دون وداع!"

وتناهى إلى خاطره مشاهد صوّرها ببراعته يوسف شاهين في رائعته (باب الحديد)، أقسى مشاعر الولع الممضّ والشوق المتوقّد... والتباس اللقاء والفراق، والإعلان والكتمان..هي بين أهلها في قمرة القطار، عيناها تهميان، تسترق النظرات عبر النافذة إليه استراقاً، وهو على رصيف المحطة، لا يجرؤ على شيء، واليأس يظلّل الأفق الموصد في وجهه...لا أمل ولا رجاء!

يا لعشرينين باتت في سعير تتقلّب .

ومّرة اخرى، أما كان الأفضل أن نفترق دون وداع!

أما كان الأحوط أن نفترق دون وداع!


الخرطوم، أكتوبر 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى