هند مسعد - أحذية فان جوخ.. لمَن يعود كل هذا الأسى؟

يسير هائمًا في شوارع باريس باحثا عن حذاء؛ لا يملك ثمن آخر جديد، يقرر شراءه مُستعملا مِن أحد أسواق السلع المستخدمة. ثم يكتشف بعد عدة أيام أنه غير مريح ولا يصلح للمشي فيقرر استخدامه في الرسم، لوحة رسمها عن الحذاء ليصبح أكثر الأحذية إثارة للجدل وشهرة في تاريخ الفن الحديث.

"حذاء"، 1886، هي لوحة للرسّام الانطباعي/ما بعد الانطباعي الهولندي فنسنت فان جوخ (1853 - 1890). رسمها في باريس، وكمُعظم لوحاته، لم تلق أي قبول خلال حياته، إن فان جوخ منذ بدأ الرسم حتى وفاته لم يبع غير لوحة فقط من لوحاته.[1] ومع ذلك، حين عُرضت اللوحة في معرض أمستردام، عام 1930، لاقت استحسان الجماهير اللذين كان من بينهم الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (1889 - 1976).

أحذية فان جوخ يقرأها هيدجر ويُفكّكها دريدا

لقد أصبحت اللوحة مادة دسمة في مقال هيدجر "أصل العمل الفني" الذي كتبه عام 1935. ومقال هيدجر ليس الوحيد الذي صال وجال في أحذية فان جوخ. فقد اتخذ هيدجر من أحذية فان جوخ مرة ثانية موضوعًا للمراسلة بينه وبين ماير شابيرو المؤرخ الفني الليتواني (1904 - 1996).

أحذيه فان جوخ لم تقف عند هذا الحد. لقد التقطها جاك دريدا، فيلسوف التفكيك الفرنسي (1930 - 1934)، في كتابه "الحقيقة في الرسم" 1987. وفيه، لا يقدم دريدا قراءته الخاصّة للأحذية بل يمضي محللا ومُفككًا مراسلات هيدجر وشابيرو في مهمّة جديدة مُغايرة لمهمة قراءة اللوحات.

فدريدا يخلخل قراءة هيدجر ومراسلاته ليضع الأفكار اللاتي تُشرعن لها تحت المجهر. لا لشيء، إلا ليخرج بإجابة على سؤال "هل يخبرنا الفن ما الحقيقة؟" والتفكيك الذي يمارسه دريدا هنا ليس عن خصومة مع أفراد بعينهم أو فلسفات بعينها. هو فقط يُعري النصوص ويفكك المُسلمات موضحا أشكال الخلل اللاتي تعتريها.

إن هذا الحذاء، مثلما أبلته الخُطى والطُرُق والسنون، أبلاه الفلاسفة تشريحًا وتفكيكًا وقراءة حتى كفَّ عن أنّ يكون مُجرد حذاء، لقد أصبح مُحملا بثقل العديد مِن الأسئلة الفلسفيّة والقضايا الوجودية. هل يعدنا الحذاء بثورة شيوعيّة ماركسيّة؟ أم يعدنا بالإجابة على طرح دريدا الفلسفي ويخبرنا ما الحقيقة؟ أو ربما يعدنا بهوية تاريخيّة لصاحبه؟ هل هو حذا رجُل نبيل أبلاه الزمن؟ أم حذاء فلاحة ريفيّة يأن ظهرها مِن حمل المحاصيل؟

لقد نسب هيدجر، في مقال أصل العمل الفني، الحذاء إلى الريف والفلاحين. لكن شابيرو لا يتفق معه، بل يرى أنه حذاء رجل مِن الحضر. ربما هذا الحذاء هو حذا فنسنت نفسه؛ جزء مِن هويّة فان جوخ. الشاب الهولندي المُعدم الذي يظهر على حذاءه مِن المعاناة ما يكفي لنتخيل كيف كانت معاناة روحه بالمقارنة. وربما يحملنا حذاءه على فهم أوجه تلك المعاناة التي دفعته في النهاية للانتحار! إن معرفة نَسَب الحذاء ولمن يعود ليس هزلا أو مُجرد دردشة فلسفيّة نخبوية. فنسب الحذاء ينقلنا لمعرفة "ما وراء القدم وما وراء الحذاء".

التحليل الطبقي للحذاء

لقد رأى هيدجر إن مشهد هذا الحذاء الرث ينم عن عامل، غالبا امرأة، أجهده السير ذهابا وإيابا في الحقول. لقد اكتسب جلد الحذاء قسوة من وعورة المشي في الطين حتى ملأته التجاعيد والشقوق. لقد تركت الغيطان أثرها عليه. وصارت أخاديده مسارات تغدو فيها الرياح.

هذا الحذاء ينتمي للأرض. ينتمي للممرات بين الحقول. ينتمي لوحل قنوات الري. ينتمي لفلاحة عاشت قسوة العوز. وطار قلبها طربا عندما باعت المحصول. هذا الحذاء يُعاني معها ويطرب لها ويحزن عليها ويساندها ويدعمها إذا لزم الأمر.

هذا هو الحذاء عند هيدجر؛ حذاء فلّاحة مشحون بشتى ألوان المُعاناة. استخدمه فان جوخ لإفشاء الحقيقة. لإفشاء حجم الطبقية في المُجتمع الفرنسي. لكنّ شابيرو يأتي في مهمة تقصي طبيعة الموضوع المرسوم. لماذا يعتقد هيدجر أن الحذاء لفلاحة؟ هل هذا مجرد انفعال نفسي/عاطفي تجاه لوحة وتحميلها بمعاني لا تَجُود بها!

في معرض تحليله للحذاء يرى شابيرو في مقاله، "المشهد الحي كمسألة شخصية: ملاحظات على هيدجر وفان جوخ"[2]، أن فإن جوخ إذ يرسم أحذية الفلاحين فإنّه يرسم قباقيب خشبية بهيئة معينة. وتلك الهيئة تظهر في العديد مِن لوحاته عن الفلاحين. هذا الحذاء هو حذاء فان جوخ نفسه. والأسى البادي عليه هو أسى فان جوخ الشخصي.

ثم يأتي دريدا ليفكك قراءة هيدجر ورؤية شابيرو، مُتسائلًا في "الحقيقة في الرسم"، عن جدوى تلك المناقشات حول نسب الحذاء إلى الرّيفيّ أو الرّيفيّة عند هيدغر، وإلى الرسّام عند شابيرو! إنّ هذه الأسئلة تشقّ طرح دريدا وتلوّح بين الحين والحين. هل أراد دريدا أنّ يُذكّرنا بأن السّؤال يتجاوز مسألة النسبة والملكيّة ليصل إلى: لمن يعود كل هذا الأسى!

"أنا مُجرد نكرة." - فنسنت فان جوخ

إن دريدا إذ يرفض إقرار شابيرو وهيدجر بملكية شخص معين للحذاء، فإنه يرفض السلطوية التي يمارسها المفكران كلاهما في إعادة رسم الواقع وتحديد ما هي الحقيقة وما هو الوهم. إننا لا ندري فعلا إن كان فان جوخ اختار أن ينتصر للفقراء والمهمشين. أم إنه رسم مجرد حذا على لوحة معلقة الآن في أروقة المتاحف.

في أحد رسائلة لأخيه ثيو، التي كتبها بين سنتي 1883 و1885، نرى فان جوخ مُنقبضًا مِن الحضر، باسطًا يداه نحو الريف، فيقول: "حينما أقول إنّي رسّام الريفيّين، فإنّي كذلك في واقع الأمر. وسترى، على نحو أفضل، فيما بعد، أنّي أشعر هاهنا بأنّي في بيئتي."

هل كان يستطيع هيدجر أن ينسب بثقة تلك الأحذية لفلاحة ريفيّة لو كان الرسام شخصًا آخر غير فان جوخ؟ ألا نجد أن إسقاط هيدجر قراءة سياسية على أحذية فنسنت ليس شططًا بل عن وعي بحُبّ فان جوخ للريفيِّن. أم أن تجاعيد وشروخ الحذاء هي روح فنسنت التي أصابتها الشيخوخة في الثلاثينات حتى قرر الانتحار.

الحذاء والثورة الفرنسية


إن الحذاء، سواء كان لريفية أو لفنسنت، فإنه بشكل عام يحمل مِن روح فنسنت، بصمته وصورته وانتصاره لمن هم أسفل. لقد صار هو نفسه واحدا من هؤلاء الأسفل. إن تلك الأحذية إنما هي وجه فان جوخ، هي روحه التي ملأتها الشروخ، هي قلبه الذي رسمت فيه الأيام تجاعيدها.


إن فنسنت، إذ يجعل اسم اللوحة "نكرة" غير مُعرف، مُجرد "حذاء" لا نسب له غير مُعرف بأل أو بالإضافة أو بنسبه لأي شخص، يُضحي بصاحب الحذاء. يُصبح شبحًا. يهيئ نفسه للاختفاء والرحيل، مَن يُخفي اسمه لا يمكن أن يكون عائد، هو بالضرورة راحل/مُنتحر.

ودريدا، إذ يجلب اللوحة لحقل التفكيك، فإنه يُدمر الأصنام الفكريّة التي بناها هيدجر وشابيرو حول أصل وفصل الحذاء. إنه يفكك اللوحة مِن فضاء المشاهدة الساذجة ليحولها لـ"تلسكوبا هائلا لحدث فظيع" على حد تعبيره، تلسكوبٌ لما آلت إليه الثورة الفرنسية، إن دريدا إذا يطرح الأسئلة ويخلخل النصوص ويفككها لا يسير بنا، مُتعمدًا، نحو الإجابة. هو يُبحر فقط في رحاب السؤال، دون الوقوف على إجابة، لأنه لو وقف على معنى أو علامة أصلية يبني عليها الأجوبة يكون التفكيك قد خالف جوهره.

إن هذه الأحذية قد تملكها فلاّحة شعثاء غبراء أضناها ضيق العيش والسعي بين الحقول. وقد تكون أحذية فان جوخ تحمل تشوهاته النفسية وانكساراته الحياتية. وقد لا تكون ملكًا لأحد. قد يكون رسمها فان جوخ لتبقى فقط كمشهد جمالي شاهدًا على مَن هم أسفل.

في جميع الأحوال، لقد صارت اللوحة منذ جرَّها هيدجر لحقل الأستاطيقا موضوع فلسفي. ومنذ جرها دريدا لحقل التفكيك ملكا للتفكيكيّة. وربما ما أراده دريدا من وراء "الحقيقة في الرسم" هو تفكيك واحد مِن أكثر النصوص نفوذًا داخل الأستاطيقا الحديثة: "أصل العمل الفني". ليُنقذ فن الرسم، وهذه اللوحة بالذات، من غطرسة الذات الهيدجريّة أو الشابيروية. يُحررها فقط مِن قيد الإجابة ويترُكها تُبحر في سعة السؤال.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى