حسين رحيم - لعنة الحكواتي

كيف يمكن للحكمة أن تأخذ بيد المرء عاليا في تراتبية من خلق كريم وشخصية كيسة درجة درجة حتى توصله القمة فيستريح هناك متربعا على عرش من فضائل وحكم ومثل ليأخذ لازمته التاريخية هناك .. ولكنه أي سوء يندب حظه ، هذا الذي أراه مغطى بذاك السيلوفان البراق من فضائل هذا التواتر المغلوب على أمره معلما أبديا .
في هكذا مقام نمت حكايا الجد لأحفاده .. تواتر لتواتر .. ليلة بعد أخرى في مساءات الصيف والشتاء كلا بطعم دافىء أو بارد تلوكه ذاكرة أولئك الصبية ، فليالي الصيف هي لمحمد العاشق وبحث عن حبيبته وليالي الشتاء لسيف بن ذي يزن وشقيقته الجنية (عاقصة) وخادمه (عيروض) المارد الطيب القلب .. و .. ذاك الصراع المتلون مع السحرة والأشرار.. وكانت تلك المساءات تحفر طرقها النيسمية في أرواح احفاده .. لكن في ذلك اليوم جاء اصغر الصبية وقال :
- أتعرفون ؟ .. ان الجد سيحكي لنا الليلة .. شيئا اخر .. كان هذا مفتاحا لاستعجال التوقيت لها والذي حينما حل انسل اولئك الصبية كل من سريرة واتجهوا الى غرفة الجد ، تحلقوا حوله بنصف دائرة وهو جالس متكئا على جدار وينظر مبتسما باتجاه الباب المسدود غير منتبه لتلك الاعناق المتشرئية باتجاهه .. قال:
- اسمعوا .. لا يمكن للطيبة ان تنام مع الخوف في سرير واحد تماما كالماء والنار لو اجتمعا لا بد ان يذوي احدهما ويبقى الاخر لذلك ففي ذلك الزمن القديم .. لا بل هو اقدم كثيرا مما تعوه حين كانت حدود الاشياء ومساحاتها وقدراتها تجوس الفلكية وتطمئن لها .. كان عوج بن عناق هذا صبيا يكبركم عمرا بقليل ، طبية قبله جعلت للحب حصة الاسد في فقد كان يسير متعففا عن كل ما حوله من الدونيات وذلك بمفهوم فيزياء الارتفاع والانخفاض كان الخوف والحزن يعلنان عن نفسيهما في عينيه الواسعتين بحجم باب دار كبيرة ، بياضهما محبب بصفرة خفيفة ، سوادهما المأخوذ عن امة يعطي الشمس لمعانا بلون الجمر الخامد .. وهو يصل الى ذلك الوادي الذي مازالت اثار الدماء والعظام التي بطول الاشجار منتشرة فيه وجفنيه يهطلان ويرتفعان بطول قامة رجل ليقطر من بينهما دمع يغرق صبيا ، وهو يتذكر المقتلة ، امه وقد التم عليها اسود بحجم الفيلة ونمور بحجم خيول العماليق وذئابا كالابل طولا ونسورا كالحمير حجما وقد اخذت تنهش في جسدها وهي تصرخ مستغيثة .
لقد حل عليها عقاب الله اخيرا . وذلك لجهرها بالفسق والفجور فقد كانت تأتي بالعماليق من اماكن بعيدة وتقضي معهم ليالي ونهارات ماجنة دونما حياء من رجالات القرى المجاورة ونساؤها كن يدخلن بيوتهن كي لا يشاهدن افاعيل (عناق) الفاجرة ويضعن العجين في آذانهن كي لا يسمعن النهنهات واللهاثات الجبارة والضحكات الماجنة . وكان مجموعة عبيد يتعاونون على حمل دنه عملاق يأتون به من معصرة قريبة كلما فرغ من خمرة الكروم.
لقد اخذ الصبي شكل وحجم امه دون الجوانح والجوارح لذلك كان عوج الحزين يحاذر في مسيره الا يطأ بقدميه احدى تلك البيوتات الطينية على جانبي الطريق كان معينا ابديا للجميع دون تذمر .
- لم امه كانت هكذا يا جدي
- الناس اخلاط من طبائع وامزجة ونفوس ظلامية ونورانية يا ولدي والحكمة تؤسس لوجود الصواب كي نفهم معنى الخطأ فلن نحترم النار دون الشتاء ولن نحترم الابيض ونعطيه معناه دون الاسود القاتم .. لذلك فالعالم ليس رماديا ولم يكون.
- لذلك كان عوج نقيض امه .
- هنا الحكمة يا ولدي .
حاصره الحزن وذلك بعد وفاة امه وغطت ماقيه الدموع ونواحه الذي تحول الى عويل تصاعد وغطى هديره مجموعة الرساتيق والضياع التي كان قد اتخذ جريبا من نخل وعوسج قريبا منهم .. وهو جالس يهز جسده للامام وللخلف كعجوز ثكلى والدمع يرش من عينيه على رؤوس الناس الذين كانوا يحاولون بجهد لاطاقة لهم به ازالة صبغة الالم والفاجعة من على وجهه كي يهدأ فتتوقف عاصفة التراب والريح التي صنعها اهتزاز جسده للامام وللخلف .. حتى ظهرت هي فأستقام كل ذاك الهدير الغاضب بمستوى واحد هو السكون .. مدكفه اليها والتقطها ، تمعن فيها .. كانت صبية رقيقة بعمره .. شيء ما حرك هذه الكتلة الادمية الجبارة باتجاه الصبية فتبسم . احس الجمع الواقف امامه بتحول الموقف فاستغلوه بردة فعل سريعة واخذوا بالتصفيق مع ضرب اقدامهم بالارض سرى رائحة الفرح فتعبق الجوبة . لكن ومضة الفرح تلك خمدت فجأة وتعطب وجهه مجددا بالكئآبة .
عرفت الصبية بغريزة الانثى التي لا تخطئ ما ينقص الفتى عوج خصوصا حين غرقت في قطرة الدمع التي انهمرت عليها فصرخت خوفا . ضحك عوج فجأة .. منذ تلم اللحظة قرر التشبث بها تعويضا عن اجحاف امه وهي وجدت فيه المتناقض المحبب .. قوة جبارة ودمائه طبع طفولي وكان تعبيره عن ذلك بذلك القول المتوسل .
- آه لو تقارب جسمينا .. آه لو تقارب جسمينا .
- ما معنى الحب يا جدي
- بذرة نورانية في المركز من القلب بمجرد سقايتها بعصير ضوع الاخر يحصل إنباتها وتطعمه ثمرتها التي ليس مثلها ثمرة في ايما بقعة في العالم .. كما حصل مع عوج .
- لكن حجمها يا جدي .
- لا علاقة للحب بالحجوم والالوان .. فهذه توابع للمتبوع الذي هو الروح
- لكن لماذا الحب يا جدي .
- آه .. هنا السؤال .. ان قلناه للحب فستغضب علينا الجاذبية والشمس والريح والمطر.
اخذت ايام عوج بالتناقص مقتربة من يوم المغادرة والهرب من جحيم الظنون الذي تلبسه والاحساس بالضعة خوف ان يصبح كأمه وينتهي الى فاجعة الذبح كما هي . فكان يخرج كل يوم الى الفيافي حاملا الصبية في جيب على صدره خيطته له امه قبل مقتلها . وعلى الرغم من توسلات الصبية بالمسرة والفرح ان تأتي وتحرك جمود الكآبة التي حولت وجهه الى تمثال لمثال فاشل في التعبير عن الحزن الا ان حالته كان لابد ان تنتهي الى قرار فكان الرحيل ، فجرا نهض بهدوء ومعه خليلة روحه وخرج من مكمنه واختفى في بقايا ظلمة الفجر .. بعد ساعات وصل ساحل بحر امتد امامه بعيدا ..
شد الصبية على رقبته ونزل اخذ يعوم بقدرة مائة سفينة قاطعا مسافات البحر والواسعة بايام كان خلالها (حين يجوع يمسك الحوت ويقربه من الشمس فيشويه ويأكله وحين يعطش يحتجز السحاب فيشرب منه ماءً رقراقاً) حتى وصل نهاية الطريق فكان ساحلا رمليا ولان تعب العوم انهكه فقد تمدد حال وطئه اليابسة ونام مع الصبية . بعد ايام من ذلك النوم استيقظ عوج على جلبة وصخب .. كانوا خلق كثير قد تجمعوا حول رأسه ويرتدون عدة الحرب . سأل
- اين انا .. اجابته بفصاحة
- اننا في ارض شعب الفراتين .. وهم رجال طموحين ولا يرضون الخنوع من احد.. صاح من بين الجموع رجلا على محفة يحملها اربعة عبيد
- شكرا لك يا انليل يا راعي الرياح والسحاب ودجلاتو .. شكرا على هديتك .. شكرا على منقذنا ذي الساقين الطويلتين .. رددت الجموع وراءه (منقذ .. منقذ)
ولخوفها من ان يثير هذا الصخب انفعال عوج صاحت بهم
- ماذا تريدون منا يا ابناء الفراتين .. اجابها الكاهن بصوت حاول جعله عطوفا .
-نحن .. لا نريد شيئا يا ابنتي .. انتم جائعون .. سآمر بجلب الطعام لكم .. اتوهما بالخبز واللبن .. تكرر الكلام من اكثر من مكان .. خبز ولبن .. خبز ولبن .ان هي الا مسافة زمانية وقدمت الحيوانات من جمال وحمير وحشية وثيران تسحب العربات الخشبية المحملة بالخبز المحمص واللبن الرائب .
- لم يغادر الانسان مأواه .
- حين يغادره الامات والدفء .. ثم يكون اعزلا الا من ساقين
- بأمكان شمس وجدار محنية هذين .
- ليس هذا المقصود .. فحين يتحول رأس الانسان الى سندان لن تفيده أي شمس او جدران .
كان ذلك احتفالا لاولئك الرجال الشجعان الطيبي القلب لان قرار بقائه تجعل ارضهم البيضاء محمية من اللصوص والكوتيين عقارب الجبل حارقي الارض .. و .. يتسمر زمن هذه المدن الصغيرة سريعا باعوامه الرهيفة التي تدخل عمر هذه المدن وتخرج دون ان يشعر بها احد كنسائم معطرة باريج الاستمرار والتواصل لكن عند عوج يختلف فعله اذ يتحول الصبي المرح الى رجل وتأخذ استدارة وجهه (المربرب) الى إستطالات عضلية قاسية .. تلاحظ نسوة القرى انه بدأ يتلصص عليهن ويراقبهن في استحمامهن ، وفي الليل تسمع عنه نهنهات واهات جبارة واصبح عصبي المزاج فانتبهوا اليه وساروهم القلق لذلك كان على الحكماء والكهنة ان يجتمعوا ويقرروا في امره ، طال النقاش والجدال دونها نتيجة اوصل والذي كان امامهم دون ان يشعروا لذلك سارعت الصبية الى ابلاغهم به فسرى ضحك شديد بينهم لسهولته وقرروا تشكيل وحدة من فرسان اشداء ومتمرسين للبحث والتقصي في المدن المجاورة والبعيدة مثل ملوخا ودلون وطيبة واربخا واربائيلو ونينوى واطلق عليهم تفكها وحدة الخاطبات الذين كانوتيها مسوت ويتغامزون فيما بينهم على هذه المهمة الغريبة .. بعد حولين عثر عليها نائمة في اجمة قرب قرية الجبارين التابعة ل(اريحا) في ارض كنعان ، عرضوا عليها الامر ، طابت نفسها له ، وكان ذلك المفتاح لاقناعها بالمجيء معهم .. في ذلك اليوم وعند وصولها بصحبة الكهنة والفرسان .. هاج الناس فرحا ، عاد الرجال الى بيوتهم المبنية بالخوص وسعف النخيل والطين والاجر ، جلسوا الى زوجاتهم مبتسمين ..
- لقد جاءوا بها ..
- نعم جاءوا .
كانت النساء ينظرن الى ازواجهن مبتسمات بخجل محبب والرجال يعطين لتلك النظرات احقيتها عند ما يأتي المساء .. وكان ذلك المساء باتفاق ضمني حدث والتقت الاجساد بالاجساد والعيون بالعيون والشفاه بالشفاه في اكبر تفريغ متداخل شهدته قرى ورساتيق ومدن ما بين النهرين . والتقيا (مرواحة) وكان هذا اسمها وعوج ، وقفا قبالة بعضهما لزمن في تأمل غريب احدهما للاخر وجموع من رجال ونساء وشيوخ وصبية حولهما مبتسمين لهذا اللقاء الذي سيثمر عن امان طويل وسلام وهم يرددون مع بعض :
- الا بد ان يعرفها وتعرفه .
- عليه ان يتأملها مليا .
- اتعرفون انها جميلة .. ليتني كنت مكانه .
كان عوج يرتدي ازارا يصل ركبته مع سروال طويل منسوج من اصواف لألف كبش واشتعلت عليه عشرات النساء والرجال غزلا ونسجا وصبغا وخياطة وكان الازرق والاخضر هي مؤونة تلك الرسومات على السروال فمن الثور المجنح الى اسود ومحاربين برماح طويلة معقوفة الرؤوس ونساء يحملن سلالا ملأى بزهر البيبون . اما حزامه فقد صنع من جلد لعشرين ثورا وقد دبغ بلون احمر قاتم . اما مرواحة فقد كانت ترتدي ثوبا من القطن الاحمر مع سترة حريرية بلون الشمس قد شكل حزام من لون برتقالي بينهما يتوهم ذلك من يراها من بعيد وكان هذا مثار جدل ورهبة بين الناس ، ويقول كلكامش الذي كان صبيا مدللا وقتها :
- لقد كان رائعا .. يا للجسد المهول انه يضاهي سيد الرياح والغضب انليل واله الثورات مردوخ .. منذ تلك اللحظة قررت ان اكون كلكامش الذي عرفتم .
كان الوجهان متقابلين وبعد زمن تأمل وانشداه تبسم عوج قائلا
- (مرحبة) .. اسمي هو عوج .. ادارت رأسها سريعا من الخجل فحرك شعرها الطويل حتى الركب الهواء ، فهبت ريح قوية معقبة بضوع شعرها الغريب على الوجوه والاجساد .
وجاء صوتها رقيقا لكن قويا .
وانا مرواحه .. وابتسمت .
صاحت الصبية فرحا .. صيحة كانت مفتاح الفرح للجموع حولهما الذي على الوجوه كالبرق وعبروا عنه رقصا وتصفيقا .. انتبه عوج ومرواحة الى مشهد الفرح فشاطرهما بضحك جبار .. ها ها ها هز الارض وارتجفت اوراق الاشجار ، خافت الطيور وطارت من ايكاتها ، دخلت الحيوانات الصغيرة جحورها والكبيرة ابتعدت عن مدى القهقهات .. لقد حصل الوفاق وجمع الرأسان على وسادة وذلك بناءً على شرطها وهو لا زواج بدون سقف وباب . على الفور راها سقيفة من سعف النخيل وقصب البردي .. مطت شفتاها استخفافا .
- اريد بيتا من حجارة وبه ابواب .. صمت الجميع ، صاح الكاهن .
- لا يسكت المرأة الا سقف وباب . ضحك الجميع وقرروا الذهاب الى الملك اوتوحيجال المرغم على قبول تبادل الادوار في محنة يعيشها سلبل الملوك ازاء كائن تميزه الضخامة والقوة . وكان الفتى كلكامش يعرف ما يجول في خاطر اباه الملك فهو لن يسمح باتساع هالة عوج لذلك سيسر ما في ذهنه الى منفذه كاهن المعبد وهو واجد حلا .. امر الملك ببناء البيت .. لكن قبلها جاء المهندسون بتصميم البيت محفورا على رقم طينية .. اعجب الملك لكن الكاهن انتقض غاضبا :
انه لشيء مشين سيغضب الالهة وخصوصا شيخها (انليل) سيد الغضب والرعود .. وصاحب الطوفان العظيم .. اذ لا يمكن ان يعلوا بناء على الزقورة .. قال اخر : لنخفض السقف قليلا .. لكن مرواحة اصرت .
- لن ادخل بيتي محنية الرأس ابدا .. بقيت محنة البيت تدور وتمور بين الناس ، تجادلوا وتذاكروا بها ، فهم ليسوا بموقف لزعل وعوج وزوجته ولا يستطيعون مخالفة كاهن المعبد الذي كان مصرا على ذلك . بقي الوضع كما هو .. حتى خطرت في بال الصبية فكرة .
- قل لي يا جدي .. لم يرفع الانسان بناءه عاليا
- لان النفسي البشرية جبلت على العلو والتعالي منذ الازل
- لذلك رفض عوج البناء تحت الارض
- ليس هذا فقط لان لعنة العالم السفلي ستلاحقه وهو الحامل لعيني ام وقلب وفراشه وروح طفل .
- طيب لم لا يستأذنون الهتهم بذلك فعوج يستحق هذا
- ليس الامر هكذا .. فقد تحولت من الملوك الى الالهة التي تمتاز بالرعونة والبطش السريع .
- كذلك عوج فهو قوي جدا .
- لكن المشكلة .. انه لا يغضب
- هذا صحيح .
- مع انه يستطيع تدميرهم .
- مع ذلك لم يغضب ابدا يا جدي .
- على الرغم من ضرورة الغضب في هكذا موقف . فلكي نفهم معنى القوة لابد من الغضب الذي سيصنعها .. لكن طالما حيرني عوج في هذه الدرجة اصبح سؤالا معلقا بين عيني .
- اتقول هذا يا جدي .. اتعرف لاول مرة ارى السؤال قد تحول الى جدار ليحجب عنك الحقيقة .
- او تعرفونها
- طبعا او لسنا احفاده
- لكن كيف لا علم لي بذلك وانا جدكم
- لقد تخطاك في السلالة ووصلنا .
- طيب وحجمكم .
- الحجوم المسافات والزمن كائنات نسبية الوجود ا ولم تعلمنا هذا .
- صحيح .. طيب .. ما هي ؟؟!!
- ان النملة لو اصبحت بحجم الانسان لتسيدت العالم ..
- صحيح .. طيب .. ما هي
- منذ الاف السنين والانسان .. هذا الكائن التطلعي / ما فتئ يرنو نحو ارتقاءات يخلقها وهمه الخاص بالقوة والعلو .. وذلك بأن يكون اقوى واعلى دائما .. شعوب وامم ابيت وحضارات اندرست تحت اقدام الخيول وهي تحمل مشعل هذا الوهم .
وانه وان تغلف بعطايا الدونيات / المال / النساء / الارض .. الا انه سرعان ما ينقشع ضباب هذا الغلاف الوهم ليكشف عن وجهه الذي لا يحتمل .
- لكنني ما زلت مستغربا من البرود الذي يتلبسه كلما اقتضى الامر ان يغضب .. لم لم يغضب حين تعالت صرخات الناس الذين دفأهم حماه واطعمهم الامان .. لا .. لا لن تبني بيتا يعلو على الهتنا .. لمَ لم يغضب ..
- الغضب ... ما هو الغضب
- هو ارتداد للرحمة والعطف
- هو شكل من أشكال العجز عن الإقناع
- هو الدرجة الأخيرة في مراتب اليأس من الإصلاح
- هو الرديف المتسرع للحزن .
- إذن هل كان على عوج إلزام بالغضب
- برأيي أنه فهم الأمر بشكل لم نصله بعد .. أو ربما نعرفه لكننا أضعف من أن نمارسه .. فالشجاعة والصدق والكرم أغنيات في سماء دنيانا نرنو إليها ونتطلع بلهفة وشوق ومفاخرين بها ونحن نرتدي في مجالس الكلام وفخامة الصفاة جبة الصدق والشجاعة والكرم لكن كم مرة نخلعها في اليوم لعيون أنانيتنا وضعفنا أمام المال .
- اذن عوج كان محقا
- نعم انه محق .. لكن لندع ذلك كله ونبدأ بأمر أخر .
حسنا لندع هذا كله ونكمل الحكاية .
- دع عنك يا جدي .. سنكمل نحن
- كيف وانتم لا تعرفونها .
- من قال ذلك .. أولسنا احفاده!!
هكذا يقرر عوج الرحيل وقد اخذ بيد مرواحة تنفيذا لنصيحة الصبية الحكيمة .. صدم الناس فقد قلب يقينهم رأسا على عقب لانهم تصوروه متشبث بهم ، لكن حين رأوه يتحرك بعيدا اخذوا بالصياح والمناداة عليه وهو يبتعد تدريجيا غير ابه كأي عملاق عنيد .. لطمت النسوة خدودهن ، بكى الاطفال اظهر الكبار السن الاسى والخوف على الايام السود القادمات .. في اليوم التالي امر الملك اوتوجيحال باعادة تنظيم الجيش تحسبا للطوارئ ، وهو خائف وسعيد فيما نزل الناس الى الساحات والطرق وشكلوا تظاهره صامتة اتجهت الى المعبد وكان الكاهن بانتظارهم وقد تهيأ للمواجهة . عند وصولهم رفع يديه عاليا فبان شعر كثيف تحت ابطه مكذول بعناية واخذ بالدعاء والشكر للالهة على تخلصيهم من المارق ، الابق عوج الذي تطاول والجميع ما زالوا على صمتهم والكاهن يزداد حماسا وقوة امام صمت الجموع حتى احس بالتعب وانه حقق مراد الملك واقنع الناس عندها ارتفع صوت من بينهم .
- ما الضير لو ارتفع عن الزقورة امتارا .. هل سيؤثر على شيء .
صمت قاتل غلف المكان لكن الكاهن امتلات عيناه بالدموع وارتجفت لحيته المخضبة بالحناء وصاح بغيض :
- من العاصي الذي تجرأ ... أأأأأأأ .. الرحمة .. الرحمة .. انو انليل .. مردوخ .. يا من تستقر الريح والمطر في كفك والاخرى مصائر البشر .. رفقا بنا .. ادرأ عنا غضبك .. لا تسلط علينا الوباء والسوس والجراد .
بعد ايام وكبركة ماء اسن اسقط فيها حجر فتتململ امواجها متحركة بأتجاه الحافات وما هي الا لحظات ويسكن كل شيء وعادت البركة الى صمتها والجميع الى وتيرة حياتهم متناسين غضب ذلك اليوم وحتى وجه ذلك المتمرد الساخر الذي اطلق عبارته واختفى ، كذلك وجه عوج والالهة .
اما عوج فقد عاد ينتقل من بلد الى بلد يحميه ويدافع عنه وحين يروم بناء بيت يقفون بوجهه ويمنعوه .. فلا بناء يعلو على بيوت الالهة والملوك في هذه الارض .. وسيبقى باحثا عن بيت ليتزوج فيه .
هنا توقفت الصبية عن الحديث وعرف الجد انها النهاية فغضب وقال :
- لكنها ليست النهاية التي اعرفها .
- إن نهايتك غير نهايتها .. هكذا فتح باب لنقاش حاد وطويل حتى انتهى بزعل الجد وخروجه من البيت ..
تحدثوا مع بعضهم وهم مبتسمون

سيعود حتما سيعود .. كيف سيترك أحفاده .. والحكاية لم تكتمل ، سيعتذرون منه ويعطوه النهاية فهو أولى بها منهم وأقدر على رسم النهايات وسيقولون أنهم كانوا يمازحونه بهدف التسلية لكن الأيام القادمات لم تنبئ بما هو جديد فقد طال اختفائه عندها قرر الأحفاد الذين مات أبوهم في ظروف غريبة والأغرب منها أنهم لم يرو جثة أبيهم الشاب الذي مات في ظروف غريبة والأغرب منها أنهم لم يروا جثة أبيهم الذي زوجه أبوه – جدهم – من فتاة جلبها معه في إحدى سفراته وقال أنها قريبته ، غادرت المنزل بعد موت أبيهم بفترة قليلة والغريب ان ذلك لم يؤثر في جدهم بل تصرف معهم وكأنه عارف بما سيحصل ولم يتحدث عنها أبدا على الرغم من أنها تركتهم صغارا وكأن من يراهم يقول أن عليها إنجابهم فقط لذلك كانت هي في ذاكرتهم شكل هلامي لأم بيضاء تطير حولهم دون أن يستطيعوا تحديد ماهية لها كان تغويشا لتصورهم لذلك بقيت معلقة دوما وكان هذا يسعدهم على أية حال .. خرج الأحفاد بحثا عنه أربعة صبية لا يملكون سوى هذا الجد الذي سرق ذاكرتهم واختفى .. وكانوا يبحثون ولا يألون أيما جهد والتقاط أي خيط يوصلهم له .. لكنهم رغم هذا لم يغادروا المدينة ليقينهم أنه ما زال موجودا وربما هو في مكان قريب وأثناء ذلك البحث اكتشفوا أن اصغر أشقائهم كانت لديه طاقة غريبة في التفاهم مع الموجودات والكائنات الأخرى والكراسي والأبواب والشبابيك والجدران والعجلات والدور وأعمدة الكهرباء والمركبات كلها بمجرد لمسة من يده عليها يعرفه الكثير عنها وحين يسألوه يجيبهم انه يتحدث معها . وان جده كان قربها قبل يومين أما الحيوانات والحشرات فقد كان بمجرد النظر في عينيها يفهم ما تريده فكانت تخبره عن أرائها في البشر وأحيانا تحدثه عن الجد وكيف يمر عليهم ويحييهم دائما وبمرور الوقت أصبحت عملية البحث شيئا روتينيا لا بد منه كل يوم كالأكل والشرب والنوم دون يقلقهم أو يكلهم ذلك ودون أن يعلموا أن الزمن يدفعهم باتجاه الأستكالة والضخامة .. حتى انتبهوا في يوم أنهم أصبحوا كبارا وان الملكة التي كانت لشقيقهم قد بدأت تضعف أصرتها بالموجودات لكنهم استمروا في البحث .. في الفنادق الرخيصة والخرائب وهياكل الأبنية المتروكة في دور العجزة والمقابر لأنهم كانوا يريدون موطئا لأقدامهم يصدقون به في البحث عن جدهم أو على الأكل يوهمون أنفسهم بالتصديق .. لذلك أخذهم معه إلى دهاليز وخبايا وسراديب الظنون فارتدت أرائهم وتصوراتهم على أعقابها فاكتشفوا أن شقيقهم الصغير ليست لديه أية قدرة اتصال بدافع الظهور والبروز لكن رغم هذا أخبرهم شيئا هز دواخلهم وأرعبهم فكتموه سنين طوال حتى وصل بعضهم إلى عمر الجد عندها تحدثوا به وهو أن الجد كان ميتا حين قص عليهم تلك الحكاية .
ولم يروه بعدها ابدا خصوصا بعد ما سرت شائعة تأكد منها الاحفاد فيما بعد وعرفوا سرها ثم كتموها سنين طوال حتى وصل بعضهم الى عمره .. عندها اطلقوها وفحواها .. إن الجد كان ميتا حين قص عليهم تلك الحكاية وانهم توهموا وجوده بعد دفنه بيومين لذلك جاءت الحكاية مغايرة لما سبق كانحراف الصعود على الجبل حيث نرى المتسلقين يحاولون لي درب الصعود لاقصر مدى افقي لتسهيل وتخفيف مشاقه .. ايعقل هذا ، هل يمكن ، صعود ولا يمكن ليه او ثنيه كأنبوب معدني فهما فعل سيأخذ الارتفاع من قدمي المتسلق جهدا ليس بقليل / اغنية الصعود والالتواء هذه ستأخذنا عميقا الى الوراء .. الى البدايات الاولى والنبت الاول لهذه الحكاية .. حين كان والد الرواية / الجد يسير في يوم قائظ على حافة النهر وذلك بعد ان طرده ابوه من البيت لانحراف سلوكه ، كان الشاب يبحث عن طريقة او سبيلا للحصول على مبلغ ما يكفيه للدخول الى المأخوذ ورؤية عشيقته الراقصة .. فجأة احس بأهتزاز في جسده وحوله .. كانت هزة ارضية ، بدأت صخور تتساقط من اعلى جدار عال لخرائب قديمة تعود لالف عام مضت تناوبت عليها محطات التاريخ ومقامات الحروب والسلطة من قلاع عسكرية الى قصور الامراء الى سجون ومعتقلات كان الجدار المتآكل يترنح .. ركض الشاب بعيدا لكن امواج النهر اخذت تلطم حافاته بقوة فغطى رشاش الماء جسده .. فجأة هدأ كل شيء .. وعاد النهر الى سكوت .. كان الخوف والذهول قد امسكا بتلابيب توازنه هذا الجبروت الذي حرك كل شيء لكنه وباحساس فجائي من جريرة عقوقه لابيه امن بان ذلك انذار رباني له .. نظر الى سطح النهر فرأى كتلة حمراء بلون الرمان تسير طافية مع المجرى الهادئ وقبل ان يتبين ما هيتها إنجبست كتلة اخرى واخرى حتى امتلأ سطح النهر بالكتل الحمراء الطافية والذي ينعكس لونها الكامد تحت وهج الشمس .
- نزل في النهر وسار باتجاههم ، التقط واحدة وسحبها إلى الحافة حالما رفعها وتبين ثقلها صاح مذهولاً .
- يا الهي .. انها صخرة .. نقل نظره بينها وبين النهر حيث كانت الصخور السائرة مع انسياب النهر تظهر وتختفي كاسماك ميتة .
- صخر يطفو ، اللهم عفوك .. حمل الصخرة واتجه الى بيته والمارة ينظرون ويبتسمون من شاب مبلل يحمل صخرة حمراء .
و .. نوقف زمن هذا المشهد ايقونة اخرى لنعود مرى اخرى الى الوراء عميقا .. عميقا ، الارقام تقل وتصغر ، تصغر .. حتى تصل الى ذلك اليوم والمدينة العجوز وقد كانت فتية تزهو برونق بناءها لنرى رجلا متعبا يطرق بوابة المدينة الصغيرة المحاذية للنهر فيسمح له الحراس بالدخول لينتشر في المدينة خبر وصول الحكواتي الجوال .. يقرر وجهاء المدينة وتجارها وباعتها الاجتماع تلك الليلة في مقهى المدينة الكبير للمسامرة وسماع الحكايا .. في ساعة متأخرة من تلك الليلة انفض الجميع من حول الحكواتي وذهب كل منهم الى بيته وحالما وضعوا رؤوسهم التي ملأتها تلك الحكاية اغمضوا اعينهم ودخلوا جميعا شاهدين لحلم واحد .. لقد كانوا يسيرون في المدينة وعلى جانبي الطريق اهل المدينة وقد نمت لهم انيابا حادة واخذوا يمزقون اجساد بعضهم البعض ويأكلونها والدماء القانية تنز منها وصرخات الالم واليأس تتعالى . فز كل منهم من نومه على حدة واخذ بالتحوقل والتعوذ من هذا الكابوس المفزع .
عند الظهر من ذلك اليوم سمع صراخ تعالى في السوق ، تراكض الناس باتجاه الصوت ثم تجمهروا عند الجزار (ابو قاسم) الذي امسك بذراع بشرية يقطر منها الدم واخذ يقطع منها قطعا ويضعها في فم صاحبها المشدوه رعبا وهو يضحك بهستيرية ، صاح رجل من بين الجمع
- لقد اصاب الرجل الطيب مساً
جاء رجال الشرطة واخذوه ، وفي اليوم التالي تسمرت كف العطار (ابو فاضل) على رقبة احد الزبائن ولم تتركه الا جثة هامدة ، وفي اليوم الثالث راحت ضحية اخرى، هكذا توالت الحوادث ، تلبس الناس الهلع فقبعوا في بيوتهم مصفري الوجوه، لكن كبير التجار فطن للامر وتداوله مع بقية الوجهاء موضحا لهم ان جميع الممسوسين كانوا من جلاس تلك الليلة ، ليلة الحكواتي ، قرروا الذهاب الى دار الامارة لمقابلة الامير الشاب الوديع المحب للسمر والموسيقى والعاشق لزوجته الفاتنة .. جلسوا امامه واخذوا بالحديث عن الحوادث وعن تلك الليلة والكوابيس .. والحكواتي .. ضحك الامير ساخرا ثم طلب منهم ان يقصوا عليه الحكاية . وبادر ابلغهم بالحديث فقصها عليه . وعندما انتهى كرر الامير ضحكته .. ثم طلب منهم الانصراف .. وخرجوا متعجبين ومحبطين . وفي صباح اليوم حدث هرج وصخب في القصر .. كان الخدم يتراكضون بكل الاتجاهات والحراس حول القصر يدورون والامير جالس بثياب نومه وشبك عشرة على رأسه وهو مخزون .. لقد وجدوا زوجته الفاتنة مذبوحة من الوريد الى الوريد وبعناية .. علي الفور نزل حراس القصر والشرطة يبحثون عن الحكواتي الملعون الذي اثر سماعه بالامر فر من المدينة واتجه الى قلعة على حافة النهر يسكنها عماليق طيبوا القلب .. دخل عليهم مستجيرا فأجاروه .. ولم يستطيع احد الاقتراب منهم لمعرفتهم بقوتهم وجبروتهم وكان لهم حكيم قزم ذا مقدرة في فهم الجوانيات والسحر الاسود والتبوء، حالما عرف بالحكواتي اخذه الى سرداب اسفل القلعة وهناك جعله يدون الحكاية كلها على ورقة بردي ويضعها في صخره من الصخور الحمراء التي كانت تملا السرداب والتي جاءت من مطر ناري من السماء في زمن بعيد وملات الارض بها وكل من بني بيتا بهذه الصخور تحرك به منتقلا من مكان لاخر حيث لا وطن .. و.. نعود الى الامام مرة اخرى اعوام واعوام لاعلى واعلى .. وتلك المدينة الوادعة التي تحدث فيها جرائم لعنة الحكواتي فينسحب منها التجار والمسافرون وتقطع بها السبل بعد ان تندرس الطرق اليها وتتحول بعيدا عنها ويرحل سكانها الباقون بحثا عن مأوى اكثر امانا .. وتتحول المدينة الى خرائب تسكنها الضواري والهوام . واعوام اخرى بعدها يدون احد الرحالة من الباحثين عن غرائب الشرق في مذاكرته انه شاهد مدينة تاهت عنها القوافل والطرق وكان قد سمع منها حكايات وعن اهلها الذين يتحولون الى ذئاب بعد بلوغهم الاربعين وعن اميرها الذي يشرب دماء زوجاته وحين تجول فيها سمع صراخ النساء ورجال واطفال ينم عن الم شديد واحس بان الارض تحت قديمه كانت رخوة كجسد ادمي فهرب خارجا الى ربوة عالية تطل عليها وعندها شاهد جبلا احمرا يقترب من المدينة والنهر وعند اقترابه تبين ان عاصفة من تراب احمر لا يدري من أي ارض اقتلعته تلك الرياح العنيدة وجلبته لتصبه على المدينة فتحولها تلا احمرا بلون الرمان وتغير مجرى النهر الى قلعة عالية فتغرقها وتهدمها ولا يبقى منها سوى جدار .. وتطوي الاعوام ذلك اليوم بسرعة شديدة متقدمة بسرعة نحو اليوم الذي يليه عابرة بعده اجيال واجيال من انماط البشر لتصل اليه .. انه يوم الشاب العاق حفيد الرواية ، والذي وجد الصخرة وقد جلس في فندق رخيص وهو عار من ثيابه المبللة والتي كانت معلقة في شرفة الفندق .. وكأن نداء خفيا يخبره بانه مقبل على ما اعدله وحده دون معرفة ما هيته ، اخذ بقلب الصخرة الحمراء فيسمع خشخشة فيها .. حاول كسرها وتفتيتها اكثر من مرة ففشل فقد كانت عصية على ما يروم .. عندها تركها ونام متعبا من ذاك النهار الغريب الذي مر به .. رأى في حلمه عملاقا طيب القلب يتوسل بالناس الذين بدوا امامه كفئران ان يسمحوا له ببناء بيت فيرفضون ويذهبون ويأتي بعدهم اخرون ويحدث نفس الشيء وهكذا دواليك .. ثم مر من امام الشاب حكواتي يسحب حبلا طويلا في نهايته رقبة عوج الذي يتبعه بصمت في ممر صنعته اجساد بشرية واقفة يصدر عنهم ضحك سريع حالما يتخطاهم ثم يعودون الى صمتهم . ويستيقظ فيرى الصخرة الحمراء قد اصبحت فلقتين وثمة رولة بداخلها من ورق اصفر وازرق اسرع واخذ الورقة وبدأ يقرأ .
بعد ايام كان جالسا في زنزانة يرنو من طاقاتها الوحيدة الى نهر ينساب بهدوء وعويل تصنعه ريح حزينة على المسطح الاملس "عوووووووي ي ...عوووووووووي ي".. وعرف ان النهر يبكي وان الهواء قد تلوث بسخام الحاضر الاعمى فصرخ بحرقه من وطأة من ختلت الحقيقة وهاليز روحه :
- لم تبكي ايها العجوز .. يا شاهد عصور الدم والغضب الملعون .. يا من رويت صحارى ارواحنا بدمك الابيض الشفيف .
وكان الحارس يتسمع على باب الزنزانة ويبتسم على النهاية الطبيعية لمن مثله ، فليس هو اول من قتل عشيقته ولن يكون الاخير .. لكن ان يكون مخبولا فهذا شيء يثير الضحك .. وبعد يمسك النوم بجسد الشاب القوي في ليلته الاولى وذلك باغماضه قوية ، ولانه تعود ان لا يسال كثيرا فقد راه في الحلم وهو يسير بخطواته العملاقة باتجاه بلاد الفينيق باعتباره الشاهد الضئيل لتتدوين تاريخ هذا العملاق الطيب القلب والذي حال وصول غابة الارز ظهر له وحش كلكامش "خمبابا الجبار" وهجم عليه لكن عوج بفطرة الممارسة وبميكانيكية من فعلها كثيرا امسك بخمبابا من رقبته ورفعه عاليا وضربه بالارض وهو يبغي ميتة فورية له كعادته مع من يتصدى له وذلك كي لا يتعذب كثيرا ، لكن كلكامش ظهر فجاة وقفز على جثة خمبابا وهو يضحك ويؤدي رقصة الحرب قائلا :
- لطالما كنت مثلي الاعلى .. لكن .. اه .. انت شر كبير لنا نحن الراكضين ابدا نحو متاهاة العلا ، وغادر ، اما انكيدو فقد انحنى امامه وقبل الارض ثم لحق بصديقه ورفيق جنونه .. لكن عوج لم يعنيه هذا الامر .. فقد طابت نفسه للمكان خصوصا بعد ان تعرف على سيد الطوفان العظيم "اوتونابشتم" ووفر له هذا المأوى والطعام له ولمرواحه .. يقرر عوج اخيرا .. النوم وذلك بعد سنين طوال من ايقاظ جبري وارق مقصود ويختار له مكانا عميقا في منخفض تحيط به اشجار الارز العملاقة من كل جانب فيحضن مرواحة وينامان كما لم يناما من قبل ابدا ، تتخطاهم الايام والشهور والسنون والقرون وشخير عوج يهز اشجار الارز التي استطالت اغصانها وغطت المكان فاختفيا تحت هذا الملاذ الطبيعي ويغادر الحكيم اوتونابشتم لاستكمال خلوده في ارض السواد .. تعم بين الناس رهبة بسبب سماعهم ذلك الصوت الذي يبدو كخوار الاف الثيران من عمق الغابة فيقطعون السبل اليها .. في يوم ومن هناك ، من ذلك العمق ينقطع الصوت فجاة وتتطاير اغصان الاشجار ويقلع بعضها من جذوره ، يرتفع جذع ضخم وتمتد ذراعين على طول الغابة بموازاة قمم اشجار الارز العملاقة ويهدر صوت التثاؤب ليحدث جلبة وفوضى وتركض الحيوانات مذعورة في كل الاتجاهات .. لقد استيقظ عوج اخيرا بعد قرون طويلة من النوم .. يفز الشاب المنكود الحظ من نومه ليتفاجأ بجدران زنزانته التي قفلت العالم عنه ، ويصرخ بحرقة ولوعه :
- ما الذي تريده مني ايها العملاق الغبي ، فيسمع ضحكة الحارس الظريف مع تعليق بذيء . ويبكر المساء سريعا وينقطع الضوء من الكوة التي تطل على نهر ايامه الحزينات والقادمات بلا رقيب من ذاكرة التاريخ ، يسمع نعيبا يخرج من طيات الامواج التي تدفع احداهما الاخرى بعجالة نحو حافته .. يتهيأ لنوم الليل الطويل .. يضع راسه على وسادته المصنوعة من فروات عشرات الاكباش وحال هطول جفنيه ينداح فؤاده حزنا عليها فيهطل مطر الدموع بانحياز ذاكرته اللئيمة التي تأبى الا استذكار تلك اللحظات الرهيبة وببطء شديد .. سكينته وهي تفتح في جسدها اللدن ثقبا بحجم فم صارخ ينز دما قانيا .. لكن في لحظة ينسحب كل مشهد الدماء ذاك ويدخل عليه عوج مكملا حلميه السابقين . يجلس امامه ويحدثه بعينين دامعتين عن خطيبته وذهوله ازاء ما اشاهده وعاشه . لقد منعوا مروره عند نقاط التفتيش في الحدود لعدم امتلاكه جواز سفر . وذلك الهجوم الشرس لاولئك الذين يحملون بأيديهم اشياء باشكال غريبة وبراقة تومض في وجهه .. ويسألوه بالحاح .. اسئلة غريبة لكن تبدو سخيفة
- ما هي اكلتك المفضلة
- باعتبارك عربيا هل ستقدم على تحرير فلسطين
- ما هو اتجاهك السياسي
- هل تفكر بتوحيد الامة العربية ياسوبرمان العرب
- اين زوجتك
- من هو مطربك المفضل
- كيف حال الطقس عندك
كان يتحدث باكيا دون ان يعلم كم السنوات الهائل الذي خلفه نومه وراءه وملايين النهارات والليالي والشروقات والغروبات والذي ظنه شروقا واحدا وسبب له هذا الامر ..
- ما الذي حدث .. اين الجميع .. اين انا .. ما هذا البناء الغريب الذي لم يكن موجودا بالامس .. ولم هؤلاء مندهشين ومذهولين بي وكانهم لا يعرفونني .. اين اولئك الطيبين الذين كانوا يعرفونني حتى قبل ان يروني . ما للجميع يريدونني مقاتلا .. هل تعرف لقد ملت يدي وهي تضرب وتضرب .. انها ماهرة في البناء وصنع العجلات لكن لا احد طلب مني ذلك هنا .. او هناك .. و .. يستفيظ الشاب وثمة فكرة سيطرت عليه بانه قد تلبس نبوءة مالتاريخ لا يعرفه وربما لم يات بعد بدا يسرد لنفسه وعن نفسه وبنفسه بقية الحلم .. "لقد قرر عوج اخيرا العودة الى ملاذه الذي اوجده الحكيم اوتونابشتم حين وصل المكان وجد ان مرواحه مازالت نائمة فقام" بلملة ما تبقى من اشجار الارز التي تناثرت حين استيقظ اول مرة وغطى به المكان ، حضن زوجته ونام بشوق الوليد العائد لحضن امه بعد ان رفضه الاخرون .. لكنني اؤيده في ذلك .. اتعرف لا شيء يعادل الخيبة حين تسحق توهج والق المشاعر المتفائلة .
لذلك قررت انقاذ عوج من محنته .. لكن من يخلصني من محنتي ، لقد صدر حكم الاعدام بي وعلي ان اعد الايام الباقية لي في عالم المحسوسات هنا خطرت له فكرة لم لا يجعل صديقه العجوز يفعلها مرة اخرى وهو القريب من زنزانتي رفعت رأسي عاليا واطليت منها عليه وصحت هيا .. هيا ياصديقي العجوز افعلها مرة اخرى وخلصني ودعني اذهب في مهمة يعرفها حضرتك جيدا .. عاد جالسا ومنتظرا وكان الحارس قد غص في ضحك مطاطي طويل وهو ينظر الي ويهز رأسه .. لكن ضحكته انقطعت فجأة حينما بدأ الاهتزاز واخذ الجدار بالترنح حتى هوى عندها خرجت سريعا الى الفندق واخذت نقودي المخبأة هناك وانا اردد مع نفسي اطمئن يا عوج انا قادم اليك لن ينقذك من محنتك سواي .. اتعرف انه لا يعرف مقدرتي في هذه المواقف الا من عاش محنتي .. الانسان مهما بلغ من سلوك حضاري وسمو المبادئ فلابد من ترسبات للبداية تبقى ابواب في قعر ضميره وهذه تطفو في لحظات الحصار والحرج وذلك حين تقفل ابواب الطواريء وتقطع سلالم النجاة وتحسم على عجل الامور لصالحها وهذا ما انا بحاجة له .. بعد ايام وصل هناك وصعد الجبل الوحيد فيه .. اتعرف سرت طويلا بين اشجار الارز العملاقة واخذت اتنقل بين الاحراش والعواسج بحثا وتفتيشا لقد كنت واثقا من ايجاده اما الان فلا ادري .. اتصدق هذا .. حاول استذكار ما راه في حلميه السابقين من علامات مرت به .. كانت عيناه تبحثان فلم ير شيئا .. لقد كان امرا غريبا .. ان لا اجد شيئا مما رايته .. هل يمكن ذلك خهل انتهى مفعول الرسالة . اصابني الياس سريعا . غادرت الغابة .. كانت الاسئلة تقبض على نواجذه فتعصرها حتى احس بالاختناق .. لابد وانني توهمت المكان .. هل يعقل .. بعد هذا السفر الطويل .. اذن ليس افضل من العودة الى ملاذي حضن اماني .. فتح عيناه .. دخلت انفه رائحة الزنزانة ، مزيج البول والعفونة وعرق الاجساد التي لم تر الماء والصابون لاشهر فارتاح لحاضره الاليف .. تمدد على السرير واضعا يديه تحت راسه وابتسم وعيناه على السقف المبقع من سخام الطبخ وانفاس السجناء السود .
- حسنا لقد اديت ما علي .. لكنه لم يكن موجودا في المكان المعهود .. ما العمل .. ليس ذنبي انه غادر ذاكرتي في اللحظة الاخيرة ، وبعد بقي ايام على تنفيذ الحكم والنهر العجوز لم يوف بوعده بعد ، قفز من سريره واتجه الى الكوة .. مد راسه حتى رأى النهر وصاح ..
- هيا يا صديقي العجوز .. هيا خلصني من هنا ودعني اذهب .. عاد الى سريره وضحكة الحارس ترن في اذنيه .. وبعد العام التالي لذلك اليوم نرى الشاب قد انتقل لمدينة اخرى بوجه اخر واسم اخر .. صموت ويتحاشى الاختلاط ثم يتزوج ويأتيه ابناء اربعة . ياخذهم وهم فتيان الى مكان بعيدة ويخبرهم الحكايا كلها ويلزمهم بأخبار ابناءهم بعد ذلك ثم يأخذهم الى غابة الارز ليبحثوا مرة اخرى عن عوج لكنه يعود مع اولاده خالي الوفاض ويقول له اصغر ابناؤه .
- لن تجده يا أبي
- اذن حاولوا انتم بعدي
- ولا نحن .. اتعرف لماذا ؟
- (..........)
- لانك لا تريد ذلك . وهو عارف بذلك . فغشاوة اختفائه ستظل مسد له على عينيك.
ويمر الزمن سيالا بطيئا من أيام وأسابيع .. و .. يموت الشاب العاق بعد أن تخلص من عقوقه ومن كل عقابيل ماضيه الجارح ليتخطى السبعين وتلك النغصة الصفراء في حلقه المجروح التي استورثها من أبيه بمسميات ومسببات مختلفة ما تزال عائشة معه جرحا لا يندمل .. فأبيه الذي حاول أن يجد مبررا لانحراف سلوك أبنه بشتى الأسباب المنطقية واللامنطقية ، بحث في شجرة عائلته عن ما يشابهه من الأعمام والأخوال وذلك باعتبار الانتقال الجيني للموروثات لكن وصل إليه خلال بحثه ما أخبره أحد معارفه من أبنه قبيل انحرافه ذاك رافق رجلا كهلا وكان يقضيان مساءات تلك الأيام على حافة النهر العجوز جالسين ، الكهل يتحدث والشاب ينصت إليه .. فعرف الأب بحس الأبوة الجريحة أن أبنه كان يخفي عنه أمرا ما خصوصا بعد إنكاره لتلك الجلسات والكهل .. ويتأكد الأب بعد حادثة قتل الراقصة وزجه في السجن ..
بعد موت الرجل يستلم أصغر أبناءه الذي أصبح رجلا بعمر أبيه حين جاءه طيف عوج دفة الحكاية ويقرر البحث عن عوج ، يذهب إلى غابة الأرز مدفوعا بذاك القديم من الأحاسيس والمشاعر التي تلملمت من أبيه الباحث وجده الديدبان والجد الأكبر لأظهر سبعة .. ذلك الحكواتي الذي رش عطر اللعنة على مدينة التل الأحمر والنهر العجوز .. وبذاك الحماس تحرك الحفيد بين الأشجار العملاقة ذات الظلال الواسعة والمرتفعات والوديان في تلك الغابة العظيمة .. وبعد أيام من البحث والتنقيب .. أحس بالإنهاك ثم عاد محزونا وهو يردد مع نفسه
- لن أكون أحسن من أبي .
بعد عودته للبيت جاء أشقاؤه إليه .. أمتد خيط من المكاشفة بين أعينهم .. فتيقنوا أن لا جديد .. خرجت عبارة من فم أحدهم
- أيوجد هناك عوج
- بل قل .. هل عوج .. أم محض ..
- إنكم تهينون أباكم بهذا ..
- أنا لم أر أحدا يخبرني أنه رآه
- ولن تجد
- لماذا ؟
- دعوا عنكم هذا الكلام اللامجدي واسمعوا الأتي :-
- كنت طفلا لا أتخطى السنوات الخمس العب في زاوية من الغرفة حين جاء أبي وقد تعقجت ملامحه فأخافني ، وأمي جالسة على مبعدة مني حين همس بشكل مسموع .. لكني لن أنسى الحديث الذي دار بينهما .
- لقد رأيته مرة أخرى .
- هل عدت إلى الأحلام مجددا .
- كلا أنه ليس حلما .. لقد كان يبكي بحرقة ويطلب مني إعادته إلى دياره
- وماذا ستفعل .. ورأيت أبي ينهض من مكانه ويرمى سيكارة في يده إلى خارج الغرفة بعنف .
- سأذهب إلى غابة الأرز وأجده هناك .
- عندها بدأت أمي بالبكاء ولطم خديها .
- يا الهي .. لقد حلت علينا اللعنة ..أمسكت بي واحتضنتني ولم أنتبه إلا وعمي يجلس قرب أمي ولا أدري كيف دخل ومن أين جاء لكنني سمعت حديثه لأبي .. وكان أخر ما أسمعه لأنني بعدها نمت متدفئا بحضنها .
- يا رجل دعك من هذا الأمر فقد تركته من سنوات وأرحتنا أما الآن فقد أصبح لديك بيتا وأولادا وعملا .. فلا تعيده إلى ذهنك مرة أخرى .. فلا يليق بك ذلك أبدا وهنا توقف الأخ الأكبر عن الكلام .
فعاود الشك من جديد دورانه بين الأعين الستة وهم يسلمون ويستلمون إشارات الريبة والظنون في أمر لم يفطنوا بادئ الأمر إلى حجم الموغل في تاريخهم .. لكنهم كانوا يندفعون فجأة بوحي وأيمان وكأنهم بناة لحظة هي لهم وتحت مسؤوليتهم دون أن يدركوا أو يفطنوا أنهم بهذا يعيدون رسم خارطة " انقرضت " .. حيث أن الخارطة المعنية ليست ككل الخرائط فهي لا ترسم الحدود والحافات للأقانيم والمدن بل هي خريطة مرسومة في خلايا أجسادهم متحركة لوابة وتنموا مع نموهم وتضعف مع ضعفهم لكنها تعيد رسم نفسها في كل حقبة أو أكثر وبدورهم يعيدون رسمها على الوجوه والدفاتر لذلك عندما انقرضت بات عليهم البحث عن جيناتها المنتشرة فيهم وكأنهم بهذا يعيدون أيقاظ بركان قديم .. لذلك قرروا في تلك الجلسة و – دون أن يفطنوا – مرة أخرى وأخرى إلى تجميع حاجات جدهم ووضعه في خزانة بيت العائلة الكبيرة وهو تقليد ورثوه من زمن بعيد ... وكالعادة تولى أصغرهم هذا الأمر وتهيأ لسفر طويل يدور به مدنا وأقانيما مالئا ذاكرة العائلة بمقتنيات جدهم حيث كان الجد من عشاق السفر وزرع بذره مائه في أي مدينة يحط رحاله فيها .. لكن خيط الحكواتي ثقب الظلام ، نفق اللاجدوى ، حبل السرة الممتد من بطن الحكواتي الأول لم يكن معينا بجيش الأحفاد المنتشرين هنا وهناك ، بل كان يتصل بفئة دون غيرها ولأسباب كانت بعيدة عن رؤاهم بقي يغذيهم بمؤنه الحكاية ، وحين عودته من سفره وهو في الطريق إلى البيت تذكر الحفيد أن عليه وضع حقيبة السفر على كتفه كي يروها والا سينهار كل شئ .. وعند وصوله أستقبل بطقوس توارثتها العائلة في الأسفار حيث ذر عليه حفنة من التراب الأحمر من ذاك الجبل ( وأناء من ماء النهر العجوز .. وكان الجميع ينظر باتجاه الحقيبة التي أثقلت كتفه .. وكان هذا مبعث سعادتهم فوجودها على كتفه تعني أنه حقق مراده من السفر .
دخل البيت والتم الجميع من حوله ..أجيال ثلاثة جالسون وعيونهم على الحقيبة .. أعمام وأخوال وأبناء وأحفاد .. كانت الحاجيات تدور بين الجميع حيث كان الفرد منهم يشمها ويقبلها ويعطيها لمن يليه .
- ولاعة قديمة تعتمد على حجر ناري ، كيس تبغ منسوج بعناية وعليه رسوم مموهة لحصان ووجه فتاة ، مسبحه من حجر أسود مسقول وعند رفعها أمام الضوء الأتي من النافذة تعطي إشعاعا أحمرا .. ونظارة مونوكل ومحفظة جلدية رائحتها تسبقها قالوا له أنها مصنوعة من جلد فرس بحري كل مئة عام يخرج من البحر ليموت على الساحل فيهجم الناس عليه ويقطعوه ويفلح من يحصل على أكثر من قطعة فكل ما فيه له فائدته ودوره في الحياة فمن يحمل قطعة من جلد قدمه فلن تعرف قدماه التعب مهما طال أمد سفره وهكذا كان مع الجد الحكواتي والبائع المتجول في القرى والمدن الصغيرة .
أعاد الحفيد الأشياء إلى الحقيبة التي لم يفطن أحد إلى ما أخفاه فيها ..
وكانت يده تتحسس ( الرولة ) التي خلفها أبوهم قبل موته والتي خرجت من بطن الصخرة الحمراء .. ليلة ذلك النهار كان الحفيد لوحده جالسا وأمامه الرولة المصنوعة من جلد غزال جبلي ورائحة الصخرة الحمراء تعبق جو الغرفة .. أخذت يده تمسد عليها وجمعت لحظة رعب وخوف بشوق ولهفة في قراءتها ولكن تذكره لوصية أبيه بعدم قراءتها مهما برحه شوق شيطاني في ذلك فسيقع في فخها كما حصل لمن قبله .. أمسك بها ووضعها في مكان اعتقده مأمونا ونام .
حلم به .. أبوه جالس أمامه وبيده مسبحة جده وحزمة ضوء من الشمس يضربها فتسطج بوهج يتناثر على شكل حبيبات حمر في إنحاء الغرفة..
قال له بوجهه الحزين الذي كان أخر ما رآه :
- اسمع ستأخذها معك وتقرأها هناك .. عندها سيستيقظ فتأتي به إلى هنا .
- وكيف ذلك ؟؟ الحدود الدولية .. الحدود الدولية .. حتى فتح عينيه وهو يكرر العبارة مع نفسه ثم صمت وابتسم :-
- هل جننت .. بدأت أحدث نفسي .. عاد إلى النوم مجددا محاولا تناسي الموضوع بسبب خوف انتابه ولم يفهم مصدره .. إلى هنا كان الأمر يسير دونما تكدير لأي خواطر لكن قد يحدث أن أمرا من تلك الأمور التي تحدث انقلابات وتغايرات في مخيلات ورؤى الأمم والشعوب تجاه العوالم التي توارثتها ذاكرتهم الجمعية واعتاشوا عليها دهورا وقرونا فتؤثر على طوبوغرافية اليقين والمعتقد ليحدث ارتداد ومن ثم صدمة قد تؤدي إلى زعزعة ما جبل عليه المرء من حب للخير ومساعدة الآخرين والعيش بأمان وذلك بحركة تسير جنبا بجنب مع الغباء .. فقد أسر الحفيد إلى زوجته بما حدث وما رآه في الحلم وهو متوقع هلعها وخوفها ..
لكنها خيبت ظنه وشطت عما جبل عليه النسوة من تشاؤم وحذر وخوف في هكذا أمور ولأنه كان متلبسا بتاريخ تواتر الخوف والحيرة الذي استلمه من أجداده بأمانة وصدق فلم يتوقع ما أخبرته به فقد كان مذهولا بسيل الكلام الذي لا ينقطع منها ..
" ستكون كبيرا وقويا .. سيهابك الجميع وسيأتون بكل خنوع وذلة أمامك ليقدموا ولاءهم لمولاهم الجديد .. سيحفظ وجهك في العيون والذاكرات ستغدو أميرا للقلوب والجيوب ..
خرج من البيت .. واخذ يسير في الشوارع العامة مراقبا المحلات الكبيرة والإعلانات الضوئية الفخمة .. فجأة امتلأت روحه بزهو وفخر فقد كانت أمامه صورة كبيرة على عمارة لوجه أحد المغنين المشهورين وإعلانه عن حفلة يقيمها .. لم لا تكون صورته بهذا الحجم تملأ شوارع مدينته .. صمت لحظة .. والمدن الأخرى في العالم .. لو تحقق ذلك وخرج عوج من مكمنه.. ستكون صفقة العمر.. أخذ يردد العبارة مع نفسه .. ثم توقف وصاح .. ما أحلى أن تكون قويا دون أن يعير اهتماما للمارة الذين تنوعت ردود أفعالهم ما بين سخرية وتعجب واستهجان ... دون أن يدري مرر خيطا من عوج في أمره ..
- ما أحلى أن تكون قويا وطيب القلب .. قويا وطيب القلب ..
لقد غرزت امرأته بذرة الزهو في أعماقه .. فاقفل ذهنه عن كل شئ الاها
وتهيأ للمغادرة لكنه أوصى زوجته بأن تكتم الأمر حتى يأتي به وهو على ثقة من ذلك .. بعد أيام كان يصعد جبل الأرز والرولة تحت إبطه وهو مبتسم حتى وصل المكان الذي لم يخطئه .. وكان الوقت مغيبا .. جلس لساعة لإراحة قدميه من الصعود ثم نهض وكان الظلام قد أقفل باب الضياء فاختفت صور الموجودات ما عدا هياكل أشجار الأرز العملاقة التي تتمايل مع حركة الريح الموسمية توقف وسطها وقبل أن يفتح الرولة صاح
- يا عوج يا ابن عناق .. جئتك من بعيد .. بعيد ، من زمان كان أمينا عليك ثم خانك فأنا أخر حلقة من سلسلة الحكواتي استيقظ يا سيدي فقد حان قطاف تلك السنوات التي زرعت بذور الدم في أرواحنا .. أيها المنظف الكبير يا سيدي اغسلنا ..اغسلنا من دمنا المر .. توقف لحظة ثم فتح الرولة وقبل أن يقرأ سمع هديرا أت من بعيد ولم تمر ثوان حتى غطى المكان وبدأت الأرض تهتز من جرائه .. ثم دوي هائل صم أذنيه وأعقبه أخر أكثر قوة وأخر .. وآخر مما جعل الحكواتي يترك الرولة على الأرض ويهرب منحدرا من الجبل حتى وصل السفح وهو غير مصدق من نجاته ولم يتوقف الا وهو في مدينته وفي بيته والذي كان فارغا.. دار في البيت ثم قال مع نفسه
- لا بد أنها أخذت الأولاد إلى بيت جدهم وهو يغض النظر عن المفقودات من الأثاث والحاجيات الشخصية .
بعد أيام من الجلوس في البيت دون الخروج إلا لشراء ما يأكله .. فتح المذياع وكان المذيع يتحدث عن البروتوكول واتفاقيات جنيف وخرق المجال الأمني للبلدان وأخر ما قال و ..... وقد دمرت الطائرات الغريبة تلك المنطقة تدميرا تاما بعد أن أسقطت عليها أطنانا من القنابل الشديدة الانفجار ولم يحدد بعد جنسية وهوية الطائرات القاصفة .. بعد أيام أخر يكون الحفيد في طريقه لمدينة أخرى دون أن يعلم أحد وحيدا إلا من حقيبة جلدية ومذياع سيبقى لصيقا به لأمد قد يطول .. وهناك يستقر .. بعد سنوات يتحدث الناس عن شيخ ظريف لا أحد يعرف من أين أتى .. يحمل معه تسع مذياعات ويدور في الأسواق ويضحك على كل شئ ومن كل شئ .. لكنه أحيانا يتجهم وجهه ويغضب وتخرج عبارات منه تتحدث عن الخيانة والغدر الذي يتوالد باستمرار ويخلف أبناء وأحفادا ، وعن زوجة باعته وأهل وعشيرة قتلوه في الذاكرة وعن العوج.. ضحية طأطاة الرؤوس ومسح الأقفية ثم يعود إلى ظرفه مرة أخرى وفي مدينة غير بعيدة عن هذه يتحدث الناس عن امرأة محسنة تساعد الضعفاء والأيتام من أموالها الطائلة ..والتي لا يعرف مصدرها .
كل مساء يأتي ذلك الشيخ الظريف إلى نهر المدينة ذاك .. ويجلس هناك متخلصا من مذياعاته وظرفه ويتسمع ذلك العويل الأبدي للنهر العجوز... عووووووي ي ي ي


الموصل العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى