عبد الحافظ بخيت متولي - إستراتيجية الخطاب وإنتاج الدلالة فى ديوان آثار جانبية للشاعر سفيان صلاح

ليست الحداثة الشعرية في تقديري هي الخروج على الكتابة السطرية المتعادلة خطياً وموسيقياً ولا فى الوقوع فى أتون التوزيع الرأسي للكتابة الشعرية والنمط الموسيقى بدلا من التوزيع الأفقي لكنها مغامرة محسوبة بمقياس القدرة على ابتداع الشكل الجمالى الذى يوظف الرسم الخطى لصالح المحتوى الفكرى هادماً بذلك إشكالية الشكل والمضمون داخلاً بالنص فى منطقة جمالية يتماهى فيها الشكل مع المضمون حتى يصبحا متبادلين المواقع والأدوار الجمالية فتختصر المسافة بينهما إلى حد التطابق أحيانا حيث يكون الشكل وحده دال على المضمون من خلال الرسم الخطى أو التشكيل البصرى للكتابة الشعرية
ولا يأتي هذا العمل مجانيا أو بعثرة للحروف والجمل هنا وهناك بل يحتاج إلى وعى شديد بهندسة الخطاب ومغامرة محسوبة حتى لا يقع فى أتون الغموض والقفز من مجال دلالي إلى آخر بغير وعى فنى وجمالى
هنا نستطيع أن نقول إن ديوان آثار جانبية للشاعر سفيان قد نجح إلى حد ما فى هذه المغامرة عبر استراتيجيات محددة انبنى عليها خطابه الشعرى فى هذا الديوان وهى :
1- الشكل الدرامى
تتوفر فى كثير من نصوص حركة درامية من خلال ثلاثة عوامل على الأقل هى
الأول: الانتقالات الحافلة بالمفاجآت
إذ ما تكاد تستقر العين على نتوء مشهدى حتى يقفز المشهد إلى نتوء آخر لا يمكن التنبؤ به وكل مشهد يفتح آفاقا وإيحاءات غنية ومتفاوتة وليست بالضرورة متجانسة ظاهريا ولكن هناك خطوطا خفية تنتظمها وتخفف من تنافرها الظاهرى ويبدو ذلك بشكل واضح فى قصيدة " تنفس" والتى تجعل من الشعر متنفسا للحياة وبديلا للموت ففى المشهد الأول تبدو الدراما زاعقة حيث يخاطب الشاعر الشعر
"تنفس /وقتا حضورا / واتزانا للزوايا / هذه الأشلاء/ كيف تجمعت /فى حربها/ ضد/ الخطى /صارت / عيون السائرين / مثل حب/ فى الرحى الدوار"
وتظل الدراما الزاعقة تنمو عبر هذا المشهد حتى تصل إلى ذروتها فى نهاية المشهد معتمدة على قلق السؤال حيث يقول الشاعر
"أيها الشعر / أنت من أنت؟/
قل لي
أنت نجم الخبْءِ؟
أم تياه بحرٍ في الخفاءْ؟
من أنت أنتَ؟
وما الذي أعطيته الشعراءَ؟
هل ميل الشبيه إلى الشبيه
أم نُزُلَ الضياءْ؟؟

ويأتي مشهد رافل للمشهد السابق فتشعر أنك أمام نص جديد وكأن الشاعر قفز من منطقة شعرية الى منطقة شعرية أخرى
"أقول ما يقال/ إن الكون اسماك /تسيح/ فى بحار/بعض أدناها الذى يُدرك/ والهواء بحرنا / مدار لانراه/ أقول ما يقال إن الطفل حين يهرب الوعى/ويمشى دافقا كأنه / ضياء نجم /ساحبا بنانه / مع ارتفاع وانخفاض صفِّ طوب فى جدار/ هو يرسم الذى/ لن تستطيع قوله كل اللغات / فى صفاء"
وإذا كان الشعر فى المشهد الأول يجعل من الشعر اتزانا لزاويا وضبط إيقاع العالم فإنه فى المشهد الثانى يجعل الشعر قراءة للعالم ورصد للكائنات التى تسيح فى بحر الكون من حوله وإنه فوق كل اللغات وهذا هو الخيط الدرامى الذى يربط نلك المشاهد
بيد أن الشاعر كان ماهرا فى جعل عنوان النص " تنفس" أيقونة تربط كل المشاهد فى النص ومحور ارتكاز زاعق لكل مشاهد النص فالعنوان جزء من متن النص وليس علامة مختزلة لفكرة النص ولذلك يمكن أن يكون العنوان العام عنوانا فرعيا لكل مقطع من مقاطع القصيدة بل العنوان جزء من التركيب النحوى والصرفى لمقاطع القصيدة وهذا ملمح جديد سوف نتحدث عنه فيما بعد فى هذه الدراسة
الثانى :العامل الزمانى
والعامل الزمانى فى نصوص الديوان يكاد يكون أقوى عامل فى خلق الفضاءات المأساوية القاتمة والتى تلف عناصر القصيدة وكأن اللوم فى انهيار العالم من حوله يقع على عاتق الزمان ونصوص الديوان حافلة بالتنقلات المفاجئة والقفزات التى تبدو متنافرة أيضا لكن بعد التبصر يكتشف المتلقى أن علاقتها التحتية قوية ويبدو ذلك فى قصيدة "كائنات مسكونة بالغناء"
" مر وقت / وقد صرت غيرى/أتانى مسوق الغبار /يسوق غبارا / يحك الدماغ/يدور عينيه فى كل شئ// بنصف لسان / وكف تدور/ يسألني/ : مالذى تشتهيه الغزالة؟"
فالوقت مرهون بالتغيير وتفجير الأسئلة حول الانهيار وانقلاب الحقائق وزعزعة الثوابت فالثعابين صارت طيورا والعقارب صارت طيورا وتعانق الضد بالضد فتجلت مشاهد خلف العيون كل هذا عبر الزمان الكونى الذى يشكل فضاءات المأساة التى تعيشها نصوص الديوان وتكاد تكون وحدات العد الزمانى متوافرة بشكل كثيف فى نصوص الديوان مثل الوقت الذى يشكل فضاء مطلقا والعام الذى يشكل فضاء مقيدا والشمس فى الخسوف وفى إكساب الفصول عكاكيز تسند الروح ومع هذه الوحدات وحدات زمانية أخرى تقلب النهار إلى ليل تساندها فصول الخريف أما الصبح المشرق فلا وجود له
وهنا يبدو الزمان فى نصوص الديوان مأساويا يخدم دراما الحزن المطلق فى الديوان
الثالث: الحركة الدائبة
تتوفر الحركة الدائبة فى قصائد الديوان من ذلك التصادم بين انتقالات الأصوات الداخلية أو الضمائر فى النصوص وانتقالات الأفعال بين صيغها المختلفة ويعمل هذا التصادم على تقاطع عنصرى الزمان والمكان مما يجعل البنى الداخلية للنصوص لا تستقر على حال
ففى مجال تعدد الأصوات نجد اللابطل المطروح على رصيف المعاناة هو " الأنا" الفرد و" الأنت الجمعى" وال: نحن"
فالأنا الفرد مسلوبة الإرادة دوما ومتفجرة بفعل الكبت والضغط القاتل
يجتاحنى الحزن / فأحزن/أنا الذى فى تنفسه / يستاف طقس كينونته/ شهيقا صعبا / ثم يطلقه ريحا ملغمة"
والأنت الجمعى مهزومة فى كل شئ مقهورة فى ظل غياب العدالة والتهميش الطبقى
" يمكن امتصاصك / حتى تصير جلدك/ ويمكن أن تحشى بدم ودم/ويمكن / أن تصير عقدة فى عامود صخرى /أو موجة"
وال"نحن" المهزومة المسلوبة المؤرقة أيضا
"ربما كلنا أضحيات/ لوجه الطقس الأرق/جاءنا من أتى فى الخدع/لا بديعا ولا مبتدع"
وهذا التنقل بين الضمائر أعطى للشاعر الحق فى تلبس كل الضمائر وإن كانت الـ " نحن" قليلة ونادرة فى نصوص الديوان وذلك ليس لأن " الأنا الشعرى" هى الأنا الفردية المصابة بالتضخم الذاتى لكن الأنا الشعرى فى نصوص الديوان هى الأنا الجمعى التى تحمل عذابات العالم محاولة البحث عن مشروعية الإنسانية التى تعرضت للطمس والتشويه
وهنالك الكثير مما يقال عن الزخم الدرامى فى نصوص الديوان هذا الزخم الدرامى الذى دفع الشاعر إلى أن يمسرح الجمل الشعرية عبر الكتابة الخطية لبناء الخطاب الشعرى فيبعثر هذه الجمل على بياض الصفحة بشكل مسرحى كل جملة تلعب دورا مرسوما لها بدقة فى إنتاج الدلالة موزعة بعناية على خشبة الصفحة مما يجعل نصوص الديوان نصوصا متشعبة فى شكل بيئة شعرية رافلة تقدم الفهم النقدى بالملموس وتحفز إدراك المتلقى عبر الرؤية البصرية والفهم العميق فى نقل التجربة الشعرية من عالم الرصيف القولى المنتظم والمصاب بالسكون غالبا إلى شارع الحياة الصاخب فى ظل تكامل الوحدات السمعية والبصرية والحركية التى جمعتها بيئة مسرحة الجمل الشعرية لتنتج شكلا دراميا يجعلنا أمام نص جديد .
2- الأسطوري والرمزي
تتخذ قصائد الديوان كثيرا من حيل التقنع والتوسل بالرمز والأسطورة للتعبير عن الإسقاطات السياسية والاجتماعية والإنسانية التى يبثها عبر نصوصه لصنع قالبنا شعريا أقدر على الإيماء من التصريح الفج وهذه الصناعة تجعل شعريته أكثر طزاجة
فأسطورة الماء والنار والشمس تبدو فاعلة فى إنتاج الدلالة الشعرية
" وعند اشتعال المياه/ على الماء/ ألقيت مائى/ كان اختناق نزق/ وحل رحيل إلى غرق/ من غرق/تحول لون نغم/ على موجه / انساب رقص نهم/ثعابين صارت طيورا/ عقارب صارت طيورا/ وصار العناق فضاء"
إنها أسطورة السحر والسحرة الذين يسعون لفرض إرادتهم دوما من خلا ل القوى الخفية التى يوهمون بها العالم من حولهم واستدعاء سحرة فرعون هنا تحدد العلاقة الآنية بين الحاكم والشعب والتى يكون الفاعل فيها سحرة الحاكم لكن عصا الشعب تتحول إلى ثعبان يأكل كل حيل السحرة من حاشية الحكام ويصير الماء هنا مجالا لتعميد الشعب من جديد فالتعميد هو الميلاد الثانى للشعب
وحين تصبح طيور الكلمات تعادى أقفاص المعانى وخرافية مطاردة الحرباء هنا يفرض التوظيف الأسطوري سؤالا يحدد هوية الذات فحين يكون كل ذلك هل تختار أن تكون حيادا إيجابيا سالبا؟ لذلك تنهار السلالم لكنها وطأة الصعود فكيف تستغنى عن حنان ملابسها الداخلية دماء؟
هذا هو قلق الذات حيال حياة مملوءة بالأقنعة متلبسة ثوب الحرباء المتلون فى كل شئ .
3- كثافة الخطاب الشعرى
تأتى الكثافة الشعرية فى نصوص هذا الديوان على طولها الواضح من أمرين :
الأول: ارتفاع نسبة الأشكال المجازية
وهذا النوع منتشر بشدة فى نصوص الديوان وبشكل مكثف أيضا ولنأخذ نموذجا واحدا يشير إلى تلك الكثافة الشعرية من نص أثار جانبية الذى يحمل الديوان عنوانه أيضا
" بصبغة / هل يمكن ردم آثار التجاعيد على دم / عليه أن يقابل طقسا ساخنا / دما/ كيف تشق الجلد وتدخل فى خلاياك/ محاربا/حتى حرث الميادين من المستعمرين/ قد يصير الفرد فى الضعف كتيبة/أتعلن انك نخخت / انك اضعف من فيروس مطارد / بالمعامل والمعمليين؟"
وإذا كانت كناية ردم آثار التجاعيد على الدم تشير إلى تبدلات الحياة وتحولات تجاربها الوعرة فإن إعلان الفرد فى الضعف كتيبة يلقى بنا فى المطلق الشعرى والوجودى معا فالإنسان والنص مهزومان واضعف من فيروس فى المعمل الإبداعي والمعمل العلمى والحياة بشكل عام وهنا يبدو التكثيف الشعرى الذى يقارب حالة ولا يستطيع أن يفصح عنها فيكتسب نتيجة ذلك قدرة فائقة على تكثيف القول وتشعيره
الثانى: استغلال مساحات الصمت لتفجير الطاقة الشعرية
تأتى تقنية مساحات الصمت فى النصوص الشعرية والتعبير عنها بعدة نقاط الشكل بشكل أفقي أو رأسي لتشكل تلك الفجوات أو الفراغات التى يتعمد الشاعر تركها لواعية المتلقى وذائقته وحتى تتفجر فى وجدان المتلقى وتتخذ مساحات الصمت أشكالا متعددة فى نصوص الديوان ما بين توظيف الرسم المنقط المنفصل والمتصل أو مساحات البياض التى تشكل صمت الفراغ على مستوى الرسم الكتابى أو التعبير الشعرى وأسوق هنا مثالا واحدا
من قصيدة " حضرة اللمسة الغائبة"
"هذه دمعة اللحظة العامرة / يتموه فى الطقس طقس/ وطقسان كالشمس/ حين الخسوف...../...... فكم لمسة ستكون المسافة ؟/كم حلم دم ولود وينتعش الركض"
هنا يشكل الصمت كثافة التراكم الدلالى عبر فجوات تدفع المتلقى إلى الإدراك الواعى لتحولات الحياة بين الطقوس المهزومة والشمس فى لحظة الخسوف والدم الذى يشعل الركض نحو حياة مغايرة إنها حالة التفجر الشعرى والدلالى فى آن واحد .
4- الأنماط البنائية للديوان
المظهر الذى يستوقفنا عند دراسة المشهد البنائي لنصوص الديوان هو سيطرة أسلوب المقاطع على مجمل بنية نصوص الديوان وهذا الشكل وجد مبرره الفنى الذى يتكئ عليه فى هذه النصوص وهو الانتقال بين أفضية الزمان والمكان بشكل درامي مستعيرا ذلك من التقنيات الفنية للسرد ويوظفه بشكل شعرى جيد اعتمد على مسرحة الجملة الشعرية كما ذكرنا من قبل .
لكننا حين نتحدث عن المرتكز الأسلوبي الذى بنى عليه الشاعر خطابه الشعرى نتوقف أمام ملمحين ظاهرين فى الديوان هما :
الأول : الاتكاء على مفردة أو عبارة
وهذا الاتكاء يحعل هذه المفردة المرتكز الرئيس للقصيدة وما تثيره حولها من تداعيات وأفكار وذلك بالعودة إلى المفردة ذاتها ويبدو ذلك فى قصيدتين هما " تنفس" و"تدخل الكواكب" ففى قصيدة " تنفس" يستخدم الشاعر أسلوب التداعى الحر جول موضوع يتم تحديده لفظيا بمفردة واحدة هى تنفس تتكئ عليها كل مقاطع القصيدة وكأنها حاضرة وغائبة حول استحضار الحالة أو الموقف الشعرى
ففى المقطع الأول " تنفس وقتا حضورا / واتزانا للزوايا/ وفى المقطع الثانى يمكننا أن نضع مفردة تنفس / وقتنا لإعلان تمسه الدماء وفى مقطع آخر " تنفس وقتا / وطقسا أبلجا لشاعر/ مغامر/ يحط/ فى قصيدة /على حروفها/ الجواد ينسحق "
وكأن هذه المفردة المحددة لماهية الشعر الذى يتحدث عنه هذا النص فى إشارة إلى تماهى الذات مع الشعر حتى يصبحها رئتها التى تتنفس بها
وفى قصيدة تداخل الكواكب" اعتمد الشاعر على عبارة تداخل الكواكب كمحور ارتكاز لتفجر المعنى الشعرى الذى يرمى إليه النص وهو الغربة النفسية التى تجعل الكواكب تدخل قصيدة من رفيف أجنحة فى بحر الفضاء فيكون الدخول ولوجا للغربة والألم النفسى ويتداعى النص كله حول هذه العبارة الفاتحة والتى لا تشكل عنوانا برجماتيا بقدر ما تكون نواة تتوالد داخل النص كله .
الثانى: الاتكاء على موضوع معين
والتداعى الحر حوله دون ضابط اللهم طول الجملة الشعرية أو قصرها وهذا الشكل ينتشر فى معظم قصائد الديوان مثل قصيدة قنبلة موقوته التى تتضمن أسلوب التداعى الحر ضمن بنية مقطعية حول موقف الشاعر من الحب فى لحظة نفسية معينة يصبح عندها الحب قنبلة موقوته للوهم الذى نعيشه وهذيان الحياة الصاخبة بالمآسي السياسية والاجتماعية
هذه بعض ملامح استراتيجيات الخطاب الشعرى الحداثى فى هذا الديوان وليست كل الملامح فهناك الكثير من هذه الملامح منها التشكيل البصرى والمونولوج الدرامى وغير ذلك لكننا توقفنا عند هذه الملامح فقط لكون الديوان يحتاج إلى متلق نوعى لديه خبرة جمالية فائقة حتى يمكنه فض شفرات نصوص الديوان وإزالة أقنعتها التاريخية والأسطورية والصوفية المختلفة وترميزها المغرق أحيانا فى كثير من المناطق الشعرية بيد أن الشاعر صاحب تجربة شعرية فائقة ومفتوحة على فضاءات وآفاق ثقافية ومعرفية مختلفة





آثار جانبية.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى