أحمد شحيمط - المثقف في زمن العولمة

إذا كان المثقف ضمير الأمة والمعبر عن شجون الأوطان في سعيها نحو التقدم والتحرر من نير التبعية والتخلف في ميادين الاقتصاد ، فكيف يمكن الإعلان عن نهايته أو موته ؟ الأكيد أن المقصود من خطاب النهايات سواء تعلق الأمر بالتاريخ والايديولوجيا أو نهاية الفلسفة والمثقف والدولة، تلك الأشكال النمطية السائدة من أفكار وتصورات تقتضي التجاوز لإعادة رسم الممكن في مرحلة معينة من التاريخ ،واستنطاق المثقف للتعبير عن ما يريد قوله والتعبير عنه، وما يمكن أن يضمره . ضمائر الشعوب في زمن الصمت والأفول إن كانوا بالفعل كذلك ، وأبواق للسلطة إن كانوا يمثلون أجندة معينة . المثقفون في هذا التعريف لا يتحددون بوصفهم ذوات متعينة، مثل سائر الأفراد، بل هم ممثلو منظومات وناطقون باسمها(1)، يعني الكلام عن المثقف بوصفه ممثلا للشعب، وحاملا للقيم والمشاريع الكبرى التي يطمح المجتمع في تحقيقها. ان المثقف من هذا المنطلق يستوجب أن يكون منخرطا فعالا في المجتمع المثقل بالتناقضات التي أنتجها واقع الحال ، والصراعات في مجال السلطة والاقتصاد، إذ تجد المثقف قابعا في زاوية التحليلات والتنظير من فوق، إذا لم يكن منغمسا أو ملتزما على شاكلة ما يدعو إليه الفيلسوف سارتر من منطلق النزعة الوجودية ،وضرورة النضال الملتزم بقضايا الإنسان العادلة نحو تحقيق الحرية ،هذا المثقف الكوني الذي يناصر الإنسان بقطع النظر عن طبقته الاجتماعية وثقافته وانتمائه الجغرافي، أن يكون المثقف ذو طابع عالمي، وناقد ومناضل ضد التنميط واستعباد الإنسان . كان نقد سارتر شديدا للاستعمار الفرنسي للجزائر ،وكان مناضلا مع الفلاحين والطبقة العمالية في فرنسا ، والثورة الطلابية في 1968، ورافضا لجائزة نوبل للآداب في 1964 من قناعات ذاتية أساسها الرفض المبني على فكرة الالتزام في الكتابة مع الإنسان وليس الكتابة لأجل الجوائز المادية . فالمثقفون ليسوا كتلة متجانسة موحدة ،واهتماماتهم متشعبة ومتعددة ،ونوازهم متضاربة بين النوع الإيديولوجي، في التموقع بين اليمين واليسار ، المحافظة والثورة ،التنظير أو الانخراط داخل المجتمع ، ونادرا ما كان المثقفون من طبقات شعبية ، فهم إما مثاليون دون وعي ذلك، أو هم متسترون بإرادتهم مع إحساس ما بالخطأ .
يتستر المثقفون في غالب الأحيان على أصولهم الاجتماعية، وعلى أوضاعهم الطبقية ، ومع كونهم أحيانا كثيرة من علماء الاجتماع(2)، المثقف صور متعددة ، ممثل للطبقة المتوسطة، والناقد للامتيازات والسلطة تحت دوافع المهادنة والمصلحة المشتركة ، يعيد قراءة الواقع بناء على المعطيات الآنية التي تجعل السلطة في خدمة الكل ،إلا أن الفجوة ظلت عالقة بين المثقفين في الخطاب والأفعال ، موزعين بين ميولات ليبرالية واشتراكية وقومية ، يعبرون من مواقعهم عن المشترك، والأحلام التي تراودهم في تحقيق الممكن عبر اجتراح حلول لمشاكلهم . من يتأمل في تحليلات بيير بورديو في كتاب "الورثة" أو "إعادة الإنتاج" يدرك موقع المثقف الذي يحلل بالنقد إعادة إنتاج منظومة فكرية نفسها بالطبع والتطبيع، بالقوة الناعمة والقوة القسرية في النسق التربوي التعليمي ،حينها يستمر الرأسمال المادي والرمزي للطبقة السائدة على الطبقة المسودة ، ومن يدرك ثقافة الرفض التي يعبر عنها العالم اللساني الأمريكي نعوم شومسكي عن قمة المثقف الذي يحمل مشعل الحقيقة في زمن القوة وهيمنة القطبية الواحدة ، وسياسة الاحتواء للدول والكيانات التي تعبر عن سيادتها، ومنطق ثقافتها في العيش بدون إرغامها في التخلي عن نمط حياتها .
المثقف ليس جسدا واحدا متماسكا، هناك المثقف التقليدي الذي يقبع في برج عالي ينظر من شرفته إلى الواقع بمنظار التأمل والاستباق ، ويعبر عن آمال وطموحات، هي بالفعل جزء من الأهداف المنشودة ، دون أن يكون طرفا مباشرا في خدمة البورجوازية، وأصحاب السلطة وذوي الامتيازات الخاصة، أي بناء مدينة حالمة وعالما مثاليا ، وواقعا تسمو فيه العدالة والحرية والقانون. طموحات مرغوب فيها إلا أنها يجب أن تكون موازية للحراك الاجتماعي والإرادة العامة للكل ، من نخب سياسية ومجتمع مدني ،حيث يكون المستهدف هنا تغيير منطق السلطة، وخلق شروط فلسفة اجتماعية قوامها تنمية الإنسان، وهناك المثقف العضوي الملتزم بقضايا طبقته والمدافع عنها، وهنا أفرد غرامشي كثيرا القول عن حالة المثقف العضوي، أقرب إلى الواقع، أنتلجنسيا مثقفو الحركة الشعبية الروسية، وظيفته إيقاظ الوعي الطبقي . يحاول غرامشي أن يبين أن الدين يقومون بوظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع يمكن تقسيمهم إلى نوعين :
الأول يضم المثقفين التقليديين مثل المعلمين والكهنة والإداريين، وهم الذين يستمرون في أداء ذلك العمل نفسه جيلا بعد جيل ، والثاني يضم من يسميهم المثقفين المنسقين(3)، يمكن للمثقف أن يثير الأسئلة ويعترض على قرارات وأشياء بالكلمة والنقد ،لا يمكن أن يلزم الناس بالفعل لان السلطة بيد الآخر الذي يمتلك القدرة في الفعل وإصدار القرار ،إلا أن التقدير الرمزي والخطاب الموجه بالفائدة والنقد، يمكن أن يصب في الاختيار الصائب لذوي القرارات، علما أن السلطة بدورها من خلال تعريف فوكو بوصفها" استراتيجية معقدة في وضع معين"، تخضع للضوابط والإرادات والمصالح، فهي مجموعة من التقاطعات والخطابات التي تعبر عن واقع ما، ولذلك فهي نسبية ومتغيرة من مجتمع لآخر . وهناك كذلك المثقف الناقد الذي يستهدف تغيير الأشياء بالرفض والنقد، وعدم الاستكانة للخطاب السائد، والبنيات المتحكمة في الثقافة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويعتبر هذا النوع من المثقفين قليلا إذا لم يتم احتواؤه من طرف الدولة أو المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية ،حيث يصبح النقد هنا علامة على الدوافع الأيديولوجية التي تهدف لخدمة مؤسسة أو طبقة ما بدافع الربح والدعاية. يعتبر المثقفون، ومن جوانب متعددة ورثة رجال الدين في العصر الوسيط ، وورثة المتعلمين في النظام القديم ، لكن رجال الدين المتعلمين أيضا، كانوا إلى حد بعيد مع المحافظة، وأبعد ما يكون عن الانشقاق. لقد كانوا من حيث وظيفتهم من حراس الثقافة والارثودوكسية (4)، يعني أن الأدوار والوظائف للمثقف أصبحت محكومة بالسياقات والأزمنة المختلفة ، تحولات طرأت على المثقفين من اعتبارهم عصبة من الملوك الفلاسفة حسب جوليان بندا حينما يتحدث إدوار سعيد في كتاب "خيانة المثقفين" عن صورة المثقف الحقيقي في صرخة جوليان بندا، ضد المثقف الذي تستهويه السلطة والمنفعة الذاتية، والتخلي عن الوظائف الفعلية في الدفاع عن القيم الأخلاقية والإنسانية ، نوع من اللوم والعتاب للمثقفين الذين انحدروا إلى السفح في التخلي عن هموم وقضايا الإنسان المركزية ، ولو أن ذاتية ادوارد سعيد موجودة في القضايا العربية الأساسية ، يناضل بالكلمة والكتابة ، يبقى المثقف غريبا ومنفيا، يفرض ذاته عندما يمتلك سلطة الخطاب المدافع عن قضايا عادلة، وحق الإنسان في العيش دون استئصاله، وتذويبه في مجتمعات المنافي الطوعية والقسرية .

إن الفنان والمثقف هما في عداد الشخصيات القليلة الباقية المجهزة لكي تقاوم ، ولكي تحارب ، تعرض أفكار حية حقا إلى قولبة جامدة وبالتالي إلى الموت(5)، وإذا كان الأمر كذلك في النماذج أو الصور للمثقف ، فهل تستمر صورة المثقف أم يمكن الحديث عن نهاية المثقف ؟ هل أفرزت العولمة نماذج جديدة للمثقفين أم أنها وسعت من هامش الثقافة والمثقف؟ أسئلة أخرى في صميم التقصي عن صورة المثقف والثقافة اليوم ، الثقافة في زمن العولمة أصبحت سريعة ومتطورة للتزايد في العلاقات المتبادلة، والصور المتدفقة من العالم الذي يعتبر اليوم قرية كونية صغيرة ، حيث تفنن صناع الإشهار في التسليع وصناعة النجوم، ورواد الفضائيات والمدونين، وأصحاب المواقع على شبكات التواصل الاجتماعي، بداية توجيه العقول نحو منتوج جديد من الأخبار السريعة والقراءة المتخصصة للمشهد السياسي والثقافي ،حتى أصبحت الثقافة صناعة إعلامية موجهة بعدد المشاهدة والمتابعة، وتحولت الثقافة إلى سلعة للبيع والشراء ، وتوارى المثقف العالمي على حساب المثقف الخصوصي ، ذوي النزعة التقنية، والفنانون وأصحاب البرامج الموجهة بالأهداف المسبقة ، ولم يعد المثقف يمارس وكالته الفكرية عن المجتمع أو وصايته الخلقية على الناس . فالمثقف هو في عصر الوسائط وسيط بين الناس ، يسهم في خلق وسط فكري أو عالم مفهومي أو مناخ تواصلي أي ما من شأنه أن يزيد في المجتمع من إمكانيات التواصل والتبادل والتعارف(6)، فقد المثقف ذلك الوهم الذي ظل يسكنه في عملية التنوير والتغيير الشامل للواقع ، وتلك القراءة الرنانة للمجتمع التي تبشر بالثورات والانهيارات بمجرد أن تستوعب الجماهير الخطاب الموجه ، نهاية المثقف وصعود الناشط السياسي والحقوقي ، نهاية المثقف الكوني وظهور المثقف المعولم . لا يستقطب الإعلام أكثر إلا النجوم والمشاهير وذوي الصيت في شبكة التواصل الاجتماعي، وانتظار أعداد المتتبعين، والحصيلة النهائية من الأرباح والمداخل ،لا شك أن العولمة تخرق الآن جدار الهويات المغلقة ،على نحو يتجاوز منطق الماهية نحو فكر علائقي مفتوح .

إن منطق الماهية الجامع المانع ،أي القائم على منع الداخل من أن يخرج والخارج من أن يدخل، هو منطق للمحافظة والانغلاق، بقدر ما هو منطق للنبذ والطرد ، ولكن مع ظاهرة العولمة تخترق الأسوار، فيتشابك الخارج والداخل على نحو لا سابق له(7)، وليست العولمة كما يعتقد بعض المثقفين العرب أنها دائما ضد الهوية والتماسك الاجتماعي ، والتي تساهم في تقويض أسس الثقافة، بل العكس العولمة نتاج للعالم الجديد بأنساق مغايرة، ودينامية تزرع في روح الثقافة الإنسانية اختيار الأنماط المناسبة للتقدم ، والتقليل من الصراعات الأيديولوجية، إذا فهمنا معاني الفلسفة الليبرالية مع فوكوياما ، لان العولمة بالمعنى البسيط هي التبادل، وتعميم القيم الليبرالية في مجال السياسة والاقتصاد، وتبادل الخبرات والثقافة دون التمركز على الذات بدعوى الخصوصية الثقافية، وحق الشعوب في الرفض. لم يعد بوسع العالم أن يرفض الانترنيت والجرائد الالكترونية والفضائيات والمستجدات في التواصل الاجتماعي ، فضاءات جديدة في عالم اليوم تستهدف التأثير في المشاهد، وبناء المعرفة في عالم سريع ودينامي، يعني أن نهاية المثقف هي نهاية الصورة النمطية عن المثقف بأشكاله المختلفة. المثقف العمومي، وهو المتخصص صاحب الثقافة الواسعة الذي يكتب، وينتج بلغة مفهومة للعموم عن قضايا تهم المجتمع والدول بشكل عام، كما أن المثقف العمومي يساهم في هذا الفضاء من منطلقه، ولا تخلو مساهمته من مواقف(8)، هذا المثقف النموذجي من زمن الأمس بدأ يتلاشى كصورة مع ظهور التقنية والعصر التقني، الذي فرض أن يكون الإنسان متخصصا في مجالات دقيقة، وأفضى أن يعالج الإنسان القضايا من منطق معين ،هنا يتجلى دور الخبير والمتخصص والفنان والداعية والتقني، أما المثقف بالمواصفات السابقة، والذي يحسن صنع الأزمات وفبركة المشكلات، بات هو نفسه في أزمة ، بعد أن اكتشف المبادئ والنظريات عن عوراتها في مواجهة الانهيارات، والتحولات التي يشهدها العالم على غير صعيد، في الوقائع والأفكار أو في النظم والمؤسسات(9)، لازال المثقف أسير النظريات والمذاهب ، يعيش في عالم المثل الأفلاطونية واليوتوبيا، المثقف الذي لا يفارقه الشعور بالوحدة والقلق من الآني والمستقبلي، يبكي على الزمن الماضي والأمجاد الغابرة. وينتمي إلى زمن الأمس، اهتزت صورته بفعل ما يكتب ،لان البنيوية بذاتها عجلت بموته، وأصبح النص بدون ذات، يعبر عن تناقضات وتقاطعات، وتأويلات من القارئ ليس إلا. المثقف كان يُعنى بالحقيقة والحرية والعدالة والمثاقفة، فأصبحت هذه المفاهيم من اهتمام المنظمات الإنسانية الدولية والحكومية، والجمعيات المدنية والسياسية ، ونقطة مشتركة تثار حولها نقاشات من قبل مختصين في هذا المجال .

لقد كان الفيلسوف هايدغر بارعا في وصف المرحلة عندما عبر عن نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، وحلول تفكير ذو الطبيعة البسيطة الأقل غموضا وتعقيدا من الميتافيزيقا، هذا التفكير لا يدور عن الموجود ونسيان الوجود . يبدو أن المثقف أو المفكر الحقيقي سيعيش زمن الصمت والعزلة، وتجربة القلق التي تؤسس للوجود الإنساني بعيدا عن الاغتراب أو الاستلاب أو ما شابه ذلك. إن المثقف يقدم نفسه بوصفه صاحب رسالة ، وليس صاحب غاية خاصة أو منفعة مباشرة، فهو يعلن بأنه لا يبتغي سلطة، وإنما يدافع عن القيم والمقدسات، وهنا وجه الخداع والمخاتلة . فمهنة المثقف هي مهنة قوامها أن تخفي حقيقتها، أي كونها تشكل مهنة ومصلحة، أو تعمل على تشكيل سلطة خاصة(10). يتحول المثقف إلى خدمة سلطة ما، أو خبير يعمل في منظمات دولية، ومنظمات غير حكومية، أو يعطي الاستشارة للشركات المحلية والعالمية، في خبرته عن أذواق المستهلك، وطبيعة المجتمع بصفة عامة من خلال دراسات نظرية وميدانية، كما هو الشأن في ميدان العلوم السياسية والاجتماعية ،هذا المثقف بالمواصفات الجديدة نتاج للعولمة والثقافة في عصر الوسائط وتقنيات الإعلام، ونتاج للتحولات التي شملت المجتمعات ما بعد الصناعية أو ما بعد الحداثة ، ومن يقترب من حيثيات المجتمعات الآنية يدرك أننا في عالم يتغير سريعا، ويتعقد بشكل أكبر من أن يستوعبه المثقف بالآليات السابقة، ما كان يعتبر غزوا ثقافيا واستعمارا جديدا من الشركات العابرة للقارات، والهيمنة الاقتصادية أصبح الآن من ضرورات وأولويات السياسة الدولية في الانفتاح على العالم وجلب الاستثمارات . وبالمقابل يحمل الخطاب النقيض نقدا للعولمة في بعدها القيمي والاقتصادي، والعالم حسب المفكر المصري سمير أمين بني على تقسيم غير عادل للعمل ، والتطور اللامتكافئ يحكم على بلدان العالم الثالث استخراج المواد الأولية، والبلدان الصناعية تقوم بتصنيعهما وبالتالي إعادة تصديرها والتحكم في اقتصاد الدول الأخرى. فالعولمة تتشبع وتتغذى من الهيمنة والسيطرة على العالم بفعل تعميم نماذج في مجالات مختلفة، وهذا يؤدي بشكل تدريجي وفعلي إلى نزعة ثقافية تسلطية عالمية : " افعل مثلي إن كنت تتشبث بحقك في الوجود "، هذا النوع من الابتزاز يغيض ملايين الخاضعين لسوء التعامل سلفا من طرف أنظمة خضعت برمتها للعولمة، والتي ترى فيها الملجأ الوحيد أمام التذمر الشعبي(11)، لا مفر من العولمة في ظل النظام العالمي الجديد، واذا كان المثقف يعتقد أن العولمة شرا أو وباء لغياب فعالية المجتمعات الأخرى في الاقتراح والتفاوض على العلاقات المتبادلة بين الشعوب دون ذوبان الهوية والقيم، فالأمر يعدو عند الكثيرين مدعاة للمبالغة والتهويل من المخاطر ،خصوصا أن العولمة تفتح العالم على تنوع المبادلات التجارية والاقتصادية وتبادل الرموز، وسرعة تناول المعلومات، وتعميم القيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وإزالة كل أشكال الظلم والفساد، من هنا صار المثقفون فئة عريضة تدافع عن أطروحة العولمة في بعدها الكوني المنفتح على استلهام النموذج الليبرالي في التدبير والتسيير، وأن زمن العولمة سيعرف تصاعد العنف في العالم، عنف الدولة تحت ذرائع محاربة الإرهاب، واستئصال الفكر المضاد للوحدة العالمية في النماذج المقبولة والنهائية ، مما يولد كثيرا من القلاقل والرفض من قبل حضارات بفعل انفلات العولمة من المرامي الايجابية للتبادل الحر، وفتح العالم أمام التنمية البشرية الحقيقية، ونقل خبرات ومؤهلات الغرب للعالم الثالث.

في العولمة هناك زيادة كبيرة في تأجيج العنف ، وازدياد الحرب الشاملة ومحاصرة البلدان التي تعتبر محاور للشر حسب تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية، وتحول الحروب الاستباقية إلى دمار وتصفية حسابات بدعوى الحفاظ على الأمن القومي وعدم القبول بالمعايير السائدة في النموذج الليبرالي . هذا يعني انهيار التوازن بين الخير والشر، وانهيار التقارب بين الحضارات، وتداعي فكرة الاختلاف، والتعايش بين الشعوب والحضارات، وتلاشي الاختلاف والتوجه نحو التعصب ، وإشاعة الحرب والعداوة التي يصعب تضميدها. هناك دائما حرب ومقاومة ، وليس الإرهاب الراهن حفيد تاريخ تقليدي للفوضى وللعدمية وللتعصب ، انه معاصر للعولمة، ولكي نحيط بسماته، يجب القيام من جديد بتأصيل وجيز لهذه العولمة في علاقتها مع العام والخاص،.. أما العولمة فهي عولمة التقنيات، والسوق، والسياحة، والإعلام. تبدو العولمة ذات اتجاه لا محيد عنه، في حين أن العام في طريقه إلى التلاشي، على الأقل على النحو الذي تكون فيه من خلال نظام قيم على صعيد الحداثة الغربية (12)، وعندما تختل العلاقات الإنسانية، وتفرض الثقافة الواحدة نفسها على الكل، يكون مصيرها الرفض والمقاومة أو الانتقاء . فالهيمنة على الأذواق والفكر والسلوك غالبا ما تواجه بدافع الخصوصية، والثقافة والتاريخ والهوية، والاستقلالية، مفاهيم من سياقات متنوعة تجابه المشروع الغربي وتطرح إمكانية أن تكون العولمة في الجانب المادي دون القيمي والرمزي، إلا أن نتائج العولمة لا تعترف بالحدود والمتاريس في اختراق جدار المثالية والوثوقية أمام ثورة معلوماتية ، وعوالم افتراضية تزيل الغشاوة عن العالم، وتوسع من دائرة الثقافة .

المثقف تفرض عليه مجموعة من التحولات في الأدوار المعرفية، والقراءة للمشاهد والمعطيات الآنية ،حيث أصبح الواقع ينفلت أمام تعقد الظواهر، وتدفق الصورة، وكثرة النشطاء والمدونين، والمحللين والخبراء والمختصين ،هؤلاء من يعملون على تكريس ثقافة جديدة في عالم اليوم، يعبرون عن نبض العولمة في مسايرة أبعادها، ومراقبة الشأن العام للمجتمعات، ونقل التحليل والصورة إلى المشاهد دون السقوط في الإيديولوجية الواحدة، هذا النوع من النشطاء والخبراء يعملون على تحليل الوقائع من منطلق التخصص، وبلغة سريعة ومألوفة، ساهموا بالفعل في نهاية المثقف الكوني والعمومي، الذي يلم بحيثيات كل المعطيات، ويقول الحقيقة والصواب، ويحاول أن يحيا من جديد وسط الأزمة، أو تفرض عليه الإحداث أن يغير من بوصلة التحليل حتى يستقيم والمنطق الجديد في نقل المعلومات، والإلمام أكثر بالواقع . يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر، وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له، ولا حملات الأصولية عليه ، كما يتوهم بعض المثقفين، بالعكس ما يفسر وضعية الحصار هو نرجسية المثقف، وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي ، أي اعتقاده بأنه يمثل عقل الأمة أو ضمير المجتمع أو حارس الوعي(13)، بداية نهاية واختفاء المثقف الذي ترك المجال في عصر العولمة للناشط السياسي والاجتماعي، والحقوقي والمدون، فأصبح كائنا يبحث عن ذاته في ركام الأحداث، أو يضفي على ذاته اللمسة السحرية في البيان والكلمة من خلال النقد والتجاوز للعولمة، في تسطيحها للفكر والعقول، واعتبارها من تجليات الواقع المأزوم، الذي يعبر عن انحصار الإنسان في زمن الغشاوة والتجهيل ، وتطويع الأجساد والثقافة حتى تتناسب وما ترمي إليه من غزو واستعمار، وبلادة الإنسان اليوم، عصر ما بعد الحداثة ، التشتت والتفتيت ، والتفكيك والخلخلة ، والتقويض واللامعنى واللاتجانس... مفاهيم تشير إلى أزمة الحداثة الغربية ، وأزمة القيم والإنسان ، يؤشر إلى عودة المكبوت والمنسي، وانتشار العنف والفوضى، الأمر الذي يستدعي وجود مثقفين، ومفكرين لأجل تجاوز تناقضات العصر، وإحلال فكر بديل يعيد الاعتبار للذوات المبدعة في عالم الثقافة والفكر، وبناء قاعدة فكرية تتجاوز السلطة، وتساهم في تحرير الوعي الاجتماعي من ترسبات البعد السلطوي والإيديولوجي، وعودة المثقف بأدوار جديدة خدمة للمجتمع .

الهوامش :
(1)عبد الاله بلقزيز " نهاية الداعية الممكن والممتنع في ادوار المثقفين " الشبكة العربية للأبحاث والنشر ،الطبعة الثانية 2010 ص56
(2) جيرار لكلرك " سوسيولوجيا المثقفين " ترجمة جورج كتوره ،دار الكتاب الجديد المتحدة ،الطبعة الأولى 2008 ص41
(3) ادوارد سعيد " المثقف والسلطة " ترجمة محمد عناني ،رؤية للنشر والتوزيع 2006 ص33
(4) جيرار لكلرك "سوسيولوجيا المثقفين " ص41
(5)ادوارد سعيد "صور المثقف " تعريب غسان غصن ،1993 ص36
(6)علي حرب "حديث النهايات " ص130-131
(7)علي حرب "حديث النهايات " ص114
(8)عزمي بشارة " عن المثقف والثورة " مجلة تبين ، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات ،2013 ص6
(9)علي حرب "أوهام النخبة أو نقد المثقف " المركز الثقافي العربي ،الطبعة الثالثة 2004 ص39
(10)علي حرب " أوهام النخبة أو نقد المثقف " ص57
(11)المهدي المنجرة " عولمة العولمة " منشورات الزمن، الطبعة الثانية 2011 ص28
(12) جون بودريار " روح الإرهاب " ترجمة بدر الدين عرودكي ، سلسلة الفكر 2010 ص 71
(13)علي حرب "أوهام النخبة أو نقد المثقف " ص 98

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى