عبدالرحيم التدلاوي - عزف على أوتار المعنى، قراءة في مجموعة "عارية تماما" للسعيدة باحدة.

عن دار سليكي إخوان بطنجة، صدرت مؤخرا للقاصة السعدية باحدة مجموعة قصصية بعنوان: "عارية تماما"، وتقع المجموعة في 59 صفحة من الحجم المتوسط، تزين غلافها لوحة الفنان التشكيلي الفلسطيني خالد نصار، تضم المجموعة 10 قصص قصيرة، هي على التوالي: "كراباكيا"، "أفاعي رأسي"، "يداي"، "... وشربت السم"، "امرأة حمراء"، "انتقام خرافي"، "الثمن"، "حالات"، "محاكمة"، "رؤية".
وقد جاء في ظهر الغلاف: «... كشرت عن أنيابها، وبدت كوحش شرس، انقضت علي وأنا أرتجف كعصفورة بللها المطر. ساقتني أمامها، فإذا بي أمام جثة لا يزال دمها فاترا وبخاره متصاعدا، وعلى الأرض جنب السرير آنية مملوءة دما حارا...»
والكاتبة المغربية السعدية باحدة، قاصة من الدار البيضاء، صدر لها: "وقع امتداده.. ورحل" سنة 2009، "وَيْكَ.. مٌدّ النّظَرْ!" سنة 2013، "عارية تماما" سنة 2014،

"عارية تماما" هو الإصدار الثالث، إذا، في مسيرة المبدعة السعدية باحدة، وهي بذلك، تعلن وفاءها لفن السرد، وإخلاصها له، لكنها، في الوقت نفسه، تخبرنا بتجاوز مرحلة التقشف اللغوي، والتقتير المعنوي، والسرعة في السرد بتوالي الأفعال، والفجوات والبياضات ونقط الحذف، إلى سرد يحتفل بالتفاصيل قليلا، ويمنح فرصة اعتماد الوصف، والتوسع في القول.
والملاحظ، أيضا، أن المبدعة في اختيار عنوان مجموعتها قد سارت على نهد مجموعتها الأولى "وقع امتداده ورحل"، حيث استلت عنوان الإضمامة من آخر جملة وردت في نصها الأول "كراباكيا" ص5، وبذلك، تعلن وفاءها لنهجها الذي تفرد به في تسمية عناوين أعمالها.
المجموعة تحتفي بالعنف، والقبح، والمشوه و البشاعة. تجعل منها موضوعاتها، تصوغها فنيا لتعيد الاهتمام بها من لدن القارئ الذي تعود عليها في حياته اليومية لدرجة أن فقدت بعدها الصادم دهشتها المقرفة، فيتآلف معها، فالتعود يبلد الإحساس؛ والمبدعة تسعى إلى صدم المتلقي ليعيد النظر فيها متخذا موقف الرفض لها.
كما أن المبدعة اعتمدت على ضمير المتكلم في سرد معظم نصوص المجموعة؛ وهذا الضمير يمنح فرصة للسارد"ة" بالمشاركة في أحداث النصوص، وتكون معرفته موازية أو أقل من معرفة باقي الشخصيات. وهو ما نجده في نص 'امرأة حمراء " ص33، حيث نجد الساردة بفعل نقص في معرفتها بالشخصية المحورية المسكونة أو المحاطة بهالة من الغموض، تتحرك بفعل الفضول إلى الكشف عما غمض لديها، وإشباع فضولها المعرفي حتى تنتقل من النقص إلى الاكتمال. ولم يكن الفضول سوى فخ أوقعها في براثن المرأة الغامضة، وبخاصة لما كشفت بعض أسرارها. وهكذا تحولت إلى وسيلة تستعين بها غريمتها في سفك دماء ضحاياها، لتنتقل بعد معاناة ورفض إلى الأبعد بقتلها للمرأة الحمراء، لكنها لم تتقمص دورها كاملا بفعل التهامها للألسن، وهو ما كانت تنفر منه المرأة، الأمر الذي أدى بالساردة إلى الخرس بفعل اكتظاظ جوفها بالأصوات. لقد كانت محاولة الإزاحة والاحلال فاشلة نظرا لعدم بلوغها الفهم التام للشخصية المزاحة.
فمن أوصل إلينا الحكاية؟ الأكيد أنها الكتابة لا الحكي الشفهي. فهل يعني ذلك انتقالنا من نظام معرفي يرتكز على الكلام إلى نظام معرفي يرتكز على الكتابة؟ هل يعني ذلك انتقالنا من نظام مرتكزه الأساس هو العنف إلى نظام معرفي مرتكزه الأساس هو النظام والقانون، وعنف أقل؟
في نص "الثمن" ص39 تندس الضحية في كومة أزبال هروبا من جلاديها، مما أدى إلى صراع قاتل بينهما، انتهى بمقتل المفترس الأول، صاحب السيارة والكلام المنمق. سالت دماؤه فوق رأسها. فالمقتول كان يعتمد استراتيجية الكلام للإيقاع بضحاياه، يفترس كرامتهن، ويترك الألسن لتلوك سمعتهن، بمعنى، أن نظام الكلام مازال قائما، بكل بشاعته وقبحه. فالضحية كانت قدوة حسنة لغيرها، وما استطاعت الألسن أن تنلها بسوء، لكن، بعد الفضيحة، ستصير موضوع حديث الألسن، تزيد وتضيف دون كلل أو ملل. صحيح أن النص صمت عن النهاية بترك الباب مواربا للقارئ يملأ صمته بتأويل مناسب، لكنه يشير بطرف خفي إلى أن نظام الكلام ينبغي أن يصمت ليفسح المجال لنظام الكتابة الأقل ضررا، يخرس نظام القول بعنفه، لنظام الكتابة الأكثر سموا وتحضرا.
وبناء عليه، نجد إدانة قوية للعنف من لدن المجموعة، رامية، بذلك، إلى بناء مجتمع يسوده السلام عبر قنوات التواصل السلمي البعيد عن التخويف والتخوين والاستغلال. فإفرادها لحيز مهم من صفحاتها للعنف والبشاعة لم يكن بهدف إلى تثمينهما و تنميتهما في المجتمع، بل وضعهما على مشرحة النقد المتبصر للتخلص منهما ومن نتائجهما الكارثية.
المجتمعات المتحضرة قطعت مع العنف، بشكل شبه كلي، بإحلال القانون، وبالتربية على القيم، حتى وإن لم تبلغ المدى الأوسع من السلام، لكنها تخلصت كثيرا من مظاهر العنف اللفظي والمادي.
لذا، نجد أن العنف والبشاعة من سمات المجموعة، لا تخلو أغلبية النصوص منهما، فهي تدور في فلكهما تقبيحا ونقدا. من مثل: "انتقام خرافي ص39"، و"يداي" ص17، "شربت السم" ص27... وتم ذلك بلغة فنية تعتمد الإدهاش بتوظيف الغرائبي، والخرافة، والأسطورة، عبر جسر التفاصيل المهمة دون زوائد.
كما نجد أن المجموعة تطرح سؤال السلطة، والصراع حولها، فمتى كان صراعا بغاية التسلط، اختل الميزان، وصار أحد الأطراف ضحية، كما في نص "كارابيكا" الذي اعتمدت فيه الفتاة، بدافع من الفضول، على الخرافة لتليين موقف حبيبها منها، وظنت أنها أفلحت، بيد أن النتيجة كانت سلبية حيث فقدت عقلها.
وفي نص "انتقام خرافي" نجد العامل يسعى إلى الانتقام من مديره بواسطة الحلم، إذ لم يستطع مواجهته واقعيا، وتسلط المدير أخل بالتوازن النفسي للعامل، ولو اعتمد نهج العدل والتحفيز لكان أفضل. ويمكن توسيع الدائرة لتشمل الدولة ككيان ينبغي أن يرسي دعائم المجتمع المتضامن، بترسيخ قيم المواطنة والعدل والمساواة. فالدولة الظالمة فاسدة، تسير إلى الهاوية لا محالة.
المجموعة تحفز على القراءة والبحث عن أجوبة لكونها تطرح أسئلة، وتتضمن في ثناياها أجوبة محتملة. صيغت نصوصها بلغة سليمة وسلسة وبسيطة دون أن تفقد عمق طرحها، معتمدة البناء المشهدي، وموظفة الميتاسرد، كما في قصة "المحاكمة"، والخرافة والحكاية الأسطورية لصوغ عوالم تحقق المتعة والإدهاش..
تكتب المبدعة السعدية باحدة نصوصها بلغة عربية فصيحة، تتميز بعذوبتها و بدقتها، تيوظف تشبيهات وصور تأتي في شكل صور حكائية
ات رونق خاص، ، وتستعمل متواليات سردية دقيقة وموجزة، ، تفتح أفق التلقي على أبعاد النصوص وبلوغ الهدف المرتجى.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى