نزار حسين راشد - حفل توقيع.. قصة قصيرة

علا اللغط في القاعة، وتداخلت الأصوات في همهمة عالية، كدوي النحل، اعتلت السيدة العجوز المنصة، ودقت الطاولة بيدها، طالبةً الهدوء، فخفتت الأصوات، وساد الصمت فجأة، كان شعرها الأشيب منسدلاً على جانبي رأسها، في بسطتين قصيرتين، يفرقهما خط بادي البياض، يكشف جلدة رأس نظيفة، لم تتكلف عناء الصباغ، رغم اعتنائها بما تبقى من مظهرها، تنورة سوداء أنيقة ، مشرقة اللون، تلف قوامها الممتليء من الأسفل، وبلوزة خمرية بلسان تحت الرقبة، لا تخفي ترهل نهديها الكبيرين، اغتصبت ابتسامة، كان من الصعب تبينها بين كل تلك الغضون التي ترسم ملامح وجهها، الشخصان إلى جانبي يبدو أنهما عجزا عن مقاومة إغراء النميمة، فاستمرا في التهامس، مقربين فم أحدهما من أذن الآخر، انا بدوري لم أستطع مقاومة الإصاخة لما يقولون، في حين واصلت السيدة العجوز إلقاء كلمتها، كانا يكتمان ضحكتيهما وهما يُسران الحديث، ويتبادلان التأكيد على ما يتقاسمانه من النميمة:
- يبدو أن لصديقنا معزّة كبيرة في قلب السيدة العجوز!
ويعلق الآخر:
- هذه بركات اللحس!
- معقول؟
- هذا هو الشيء الوحيد المعقول!
يضربان كفيهما خلسة، ويتبادلان قهقهة مكتومة
السيدة تمضي في الثناء على مجموعة رشيد القصصية، ثم يستلم النقاد المدعوون، مواصلة التعليق.
ويستمر صاحبانا في التلميح والتجريح، الله أعلم كم دفعت لهم؟ هذه بركات المال، ولكن من أين لها بكل هذا المال؟
- إرث يا صديقي، زوجها المرحوم كان رجل أعمال كبير، أمضى عمره مسافراً متنقلاً بين بانكوك، وأوكرانيا، تعرف طبعاً، بانكوك قصر الثقافة، وأوكرانيا حديقتها الخلفية،
يتبادلان الإبتسامات الواسعة تأميناً على كلاميهما، ويواصلان النميمة:
- وهو أنشأ لها هذا المنتدى لتتسلى، وهي لم تُقصّر، استثمرته خير استثمار، كمصيدة للطيور الجميلة التائهة، تنثر لها القنبز الملون، سميح هو آخرهم ، صيدٌ مثالي ، كهل، أعزب، مثقف وكتوم.
- نسيت أفضل مزاياه!
- ماذا؟
- لحّيس!
ويقهقهان من جديد!
في الاستراحة، توجهت نحوهما، وسرعان ما تبينت، أنهما زميلا قلم قديمان، هما بدورهما تعرفا علي، بعد برهة تذكر:
- سمير! بعدك عايش؟ٌ يا رجل، لم أقرأ لك شيئاً منذ سنين!
- تكاليف الحياة يا صديقي، فلم تسنح لي الفرصة، لأذهب لدول الخليج!
ثم خطر لي أن أعرّض بهما، من باب النكاية، وثأراً لصديقنا سميح:
- ثم أنني خفت أن أضطر هناك إلى المص، وخلافه، الشدوذ شيء شائع هناك!
لا يستفزهما كلامي، بل يوقظ فيهما حس الفكاهة:
- ليس على المضطرّ حرج
افترقنا على أحسن ما يكون من الود، وكانت الصدمة بعد يومين من هذا اللقاء، قرأنا جميعاً نعي سميح في الصحف، والتقينا معاً في بيت العزاء، لم يكن هناك متسعٌ للفكاهة، كان الكل متجهّماً وجديّاً، وأعلى أحدهم صوته بطلب المغفرة:
- ادعوا له بالرحمة يا جماعة.
لم أدر إن كانت السيدة قد حضرت في صيوان النساء، وحتى زميلاي سيئا النية، لم يخطرُ لهما أن يسألا، أما أنا فقد ساورني شيء من الفضول، وحاك في نفسي شيء، أيقظه حديثهما السابق، وتساءلت بيني وبين نفسي، هل معقول أنها تزوجته عرفيّاً؟
وعقبت لنفسي:
ممكن ولم لا؟، معذرة إلى ربكم، كلنا نهرب من الخطيئة، إلا ذلك الزوج العاق الذي لم يجد إلا تايلاند، ليرتكب فيها خطاياه!
اتجه الزميلان نحوي، وبادرني أحدهما بالسؤال:
- شيء فيك تغير!
لم أنتبه إلى لحيتك في المنتدى، معقول تحولت إلى شيخ، لازلت أذكر قصيدتك التي قلت فيها، أن مريمنا الفلسطينية لم يساقط عليها الله رطباّ ، ولم يرسل لها فاكهة الصيف والشتاء، كان مجازاً ذكيّاً.
وقاطعته على الفور:
- أستغفر الله العظيم.
- يعني المسألة بجد؟ماذا هل تأثرت بمصطفى محمود؟
- طريق الله مفتوح للجميع يا صديقي.
استعاد صديقي جديته، وشت بذلك تقطيبته المُفكّرة التي احتلت ملامحه فجأة، وأردف:
- تدري والله حتى أنا بفكّر في الدين، يلعن أبو المصاري، ولكن أتدري ما الذي يجعلني أفكر في الدين؟ الموت!
لا أريد أن أدفن هناك، إنها أرض جاحدة، آه لو أمكن أن أدفن في فلسطين، أرض الأنبياء، لو أمكن إلى جانب القبة، من حيث بدأت رحلة الإسراء!
- وما الذي يمنعك ان تبدأ، لماذا تنتظر الموت؟
- أعرف يا صديقي، ولكن لدي اعتراف طويل ، علي أن أبوح به، بيني وبين الله، قبل أن أجرؤ على السجود بين يديه!
كانت مصافحة طويلة دافئة والتقت عيوننا في نظرة طويلة ذات مغزى قبل أن نفترق، وآخر كلامنا، كان الدعاء بالرحمة لسميح!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى