أمل الكردفاني - إلحاد الورد.. التموضع الهش داخل الكينونة

✍في الأفلام المصرية الرومانتيكية وعندما تقبل الفتاة طرح الحب من الشاب العاشق ؛ يصيح بأعلى صوته بأنه يحبها.
تتكرر هذه الثيمة باستمرار كدليل على الفرح بعلاقة وليدة ، أو انتصارا على التوحد مع الذات ، المهم أن هذا الإعلان العالمي للحق في الحب لن يحقق أي نتيجة ملموسة على أرض الواقع ؛ لكنه إلى حد كبير يمثل شيئا ما قابعا وملتصقا بقعر الكينونة.. شيء قد يكون جزءا منها أو منفصلا عنها ، غير أنه في كل الأحوال يمتلك قيمة ما. وعندما نستخدم كلمة قيمة ( أي من التقييم والتثمين) ، فنحن لا نستخدمها في ذات وضعها الطبيعي داخل الجملة ؛ حيث القيمة هنا لا تمثل هدفا للتربح بل هي نفسها الربح... والربح الذي هو في الواقع مجرد إعادة تموضع حيوي داخل باحة الكينونة نفسها.
يعتبر الإعلان هنا انعطافا حادا ؛ وقطعا لسلطة الزمن ، فهو ليس تمردا بل هو في الواقع إزهاق حاسم لتلك السيطرة الشاملة على وقائع السيرورة.
مع ذلك - لا يتنزل ذلك على الأرض- فالحبيب يعود لمنزله وعمله وأكله وشربه وتدخينه وتغوطه وتبوله كما هو معتاد. كل ما يحدث أنه أصبح مشوشا جدا عندما يفعل ذلك.. لقد علق على رقبته كائنا آخر.
إننا عندما نتساءل عن كل إعلاناتنا بمختلف محالها ، فنحن نفعل ذات ما فعله ذاك المحب. لا شيء يمكن أن يخرج من الجمجمة ليتجسد بذاته كما هو. إنما كل إعلاناتنا ليست سوى تشويش متعمد على إرادة الفعل والقوة... وهو التشويش الذي يبحث عنه الغالب من الناس ؛ ليتمكنوا من تجاوز عدمية تتجاور مع حيوية الإعلان داخل الكينونة...
وإذ كان الأمر كذلك فالكينونة بذاتها تمتص نفسها ، لا يعرقلها عن ذلك سوى إلقاؤنا لكتل من الإعلانات المتعددة التي نتمناها شديدة الصلابة لتوقف زحف التآكل الذاتي.
والصلابة لا شيء أكثر من المثابرة على تغيير مسار إرادة القوة في اتجاه آخر أو البقاء في إتجاه واحد على نحو مستقر نسبيا.
لا أحد منا سينتظر هاتفا من الملائكة حين يجوع مثل قصص التوراة ، بل سيمد يده ويسرق ثمرة من بستان إنسان آخر منتهكا إحدى وصايا التوراة العشرة أولا وقبل كل شيء.
ذلك هو ما قر في الكينونة ، تلك المتعرية تماما أمام شهادتها على نفسها رغم الكتل المتساقطة من الإعلانات لتكبح مسرى النهر الجاف.
وكما هو الحال لدى المحب ، سيكون هو الحال عند من يطلق رصاصة في اتجاه من يطرح من داخل جمجمته إعلانه الخاص.
هذه الرصاصة هي الصلابة المطلوبة. في الواقع وبقليل من تفكيك الشذرات سنلفاها صلابة متوهمة... لأنها لا تنخرط في جوهر الإعلان.... إن إعلان الحب والقبلة شيئان منفصلان رغم ارتباطهما النسبي فليسا متلازمين بالضرورة.
في قصتي (لقاء في البنطون) تجرد الحب تماما لينزوي في جوهرانيته ، وكان بذلك إنسحابا من عوالق الصلابة المرجوة ؛ لقد حقق ذلك هزيمة نكراء لدى كل قارئ وانتصارا للبطل. لكن من ذا الذي يحب انتصارا على الكرامة.
في هذه القصة قبع الإعلان في صدفته ، وكانت صلادته في التسليم التام والمطلق غير المشروط. وعلى العكس من ذلك ؛ فالصلادة دون ذلك تعني أن تستل خنجرك وتنحر به كل إعلانات أخرى موازية. وإذا يبدو ذلك عظيما ومجيدا ، فلا مراء في شمولية سيطرته على البشرية.
ومن خلال طوفان التاريخ البشري نالت الإعلانات الإيمانية صلابتها التي أهلتها للمضي قدما بثبات ودمجت حيويتها بالعدمية وهكذا اتسقت مع التاريخ. هذا لا يعني أنها لم تواجه بمحاولات مستمرة للزعزعة تارة من داخلها هي نفسها حيث تعددت تصوراتها بشكل فاحش التناقض وتارة من الفلسفة لكنها كانت تجرف في طريقها كل مقاومة لها إلى أن تتالت عليها الضربات القاصمة في عصري النهضة والتنوير ثم الحداثة ثم عصر صراع الحضارات وانتصار الأمركة عبر التكنولوجيا. هنا بدأت تساؤلات الحقيقة تزيح تلك الإعلانات عن التصاقها التاريخي بالعدمية...وهذا ربما ما قصده نيتشه عندما أعلن موت الإله وظهور الإنسان السوبر.
أصبح الخلود منظورا إليه من خلال إعلانات حيوية أخرى قابعة في الكينونة. الحياة بذاتها تحمل كثافة مضغوطة بحيث تمثل خلودا شعوريا بكل نقطة زمنية عابرة. لم يعد الزمن في ذاته كافيا للتأملات العدمية ، بقدر تبعثر كل خطوات اللحاق بتغذيته حسيا عبر التكنولوجيا التي أعادت رسم الوعي البشري لتتملكه. لكن هذا الانحراف المفصلي ليس وليد براءة محضة ؛ فهو بدوره وليد نزعة تصارعية مادية استخدمت كل أسلحتها لترسيخ إعلاناتها العديدة كمبادئ متجاوزة لأفق الغيب بحيث أضحت هي ذاتها إيمانا في إتجاه معاكس. وإزاء هذه الهزائم الصغيرة أضحى الإيمان يدافع عن نفسه بعد أن كان رأس الحربة.
لم يعد هناك مصطلحان متناقضان هما الإيمان والإلحاد وإنما هناك إيمانان ، إيمان بوجود قوى مطلقة القدرة وإيمان بعدم وجودها. وكما فعل الدين طوال التاريخ استخدم اللادين ذات الأسلحة وهو يسقط في الكينونة كتل الإعلانات وهو يعزز تموضعها بصلادة إرادة القوة. ( الإنسان السوبر وموت الإله).
أما كلا الإيمانين فهما في الواقع لا يملكان بذاتهما قوة خاصة تميز أيهما عن الآخر. إنها إعلانات قابعة في القعر المظلم للكينونة.. ضبابية وغامضة أشد الغموض..هشة وبائسة... كوردة تنبت فوق صفحات الأنهار بلا سيقان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى