سليم مطر - أحفاد طرزان!

الحرية الحقة عندما تكسر قيودك
الداخلية وتعيش ذاتك المخبوئة



ما كنت أحسب أن أعيش حياة شبيهة بحياة بطلي "طرزان" مع اختلاف يسير، كما سترون. كنا مجموعة من ثلاثة رجال وثلاث نسوة، أنا وابني عمي، شارل وتوم، مع زوجاتنا، نقوم بنزهة نهرية في منطقة المستنقعات والنهيرات التي تحيط بنهر الكونغو. " شارل" كان يقوم بدور الدليل، بالإضافة إلى استضافتنا في بيته الكبير؛ لأن إقامته في أفريقيا منذ سنوات طويلة كمندوب تجاري تؤهله أن يكون خبيرا بحياة أفريقيا وخبايا طبيعتها.

أمضينا الصباح نتجول في قاربنا، وعند الظهر هبطنا عند جرف آمن بعيد عن الأدغال الخطرة. ضحكنا كثيرا أثناء استراحتنا حينما أخرجت زوجتي "جين Jane" كتيب رسوم لقصة "طرزان ملك الغابة". في بيتنا نمتلك مخزونا كبيرا من الكتب والمجلات والأفلام والصور التي تتعلق بمغامراته. بل حتى إن اسم التدليل الذي تناديني به زوجتي هو "طرزان". فقد أمضيت طفولتي وصباي وهو بطلي الأكبر. رغم أنه عاش طيلة حياته منذ سن الرضاعة، ربيب القرود بعيدًا عن البشر والحضارة، لكنه مع ذلك امتلك روحا إنسانية متحضرة، وبلغ به ذكاؤه الطبيعي "الموروث" أن تمكن وحده من تعلم لغة أسلافه النبلاء الإنكليز. إنه حقا أسطورة الحقبة الاستعمارية والممثل الأسمى لتفوق الرجل الأوربي بما يحمل من وسامة ورشاقة وشجاعة وذكاء خارق وقدرة على الهيمنة وإخضاع حيوانات الأدغال أفضل بما لا يقاس من الأفارقة المتوحشين. نعم، إنه بلا منازع ملك الأدغال وسيد حيواناتها وسودها.

هنالك أسباب عدة شجعت على تعلقي به، من بينها التطابق العجيب بين اسمينا "جون غريستوك J ohn Greystoke" مع فرق أن جدي لم يكن مثل جده، من كبار اللوردات، بل جنديا أمضى حياته في حروب إمبراطوريتنا التي لم تكن تغرب عنها الشمس. ورثت أنا عنه بيته الذي يشبه متحفا عن الحقبة الاستعمارية بما فيه من حاجات مجلوبة من البلدان التي حارب فيها: أسلحة بدائية وحيوانات محنطة وأنياب فيلة ووحيد القرن، وسلاسل تكبيل العبيد التي لا زالت تحمل دماء متيبسة. بل هناك جمجمة رأس أحد زعماء قبائل الهند المتمردين، ولقى فرعونية وبابلية، بالإضافة إلى صور كثيرة مع القبائل المقهورة.

كنت احلم اني عندما اكبر ساعيش حرا طليقا مثل بطلي ملكا للادغال وسيدا للوحوش، حيوانات وبشر. لكني في شبابي إضطررت ان اتخلى عن احلامي الطرازانية، بعد ان اصبحت مهندسا مختصا بصناعة الساعات. تحولت حياتي بأجمعها الى ساعة عملاقة، كل حركاتها ومكوناتها مقاسة بالثواني، تدور حول نفسها الى ما لا نهاية.

* * *

بعد الغداء قمنا بجولة بمحاذاة الشاطئ على أمل العودة إلى قاربنا بعد ساعات، لكن مع حلول المساء اكتشفنا أننا قد أضعنا درب العودة. ودون أن ندري كنا قد تعمقنا كثيرا في أعماق الغابة، وبدأنا نسمع أصوات الضواري من أسود وفهود وغيرها. حاولنا المستحيل كي نجد المكان الذي تركنا به قاربنا، لكن دون جدوى. إما أننا أضعنا المكان، أو أن أحدا سرق قاربنا. الأنكى من هذا أننا اكتشفنا خلو المنطقة من الموجات الهاتفية واستحالة اتصالنا بمن ينجدنا.

قبل أن يحل الظلام تماما بلغنا باحة مطلة على نهر، لا ندري إن كان نهرنا أو غيره، لأن المنطقة مليئة بالنهيرات والمستنقعات والجزر التابعة لـ"نهر الكونغو". في الوسط فوجئنا بقفص حديدي عملاق أشبه بغرفة كبيرة بعدة أمتار. قال "شارل": إنه من المؤكد من بقايا ميناء صغير مهجور من الحقبة الاستعمارية حينما كانوا يحتجزون فيه الحيوانات والأفارقة بعد صيدهم؛ لإرسالهم أولا إلى الميناء الكبير عند مصب الكونغو على المحيط الأطلسي، ومنه إلى أسواق العبودية وحدائق الحيوان.

قررنا أن نمضي ليلتنا في هذا القفص؛ لأنه أفضل مكان لحمايتنا من الضواري. وفعلا قضينا ساعات هادئة نمنا فيها بعمق رغم الصرخات المتقطعة القادمة من بعيد. عند الفجر استقيظنا فزعين على زئير وحشي يهز الأرض والقفص، حينئذ فتحنا أعيننا وشاهدنا ما لا يخطر على البال أبدا:

كنا محاطين من جميع النواحي بعشرات الأسود والفهود والضباع والقرود والقطط الوحشية وغيرها، تحوم حولنا وتكشر عن أنيابها وتضرب بمخالبها الحديد. وقد اشتعل غضبها لعجزها عن بلوغنا. من حسن حظنا أن "شارلي" ما نسي إنزال الحديدة التي تقفل الباب.

هكذا نحن أحفاد طرزان وجدنا أنفسنا في قفص العبيد والحيوانات، بينما الضواري تتفرج علينا وتتمنى أن تنهشنا. المشكلة العاجلة التي واجهتنا، هي كيف نتدبر طعامنا، حتى تصلنا النجدة. ولكن من يعلم بنا، فنحن لم نسجل في فندق أو شركة سياحية، فحتى مؤسسة "شارلي" في إجازة طيلة الصيف.

أمضينا الأيام الأُوَل صابرين جوعا على أمل أن يكتشف وجودنا أحد ما. الحيوانات اللعينة لم تكف عن التزايد حولنا وكأننا فرجة واستعراض مشهور في أنحاء الأدغال. حتى التماسيح زحفت الينا من المستنقعات. بل إن بعضها وخصوصا القرود والسناجب راحت قصدا تتبول في قفصنا وكأنها تتشفى بنا، نحن أحفاد سادتها.

أشباح الموت جوعا وعطشا بدأت تطوف حولنا وتزيد رعبنا رعبا. كنت أستغرب صامتا أن زوجتي "جين" الصموتة الوقورة، رغم بؤس وضعنا إلا أنها ظلت مستمرة بمطالعة "طرزان"، وكأنها تبحث فيه عن خلاص ما. وإذا بها ذات صباح تنهض واقفة وهي تقاوم بإصرار ضعفها، ثم تشرع بإطلاق حشرجات يمكن أن يفهم منها أنها تريد أن تقلد صرخة طرزان الشهيرة "آوووه ه ه ..." التي كان ينادي بها حيوانات غابته. ثم راحت بشكل مرثي تقدم عرضا تهريجيا أمام الحيوانات، من حركات بهلوانية وأصوات مضحكة، وهي تلوح بكتاب طرزان. لكن رد فعل الحيوانات كان مزيجا من عدم الاهتمام والغضب.

ظننا أنها تعاني من هلوسات الجنون، فتركناها دون اهتمام. رغم إنهاك الجوع والمرض إلا أنها لم تيأس واستمرت طيلة اليوم بتهريجها ما استطاعت. أمام دهشتنا، بالتدريج وقبل حلول المساء، راحت تصدر من الحيوانات وخصوصا الصغيرة ردود فعل مرحبة وهي تحاكي "جين" بحركاتها وأصواتها، كأنها تسخر منها.

لا ندري كيف حصل الأمر، لكننا انتبهنا الى صرخة فرح "جين" وهي تلتهم بشره موزة مسحوقة ألقاها إليها أحد صغار القرود.

* * *

هكذا شاءت الأقدار أن نمضي حياتنا في القفص، ربما أشهرا أو أعواما، لأن تشابه المواسم بالشمس والمطر، وانقطاعنا عن مجريات الحياة، أفقدنا حس الزمن. تعودت الحيوانات أن تلقي إلينا بعضا من نتف طعامها لقاء قيامنا بالترفيه عنها بمختلف الحركات والأصوات التهريجية. كما تعودنا على أكل اللحم النيء الذي تلقيه إلينا الضواري. رحنا نتبارى فيما بيننا ونتفنن بتقليد أصواتها من أجل تسليتها أكثر، كي نحصل على عطاياها. بل إن بعض الفيلة، وهي تشاهد احمرارنا وتعرقنا أثناء ساعات الظهيرة، كانت تجلب الماء بخراطيمها من النهر وترشه علينا.

ومن الغرائب، ذلك التغيير الذي حدث في شخصية زوجتي"جين". كأن خطر الموت وتخلصنا الاجباري من حياة المدنية، خلع عنها قناعها المعتاد لتظهر تحته شخصيتها الحقيقية المخبوئة، شخصية الأم الحكيمة الجبارة. هكذا فجأة ودون أي اتفاق، اصبحت هي زعيمتنا ومرشدتنا والمتحكمة بسلوكنا في حياتنا الجديدة.

بعد أن صادقتنا الحيوانات وألفت لمساتنا ومداعباتنا لها، قمنا بعدة محاولات فاشلة للخروج من قفصنا. لكننا ما أن نفتح الباب ونضع قدما خارجه حتي تثور ثائرتها وتشرع بالصراخ والهجوم علينا. وفي إحدى المرات كاد فهد ينهش ذراع أحدنا. وأخيرا اقتنعنا بنتيجة مفادها، أن الحيوانات تأنس بنا وتأمن لنا ما دمنا تحت سيطرتها ونلبي رغبتها بالتهريج والتذلل. لا شك أنها المرة الأولى في تاريخها الحيواني تحصل على مثل هذه الفرصة بأن يكون سادتها البشر في القفص وهي تتفرج وتعطف عليهم. إنها تدرك بسليقتها أن حريتنا تعني عبوديتها لنا، سلما أو حربا.

* * *

ان الحقبة الاولى التي عشناها كانت حقا حقبة رعب وعذاب، اشبه بحالة مخاض، لكن ليس خروجا من رحم الام وميلاد في حياة، بل العكس، خروج من التحضر وعودة لرحم الام الطبيعة البدئية الاصلية. فنحن لم نتعر من ثيابنا فحسب، بل من تاريخ آلاف الاعوام من المدنية. ها نحن وحيدون نواجه الحياة بدون تلك الشبكة الهائلة من العلاقات والمؤسسات والجيوش والتراتبات والآلات والقوانين والطقوس التي يستحيل التنفس خارجها. ان هذا القفص الحديدي هو الشي الوحيد الذي ورثناه من اسلافنا، وبفضله نمارس حريتنا بأن نكون عبيدا لذواتنا الوحشية المخبوئة.

هكذا خضعنا للأمر الواقع وتطبعنا على حياتنا الجديدة. بل رحنا نحس بلذة وحاجة إلى التهريج، إذ ارتبط في نفوسنا بمشاعر أمان وشبع. ثمة نسمات من الحرية والخفة كانت تداعب أرواحنا ونحن نتخلى عن طقوس الحضارة وتعقيدات اللغة ومتاهات الأفكار وقيود المجاملات والتقاليد. اما ثيابنا فهي التي تخلت عنا، لانها اهترأت. بالكاد ابقينا على اجزاء منها كغطاء من لهيب الشمس. دون تفكير وجدنا انفسنا نتخلى عن كل ما نحمل معنا من وثائق وساعات وهواتف نقالة، لقاء بعض الثمار وقطع اللحم. اولنا "جين" التي رمت هاتفها الى القردة فحصلت على جوزة هند ورمانتين. اعقبها "توم" الذي رمى جوازه الى لبوة فحصل على فخذ غزالة. خلال اسابيع تخلصنا من نقودنا وهوياتنا الرسمية والمصرفية وجوازاتنا، واخيرا محفظاتنا الفارغة.

تعودنا مثل القرود أن نلتقط الحشرات من أبدان بعضنا البعض، ونغتسل بالمطر، وصنعنا ما يغطي اسفلنا من أعشاب وأوراق. عند الغضب والخصام بيننا نتصارخ نحن الرجال مثل الأسود والفهود، ونساءنا مثل القرود، ونكشر عن أنيابنا ونهدد بمخالبنا.

بلغ بنا الأمر قبل العثور علينا، أننا كنا قد نسينا كلام البشر وتعودنا على التخاطب بأصوات الحيوانات وضجيج الطبيعة من ريح ورعد ومطر وخرير النهر، حتى إننا تقريبا نجحنا دون قصد باصطناع لغة جديدة، كلماتها من أصوات الحيوانات والطبيعة.

شاءت الصدف أن يكون "كتاب طرزان" هو الوحيد الذي كنا قد جلبناه معنا. لهذا مع الزمن أصبح أشبه بكتابنا المقدس، والمصدر الوحيد الذي يذكرنا بتاريخنا وأمجادنا الغابرة. فكنا نجتهد كي نحافظ عليه من التمزق والبلل والتلف وتجنب تقريبه من الحيوانات لئلا تسرقه منا. في كل يوم يكون أحدنا مسؤولا عن حمايته وحق معاينته والتمتع بصوره، بل واحتضانه وتقبيله والصلاة إليه. حتى إن "ماري" زوجة "توم" وهي رسامة، فاجأتنا بصنع تمثال إنسان من الطين بحجم الذراع، قالت: إنه "طرزان"، وشرعت بتراتيل تشبه بقبقة الطيور وهي تهز برأسها وتركع أمامه تبجيلا.

ذات يوم وجدنا انفسنا نجلس وراء"جين" خاشعين وهي تأمّنا بصلوات تعبد لتمثال إلهنا الجديد، ونرتل معها بما شئنا من الأصوات والأنغام، ونحوم حوله برقصات متنوعة حسب المناخ والمزاج.


* * *


رغم تطبعنا على حياتنا الغريبة هذه، إلا أننا لم نتخلَّ عن حلم باهت بالخلاص، يرقد في أعماقنا دون أن يزعجنا. لا بد أن يأتي اليوم الذي سيعثرون فيه علينا وينقذوننا من حياتنا الغريبة التي طال أمدها.

أتى اليوم الذي رآنا فيه أحد الصيادين حيث كان قد هبط صدفة وتخطى الحرش الذي يحجبنا عن النهير. وقد فزع هاربا وهو يشاهدنا في قفصنا محاطين بالضواري. وبعد بضعة ساعات إذا بشاحنة محصنة خاصة بمثل هذه الحالات، أطلق منها جنديان إفريقيان العيارات الصوتية لطرد الحيوانات، وهبطا لأخذنا. في أول الأمر أحسسنا ببعض الفرح وتركنا أنفسنا مثل أطفال مطيعين نقاد صامتين حتى الشاحنة. هناك فوجئنا برجل ذي ملامح إنكليزية وأناقة دبلوماسية يتقدم منا قائلا: إنه قنصل بلادنا، وسعيد بتحريرنا من ورطتنا. قال أنهم بعد اكتشاف غيابنا، قد بحثوا عنا في كل مكان حتى يئسوا، وظنوا أن الحيوانات قد التهمتنا كما يحصل كثيرا.

اثناء ذلك كان القنصل يقترب منا ويبدأ بمصافحتنا. شعرت بغثيان ورجفان وأنا أشم رائحة الكولونيا ودخان غليونه. يبدو أن أصحابي وخصوصا النساء كان وضعهم أسوأ. ثمة لهيب اندلع في بطني وانتشر في كياني وتمركز في رأسي. حينما امتد كفه لمصافحتي، ودون إدراك مني، وجدت نفسي أنقض عليها وأعضها وأنا أطلق صرخات وحشية، وأنهال بمخالبي نهشا لوجهه الحليق الأحمر الناعم. فصُدم الجنود وانقضوا عليّ لإبعادي، وإذا برفاقي دون أي اتفاق وتفكير، ينقضون عليهم في آن واحد عضا ورفسا ونهشا، واستولينا على بنادقهم ورحنا نضربها بالحاجز حتى تكسرت. في هذه الأثناء أصاب الفزع السائق وبدأ يتحرك بالشاحنة للهرب، فما كان منا إلا أن قفزنا منها ونحن نهدد بصرخات الأدغال. وحينما ابتعدت الشاحنة شرعنا جميعنا سوية نطلق صرخة طرزان الشهيرة "آووووو..آ ..آ .. ه ه ه ..."

دون أي كلام وجدنا أنفسنا نعود إلى قفصنا ونقفله علينا، بانتظار أن يعود إلينا سادتنا.

يبدو أن هذه الحادثة وهرب الجنود والقنصل، قد أشاع خبرنا بين سكان المنطقة، وأن السلطات والسفارة قد قرروا تركنا لحالنا. بعدها، بدأت بين حين وآخر، تزورنا جماعات من الأفارقة للتفرج علينا بعد طردهم الحيوانات بالمشاعل والإطلاقات. يحدقون بنا بمزيج من الدهشة والمتعة والأسف. ما أن يغادروا حتى تعود الحيوانات.

هكذا تعاظمت فرحتنا باشتراك أحفاد عبيدنا بالفرجة علينا. في هذا القفص الحديدي وجدنا حريتنا الحقيقية. ليس هناك أحلى من أن تكون عبدا للغابات ومهرجا للحيوانات وللأفارقة، وهذا اختلافنا "البسيط "عن جدنا "طرزان" ملك الغابة وسيد الوحوش والسود.

كاتب عراقي، جنيف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى