عادل الاسطة - الذهاب إلى هناك... الذهاب إلى داخاو

في اكتوبر من العام 1990 سجلت في رحلة إلى مدينة ميونيخ . صرت منذ بداية الشهر وحيدا ، فقد افترقت عن العائلة وقررت أن أتابع رحلة الدراسة دونها . ماذا أفعل في نهاية الأسبوع ؟
في ألمانيا تعلمت أن أعيش كما يعيش الطلبة الألمان . الاقتصاد في النفقة نصف العيش ، وبدلا من أن أسافر إلى ميونيخ في القطار ب 120 ماركا تساوي 60 يورو ، سافرت في الباص مع كبار السن الذين يسافرون في رحلات جماعية ، ودفعت 25 ماركا تساوي 13 يورو .
جلست في المقعد الأول إلى جانب رجل سبعيني استغرب أن أكون وحيدا بلا أنثى ، وانسجمنا معا وأتينا على معسكرات التعذيب فأخبرني أن الانجليز كانوا أول من أقامها ، ولكن ألمانيا انهزمت ، فنسي الناس الانجليز وتذكروا الألمان .
في ميونيخ وجدتني استقل القطار إلى داخاو لأشاهد أحد معسكرات الإبادة .
في تلك الفترة كنت أقرأ الروايات الفلسطينية والصهيونية وكانت معسكرات الإبادة تحضر فيها.
قبل أن أسافر إلى ألمانيا في 1987 قرأت بعض الأدبيات التي تعالج الأدب الصهيوني وأهمها كتاب كنفاني "في الأدب الصهيوني " وبعض كتب صدرت في مصر ، وقرأت ما ترجم من الأدب العبري إلى العربية ، فقد بدأت حركة الترجمة في فلسطين تنشط ، ونشطت أيضا في مجلة "شؤون فلسطينية" و"الكرمل"التي صدرت في المنفى ، وفي مجلة لقاء/ مفجاش وأسهم فيها محمد حمزة غنايم وسلمان ناطور وآخرون.
والحقيقة أنني بدأت أقرأ الأدب العبري المترجم منذ 1972 وكانت أول رواية قرأتها هي رواية يغآل ليب "والله يا أمي إني أكره الحرب" وقد ترجمها لطفي مشعور ، وهي أول رواية ترجمت من العبرية وتصور حرب حزيران 1967 .
من "عائد إلى حيفا " بدأت حكاية الضحية التي تحولت إلى جلاد ، وعززها سطر محمود درويش في "مديح الظل العالي "1982 :
"ضحية قتلت ضحيتها وصارت لي هويتها".
في ألمانيا قرأت روايةناصر الدين النشاشيبي "حبات البرتقال " 1964 فقادتني إلى داخاو . نعم إن رواية النشاشيبي التي كتبت عنها في رسالة الدكتوراه هي التي دفعتني لزيارة معسكر الإبادة ، وقد كتبت عن تلك الزيارة في روايتي "تداعيات ضمير المخاطب "1993 .
قادتني رواية كنفاني "عائد إلى حيفا " وكتابه "في الأدب الصهيوني "إلى روايات صهيونية منها رواية (آرثر كوستلر) "لصوص في الليل" وروايتا (ليون اوريس)"اكسودس"و "الحاج " .
وأنا أقرأ "اكسودس "التفت إلى الاسم (دوف) و (دوف) في رواية كنفاني هو الفلسطيني خلدون الذي تهود وصار يحمل الفكر الصهيوني ، وفي "اكسودس"قرأت عن معسكرات الإبادة والبطولة المتخيلة لليهود في وارسو ، وفتح كتاب كنفاني ذهني إلى تصور الصهيونية لليهودي المتفوق وهو ما دحضه غسان .
صارت معاناة اليهود موضوعا يعنيني لأمرين ؛ الأول أن جلاد اليوم هو ضحية الأمس ، والثاني يخص دراستي التي اعتمدت فيها على منهج المرايا ؛ مرايا الذات والآخر من منظور الذات والآخر ، وكان اليهود في الرواية الفلسطينية هم الموضوع . كيف تصورهم أدباؤنا ، وهذا دفعني لأن أقرأ تصورهم هم في أدبهم لذاتهم .
ما سبق حثني على قراءة الأدب العبري المترجم إلى الألمانية والانجليزية والعربية ، وعن الأدب الصهيوني ، وعن الدراسات التي أنجزت حول صورة العربي في الأدب العبري ؛ بالعربية والانجليزية.
من كتاب غانم مزعل إلى كتاب ريزا دومب إلى كتاب جيلا رامراس راوخ ، والكتابان الأخيران نقلا إلى العربية .
في مكتبتي الآن نماذج لا بأس بها من الأدب العبري المترجم إلى الألمانية والانجليزية والعربية .
في نهاية سبعينيات القرن الماضي لفت نظري طبيب وكالة الغوث شوكت زيد إلى قصة (ا.ب.يهوشع) "مقابل الغابات " وحثني على ضرورة قراءة الأدب العبري ، وكان هو يقرؤه بالانجليزية .
لم أكتف في ألمانيا بالبحث عن الأدب العبري المترجم ، ولقد أخذت أنظر في كتابات يهود حصلوا على جائزة نوبل . هكذا قرأت "الفاسق " ل(اسحق. ب.سنجر ) وقرأت له سيرته "طفولة في وارسو" ومرة شاهدت وبربارة سايدل طالبة الاستشراق - وليس بربارة هوفمان- فيلما عن رواية (سنجر) "أعداء قصة حب ما" ومن الفيلم تعرفت إلى ملاحقة النازيين اليهود وأشياء أخرى .
وغالبا ما ألتفت ، وأنا أتابع أخبار جائزة نوبل ، إلى موضوعات الحاصلين عليها ، وإن كانوا يهودا فإن الكتابة عن الهولوكست تكون في صلب الموضوعات .
لماذا هذه التداعيات؟
كان سميح القاسم في العام 2011 كتب الجزء الثالث من عمل نثري بدأه في 1977 بحكاية اوتوبيوغرافية وأكمله بقصة طويلة وأتمه ب"ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يوميا " وأتى في الأخيرة على زيارته معسكر (بوخنفالد) وصور كوابيس يهود نجوا من المحرقة وجاؤوا إلى حيفا والكرمل وأقام بطله مأمون علاقة مع ابنة إحدى الناجيات ، وبعد سنوات قليلة كتب ربعي المدهون روايته "مصائر " وصور فيها حياة بعض الناجين من معسكرات الإبادة والكوابيس التي ظلوا يعانون منها بعد سنين طويلة حتى وهم في اللد في دولتهم .
في الأشهر الأخيرة قرأت عملين يذهبان إلى هناك...إلى بولندا ، ويكتبان عن حياة اليهود في أوروبا ؛ في أحيائهم وفي معسكرات الإبادة ، كما لم يكتب من قبل إلا في روايات كتبها يهود مؤيدون للصهيونية ، وهم كثر ، أو معادون لها ،وهم قلة ، كما في رواية( يوري كوليسنيكوف )"أرض الميعاد " التي صدرت في 1979 عن "دار التقدم " في موسكو من ترجمة أبو بكر يوسف ، وهذه الرواية وأمثالها اعتمد عليها روائيون فلسطينيون في رواياتهم لدحض الأفكار الصهيونية مثل محمود شاهين .
والروايتان الأخيرتان اللتان قرأتهما هما "بلد المنحوس"لسهيل كيوان و"أولاد الغيتو 2:نجمة البحر "لالياس خوري .
يتتبع كيوان شخصيات يهودية هاجرت من بولندا إلى فلسطين ، ويكتب عن حياتها وحياة اليهود هناك كتابة مفصلة لم نعهدها في أية رواية فلسطينية من قبل ، ويفعل الشيء ذاته الياس خوري الذي سافر بطل روايته في رحلة إلى وارسو وزار (اوشفيتس ) وتجول فيه وزار (ماريك اديلمان ) أحد ابطال انتفاضة وارسو الذين بقوا هناك ورفض الهجرة إلى فلسطين فتجاهلته دولة إسرائيل وأنكرت بطولته .
في رواية الياس التي تتكون من أربعة أقسام رئيسة عنوان خصص للكتابة عن اليهود في بولندا ويغطي 100 صفحة تقريبا من صفحات الرواية ال474 .
والسؤال هو : لماذا الذهاب إلى هناك ؟ ولماذا يكتب روائيونا عن (الهولوكست) ؟
هل أجبت عن السؤال في بداية المقال؟
أنهي روايتي "تداعيات ضمير المخاطب " بالأسطر الآتية:
"هذا العالم مهزلة يقولون إنهم كانوا هناك ضحايا . ضحايا وجلادون؟ لا يمكن للمرء أن يصدق هذا. ضحاياجلادون .ضحايا هناك جلادون هنا وهناك. يصدق المرء أو لا يصدق! "
وكلامي بالتأكيد خارج من معطف روايات النشاشيبي وكنفاني وسطر محمود درويش ومن تجربة شخصية أيضا وتجربة شعبنا كله .
في "أولاد الغيتو2 : نجمة البحر " يزور ابن غيتو اللد آدم غيتو وارسو ويزور يهوديا عاش هناك في فترة اجتياح بولندا ويصغي الفلسطيني إليه ويعقب :
"كيف يروي ابن غيتو اللد لمن جاء باحثا عن غيتو وارسو في ذاكرة طبيب بولندي (- يهودي -) ، كي يداوي شروخ روحه؟ وماذا يقول؟ ولماذا يشعر آدم بأن حنجرة اديلمان الملفوفة بالأسى تتكلم من خلاله ؟"
هل نبالغ؟



الجمعة والسبت 8و9 آذار 2019



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى