صلاح زنكَنـة - التماثيـــل

[ 1 ]
التمثال
كلما أمرُّ به أبصقُ عليه ، لا ادري لم أكن له كل هذه الكراهية .. هو محض تمثال لا غير .
ليلة البارحة كنتُ حزيناً ومهموماً حين مررتُ به وبصقتُ عليه كالعادة ، بعد هنيهة رأيته يتحرك وينزل من قاعدته الكونكريتية ويمشي خلفي .. ظننت أن يصري قد خانني أو أصبت بهلوسة بصرية لكنني تأكدت بعد أن دققت النظر من خلو مكانه حيث ترك منصته العالية وراح يمشي خلفي كرجل آلي .
من شدة فزعي وهلعي رحتُ أسرع في المشي بل رحت أهرول وأتلفت يمنة ويسرة فراح هو الآخر يهرول متتبعاً خطواتي .. حين دخلت البيت تنفست الصعداء بعد ان اغلقت الباب غلقاً محكماً وأرتميت على اقرب اريكة وأنا أتصبب عرقاً غزيراً .. بعد لحظات قليلة سمعت طرقاً على الباب .. حذرت زوجتي .
- لا تفتحي .
- لا افتحُ ماذا ؟
سمعت طرقاً أشد .. قلت :
- الباب ! ألا تسمعين الطرق ؟ ولكن إياكِ ان تفتحيه .
بيد انها فتحته .. يا للهول كان واقفاً هناك .
- لا أحد .. لا أحد
رددت زوجتي ودخل هو مطوقاً خصرها بذراعه الحجري المفتول أردفت بغنج :
- سوف أنام .
دلفا إلى غرفة النوم معاً واضطجعا على السرير ولم استطع أن أفعل شيئاً . وفي الصباح أنجبت زوجتي منه تمثالاً صغيراً . حين امتعضت واعترضت طردني من البيت ، موصداً الباب في وجهي " أذهب إلى الجحيم " .
ذهبت إلى المنصة .. منصة التمثال التي ما زالت خالية .. اعتليت القاعدة الكونكريتية وتسمرت كما التمثال مبرزاً صدري ، رافعاً رأسي .
مر بي رجلُ وبصق عليّ .. نزلت وتبعته .. الرجل من شدة ذعره راح يهرول فلاحقته مهرولاً خلفه حتى اقتحمت بيته وواقعت زوجته التي أنجبت مني تمثالاً صغيراً .. يا لسعادتي وأنا أتفرج عليه وهو يلهو مع أقرانه التماثيل في الشارع .
[ 2 ]
التماثيل
منذ صغري وأنا اكره التماثيل وأبغضها .. هبل واللات والعزى تم تحطيمها على أيدي المسلمين الأوائل ، وهذه التماثيل التي تقف شامخة في الساحات ومفترقات الشوارع والتي تثير قرفي واستيائي ، سوف أحطمها بيدي هاتين ، هذا ما آليت عليه .. حملت معولي وذهبت إلى تمثال السعدون وما أن رفعت المعول لأقتلع له رأسه بضربة واحدة حتى وجدته يعدل سدارته ويهمس بصوت أجش " أغرب عن وجهي ايها الأحمق والا هشمت رأسك " جفلت وذعرت أشد الذعر ورجعت القهقرى وأنا بين الشك واليقين .
مررت بشارع الرشيد شارد الذهن ورأيت تمثال الرصافي وكأنه يهزأ بي .. قلت لأعيد الكرة معه .. أقتربت منه بتؤدة وقبل أن امد يدي لمعولي صفعني صفعة ظل دويها يتلاطم في أذني لساعات ، وهو يشتمني بصوته الجهوري" ابن الزانية ".
انزويت في احد المقاهي لأستعيد بعضاً من سكينتي وأخفض من غيظي ، وفي ساعة متأخرة من الليل قفلت راجعاً إلى البيت . وفي طريقي واجهت تمثال جلالة الملك فيصل الأول ممتطياً فرسه فقررت للمرة الأخيرة ان أباغته وأنال منه بمعولي الذي خبأته تحت إبطي ، وما أن صرت قبالته حتى راحت سنابك فرسه تسحق عظامي والملك يصرخ خلفي : أيها العميل البريطاني " .
هكذا باءت محاولاتي كلها بالفشل وامتلأت حقداً وغضباً على التماثيل ، وصممت أن أنتقم منهم شر انتقام بعد أن توصلت إلى فكرة جهنمية " أن أفجرهم بالديناميت في آن واحد " .
خلال أسبوعين استطعت ان الغم جميع التماثيل وحددت ساعة لتفجيرها وحين حانت الساعة ضغطت على الزر الإلكتروني الذي يتحكم بالألغام المزروعة ، دوى انفجار كبير .. شعرت بالأسى والخذلان لأن الانفجار حدث في بيتنا الذي تهاوى حجراً فوق حجر .. أما التماثيل فقد رأيتهم يقبلون نحوي وكل واحد منهم يحمل بيده سوطاً وراحوا يجلدونني دون رحمة .. دون رحمة .
[ 3 ]
محنة التماثيل
في أيما مكان .. في الشوارع ، أو في الأزقة ، أو في الساحات بامكانك أن تشاهد فرق إبادة التماثيل الي تعمل تحت أمرتي حاملة معاولها وفؤوسها وهي تحطم التماثيل اللعينة وتمزق أوصالها شر تمزيق لتسيل منها الدم الأسود الفاحم كما القار ولك أن تتفرج على بعض التماثيل تفر مذعورة ، تهرول وتلهث لتختبئ خلف الأشجار أو البنايات المهجورة ، او في البالوعات خوفاً من بطش فرق الإبادة .
لكم أشعر بالزهو وأنا اشرف على تحطيم التماثيل المتعجرفة وابادتها ،اليوم وبعد أن أنتهيت من آخر تمثال في المدينة عدت مساءً إلى البيت منشرحاً ، حيث أتممت مهمتي على أكمل وجه .
وفي البيت فوجئت بابني الصغير وهو يخبئ تمثالاً صغيراً في دولابه .. صرخت به :
- ما هذا ؟
قال بتوسل : تمثال .
- شيء جميل .. أنا أطارد التماثيل وأحطمها وأنت تخبئ واحداً في بيتي.
- لكنه صغير يا ابي .. صغير جداً ولا ذنب له .
- كيف لا ذنب له ؟ التماثيل سبب بلوانا .. التماثيل .. قاطعني
- ليس هذا .. أنه لم يفعل شيئاً .. أنه اليف وودود .. أنظر إليه يا ابي .. نظرت إليه .. كان تمثالاً صغيراً كسيراً تترقرق الدموع الزئبقية في عينيه الزجاجيتين المبحلقتين وهو يرتعد .
تحت إلحاح ابني لحماية هذا التمثال الصغير المسكين قررت الإبقاء عليه وأنا في حيرة من أمري ما بين الواجب والضمير.
في ساعة متأخرة من الليل حوطت فرق إبادة التماثيل – والتي تعمل تحت أمرتي – بيتي وألقت القبض عليّ وعلى التمثال ، واتهمتني بالخيانة العظمى وأصدرت قراراً بتحنيطي ووضعي فوق منصة في الساحة العامة لأكون عبرة لمن لم يعتبر .
[ 4 ]
مجرد تمثال .. مجرد تمثال
ها أنذا وحيد ، حزين ، مهمل ، مستوحش ، يكسوني الغبار والدخان والذروق .
هاهم رعيتي يمرون بي ولا يأبهون .. لا أحد يتوقف هنيهة ، لا أحد يعير لي ادنى اهتمام ، حتى الاطفال باتوا يسخرون من وقفتي الأزلية.
أنا لست مجرد تمثال برونزي يزين ساحة المدينة .. أنا رمز شموخهم وكرامتهم وكبريائهم . لكن لا أحد يتذكر أمجادي سواي .
ماذا حلَّ بهؤلاء القوم ؟ لم يتنكرون لي ؟ كانوا فيما مضى يرتعدون من طلعتي .. يغمى عليهم خشية غضبي .. يتقافزون أمامي مثل القردة .. ينحرون القرابين .. يقبلون كفي ، ويتغنون بصولجاني ، ويدبجون القصائد حباً وولاء ، ويسمون الأشياء باسمي أنا ولي نعمتهم . والآن لا احد يهاب سلطان وجبروتي .
الجنود يرمونني بالطماطم ، والسكارى يهشمون قنانيهم الفارغة على جذعي . والكلاب ، حتى الكلاب تتبول عند قدمي .
قلتُ لأعيد الامور إلى نصابها ما دمت أنا التمثال الأعظم قبل أن يتمادوا ويبيعونني في المزاد ، أو يقذفونني في النهر ، أو على المزبلة .
نزلت من منصتي يتبعني نفر من التماثيل أشباهي وحراسي ورحت أتفقد رعيتي في كل مكان
رعيتي لا يصفقون ، رعيتي لا يهتفون .. رعيتي لا يخافون .. يا للخيبة .. رعيتي من حجر .. رعيتي من برونز .. رعيتي من رخام .. رعيتي من نحاس .
أدركت أن روحي العظيمة حلت في أرواحهم الضالة ها أنا ذا مجرد تمثال هرم .. ها هم مجرد تماثيل بلهاء .
[ 5 ]
قيامة التماثيل
قد قامت التماثيل .. التماثيل قد قامت .. التماثيل الشعراء والوزراء والعلماء .. التماثيل الساسة والمحاربون والفنانون . التماثيل ، تماثيلنا ، قامت من رقدتها .
ها هي تتنزه في الحدائق .. تتبضع في الأسواق .. تقود المركبات في الشوارع .. ها هي تعلم أبناءنا في المدارس .. تعالج مرضانا في المستشفيات ، وترتل الآيات في المساجد .
التماثيل قضاة .. التماثيل جباة .. التماثيل حماة البلاد .. التماثيل أخوتنا .. التماثيل أبناء جلدتنا .. التماثيل نحن .. وديعون .. أليفون .. مسالمون .. نشقى ونلهو ولا نتذمر .. قلوبنا حجر .. رؤوسنا حجر .. أسماؤنا حجر .. أشياؤنا حجر .. أحلامنا حجارة . مبارك هو الحجر .. مباركة هي التماثيل لأنها مجبولة من الحجر .. مباركون نحن لأننا شهدنا قيامة التماثيل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى