زينة المدوري - الصورة.. قصة قصيرة

حقيبة أقلام ملونة، تلك كانت هدية أبي الأولى عندما عاد من السفر من القطر الليبي الشقيق . كنت بسن ست سنوات تقريبا . أجلسني بجانبه واعطاني قرطاس السكر وقال لي: ارسمي عليه ما شئت ، بينما راح يصب الشاي لجدتي. لم أشأ أن أفتح علبة الأقلام الملونة خوفا من أن يفتكها مني ابن عمي المدلل الذي لا يُردّ له طلب ولا ترفض له حاجة ، غير أن رغبتي في الرسم كانت جامحة وربما كان أبي أول من اكتشف موهبتي حين كنت طفلة تتعثّر في الكلام.
كنت دائما أميل نحو رسم بيت ، وأضع عليه قفلا ضخما بحجم الباب ، ثم أرسم شجرة وشمسا تشرق من الغرب وحديقة كبيرة و هراوة وكلبا. توْقي للإستقلالية آنذاك وأن يكون لنا منزل مستقل عن أعمامي وجدتي هو ما كان يسيطر على عقلي الباطني .لم أجرّب أن أرسم وجها ، خوف ما يشعرني بالرهبة من رسم الوجوه .
مددت يدي إلى الكانون أمام أبي لآخذ قطعة فحم فانقلب براد الشاي على يدي وسلخ أصابعي وفاحت رائحة شوائها . حملني أبي وركض إلى صندوق صغير وسكب عليّ زيتا عرفت حين كبرت أنه زيت حبّات القضّوم المعصور يُستعمل لمداواة الحروق ، ثم ربط يدي بخرقة وظل طوال الليل ينفخ عليها باستمرار . مازلت أحمل تلك الندبة بيدي وكلما رأيتها تذكرت حُرقة أبي ولوعته وأنا ابكي.
تلك الحادثة لم تثنني عن رغبتي في الرسم أخذت قطعة فحمٍ وبدأت أرسم وجه أبي على قرطاس السّكر رسمت خطا مغلقا على شكل بيضة جعلت بأعلاه حاجبين غليظين وعينين كبيرتين وأنفا قصيرا وفما . لم أرسم له شَعرا أحببته أصلع وبلا شاربين أيضا لأنهما يذكرانني بشوارب عمي حين يمسكهما وهو يستنطقني عن البيضة الناقصة في قنّ الدجاج ، لم أرسم له أذنين أيضا هكذا تعمدت أن يكون أصمّا، أبي ما كان يسمع شكواي حين أبثه ظلم أمي وجدتي لأنهما يميزان أخي عنا نحن البنات...
أعطيت الصورة لأبي ضحك كثيرا وعلّقها في غرفتنا الوحيدة حيث ينام أبي وأمي وأخواتي السبعة جعلها إلى جوار جبة الصلاة بعد أن ألصقها بمسامير على قطعة من خشب...
مات أبي وألقت أمي اللوحة مع ما زاد عن حاجتنا من أثاث ، والجبة أتى عليها حين من الدهر وانتقلت إلى العمل في تنظيف المطبخ . انفطر قلبي يا أبي لرمي صورتي الأولى لك بأناملي المحروقة التي رسمتها بألوان الفحم، وتحطّم قلبي لاتّساخ جبة صلاتك الطاهرة بكل هذه الزيوت وبقايا الشاي والقهوة والحلبة اللعينة التي تحبها أمي بقدر كراهيتها للذكريات والروائح القديمة.. مازلتُ مكسورة الخاطر يا أبي لكن أمي أيضا موجوعة وقلبها كان صغيرا عجز عن تحمل غيابك ، وعجز عن قهر الاسلاف والحموات لن يحتمل كل هذا البكاء ..
مات أبي وما يؤلمني أني لم أرسمه بالألوان ، أبي علمني الألوان قبل الحروف علمني أن اللون الأسود الذي اكتوت به أصابعي هو سيّد الألوان ، وعلمني أن الحزن أنِيقٌ.

زينة المدوري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى